في ظل أجواء الحرب التجارية وحالة عدم الاستقرار الكبيرة في السوق، يهرع المستثمرون القلقون إلى الشيء الذي لطالما اعتُبر أكثر الاستثمارات أمانًا وهو الدولار والأصول المقوّمة به، مثل ديون الحكومة الأمريكية وهذا يدفع قيمة الدولار إلى الارتفاع وسعر الفائدة على الديون إلى الانخفاض، لكن الأمر اللافت أن فوضى السوق أدت لانخفاض الدولار مقابل العملات الأخرى، وارتفاع أسعار الفائدة على الديون الأمريكية مما يشير إلى احتمال تراجع الثقة في استقرار الدولار والنظرة إليه كعملة احتياطية عالمية آمنة، وإتاحة فرصة نادرة للاتحاد الأوروبي لسحب جزء من مكانة الدولار أو كلها، وهو أمر يتطلب التخلص نهائيًا من الحساسية الأوروبية التقليدية تجاه الديون وطباعة النقود.
وفي هذا الإطار، نشر موقع “ذا كونفرزيشن” الأسترالي مقالًا لسيرجي باسكو أستاذ مشارك في الاقتصاد، بجامعة برشلونة، نستعرضه على النحو التالي:
- عملة الاحتياطي العالمي
تعرف عملة الاحتياطي العالمي بأنها العملة التي تحتفظ بها البنوك المركزية الأجنبية على نطاق واسع. ومنذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944، احتل الدولار الأمريكي هذا المركز، ولا يزال قائمًا، فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي أواخر العام الماضي، شكل الدولار 54% من الاحتياطيات الرسمية العالمية، بينما جاء اليورو في المرتبة الثانية بفارق كبير بنسبة 19%.
تاريخيًا، كان مفهوم المال يعتمد على الأصول القيّمة، لكن لم يعد هذا هو الحال حاليًا، حيث تستخدم اليوم النقود الورقية وهي في الأساس أوراق تحمل ختم سلطة قانونية. ومع ذلك، لا شيء يمنع الناس من استخدام سلع أخرى كعملة ومن الأمثلة المعروفة على ذلك ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، عندما استُخدمت السجائر على نطاق واسع كنقود في معسكرات الأسرى.
ويعني هذا أن المال هو أي أصل يمكن استخدامه كمخزن للقيمة، ووسيط للتبادل، ومقياس للعدد، لكن قيمته تعتمد في المقام الأول على مدى الثقة باحترام الآخرين له، فالطابع الرسمي على الورقة النقدية لا يضمن استخدامها في المعاملات، ولهذا السبب تفقد النقود قيمتها في الدول التي تعاني من تضخم جامح.
ونظرًا لانتشار استخدام الدولار وقبوله على نطاق واسع، يُفضل الكثيرون – من مستثمرين وعامة الناس على حد سواء – الاحتفاظ بأموالهم بالدولار. وسيستمر هذا الوضع طالما اعتبر الناس الدولار الخيار الأكثر أمانًا.
- الامتياز الباهظ للدولار
تكمن الميزة الرئيسية لامتلاك عملة احتياطية عالمية في أن المستثمرين يعتبرون العملة المحلية للدولة آمنة، مما يدفعهم أيضًا إلى اعتبار الديون الحكومية آمنة. وهذا يعني أن تكاليف اقتراض الحكومة تنخفض، مما يسمح لها بإنفاق المزيد وتغطية رصيد أكبر من الديون مقارنةً بالدول الأخرى. وبحكم طبيعتها، تزداد قيمة عملة الاحتياطي العالمية أيضًا مما يخلق حلقة مفرغة فالأشخاص يريدون الدولار الأمريكي، بغض النظر عن نيتهم لشراء السلع الأمريكية، وهذا يزيد من قيمة الدولار، مما يجعل الأشخاص يرغبون في المزيد منه.
ويعني ذلك أن السلع والخدمات الأجنبية (مثل السياحة إلى أوروبا) أصبحت أيضًا أرخص للمواطنين الأمريكيين، ولكن في المقابل، تصبح الصادرات الأمريكية أكثر تكلفة على الجميع. وعلى هذا النحو، صاغ الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان حينما كان يشغل منصب وزير المالية في ستينيات القرن الماضي، مصطلح “الامتياز الباهظ” الشهير لوصف هذا الخلل.
- تغيير الأعراف الاجتماعية
إن التغيير الواسع النطاق ليس بالأمر الهيّن، لنأخذ مثالًا شائعُا، انظر إلى لوحة مفاتيح الحاسب الألى، حيث يستخدم كل متحدث للغة الإنجليزية تقريبًا لوحة مفاتيح تبدأ بحرف QWERTY، مع أن هذا المزيج من الأحرف نشأ بالصدفة، إلا أن تغيير لوحات مفاتيح العالم في هذه المرحلة الزمنية سيكون مكلفًا وصعبًا للغاية، مع أنه قد يؤدي إلى نظام أسهل استخدامًا.
وتنطبق قوة العادة نفسها على العملات، لكن الدولار الأمريكي لم يكن دائمًا العملة المفضلة، فحتى خمسينيات القرن الماضي، كان الجنيه الإسترليني هو العملة الرئيسية، إلا أن وضع الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد بين قوى الحلفاء هو ما جعل الدولار الاحتياطي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع تراجع الثقة العالمية بالدولار، يتساءل الكثيرون عما إذا كنا سنشهد تحولًا مماثلًا نحو اليورو، أو ربما عملة أخرى. ومما لا شك فيه أن السياسة الأمريكية تُسرّع هذا التغيير.
فلشراء سندات الحكومة الأمريكية والأسهم الأمريكية، يحتاج المستثمرون إلى الدولار، إلا أن جميع هذه المعاملات تنطوي على عجز في الحساب الجاري الأمريكي، وهو ما تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى معالجته.
لكن حالة عدم اليقين الحالية بشأن السياسة التجارية الأمريكية لا تزيد من جاذبية الأصول الأمريكية، كما يتضح من الاضطرابات في سوق سندات الحكومة الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك تسري شائعة مفادها أن الحكومة الأمريكية قد تتخلف عن السداد بتحويل ديونها قصيرة الأجل إلى ديون طويلة الأجل.
وفي ذات السياق أظهرت الأشهر القليلة الماضية للمستثمرين أن ضوابط وتوازنات الدستور الأمريكي ليست قوية كما كان يُعتقد سابقًا، وأن الرئيس يتمتع بسلطة شبه مطلقة في بعض المجالات. كما أن كون آخر قرار اتخذه جو بايدن كرئيس للولايات المتحدة هو العفو عن عائلته والأهداف السياسية المحتملة لم يُسهم في تعزيز الثقة في الحوكمة الأمريكية.
واقعيًا، سيحتاج استخدام اليورو عالميًا إلى أن يزداد بشكل كبير ليتمكن من استبدال الدولار في أي وقت قريب، لكن هذا الاحتمال يبدو الآن أكثر ترجيحًا مما كان عليه قبل ثلاثة أشهر.