تُعد نظرية دوامة الصمت من أبرز النظريات التي ساهمت في تفسير السلوك الجماهيري والطرق التي يمكن أن تؤدي بها تصورات الرأي العام إلى تغيرات في سلوكيات التعبير عن الرأي الفردي في المجتمع، حيث ترى النظرية أن خوف الأفراد من العزلة الاجتماعية يدفعهم إلى التراجع عن إبداء آرائهم، واتخاذ موقف الصمت؛ تجنبًا لاضطهاد الجماعة، فيتم إسكات أفكار الأقلية في الخطاب العام.
وقد تم تقديم النظرية في سبعينيات القرن الماضي من منظور وسائل الإعلام التقليدية، التي كانت تقوم على عملية اتصالية أحادية الاتجاه، عبر قنوات إعلامية محدودة، تقتصر في الغالب على الصحف والإذاعة والتلفزيون، حيث منحت النظرية سلطة كبيرة لتأثيرات وسائل الإعلام التقليدية وقوتها في تشكيل الرأي العام، وبناء تصوراته حول مختلف القضايا؛ وفقًا للمصالح المهيمنة، في حين يبقى الجمهور بعيدًا عن المناقشات يتطلع لمعرفة الرأي العام المسيطر قصد كسب التأييد.
وقد حظيت نظرية دوامة الصمت باهتمام متجدد في ظل اتجاه الأفراد نحو وسائل الإعلام الجديدة، وبرز تشكيك الباحثين في إمكانية تطبيق دوامة الصمت في الفضاء الافتراضي، مع وجود اعتقاد بأن النظرية لم يعد لها حضور في بيئة الإعلام الجديد، وغير قابلة للتطبيق على أنشطة الاتصال في الفضاء الرقمي.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة الإعلام والمجتمع، في عددها الصادر في يونيو 2023، دراسة بعنوان “مراجعة نظرية دوامة الصمت في سياق الفضاء الافتراضي”، من إعداد العبدي خيرة الباحث بجامعة وهران1 أحمد بن بلة في الجزائر، حيث نستعرضها على النحو التالي:
- افتراضات نظرية دوامة الصمت
ترتكز نظرية دوامة الصمت على مجموعة من الافتراضات، تتمثل في الآتي:
- يهدد الخوف من العزلة الاجتماعية الأفراد، مما يجعلهم يتحفظون عن إبداء آرائهم ولا يعلنون عنها، لا سيما إذا أدركوا أن هذه الآراء لا تحظى بتأييد الآخرين، وعلى العكس من ذلك، فإن أولئك الذين يشعرون أن آراءهم ستلقى استحسانًا، يرغبون في التعبير عنها من دون خوف.
- إن حاجة الأفراد إلى الانتماء تتفوق على إرادتهم ورغبتهم في التعبير عن آرائهم الحرة والمستقلة.
- يقوم كل فرد بمراقبة البيئة الاجتماعية وسلوكيات الآخرين، وعمل استطلاعات سريعة لمعرفة مدى التأييد أو المعارضة للرأي الذي يتبناه تجاه موضوع أو قضية ما.
- شعور الفرد بالانتماء إلى الأغلبية، يجعله أكثر ميلًا لإبداء وجهات نظره، والمشاركة بآرائه.
- يميل الفرد إلى التخاطب مع من يتفقون معه في الآراء أكثر من الذين يختلفون معه.
- الشعور بتقدير الذات يحث الفرد على إبداء رأيه.
- تعد وسائل الإعلام من المصادر الرئيسية لنشر المعلومات، ونقل مناخ التأييد أو المعارضة.
- تميل وسائل الإعلام إلى التحيز في عرض الآراء، مما يؤدي إلى تشويه وتزييف الرأي العام.
- يدرك بعض الأفراد أنهم مختلفون وغير مسايرين لرأي الأغلبية، مما يجعلهم يغيرون آراءهم لتتناسق مع وسائل الإعلام، أو يؤثرون الصمت تجنبًا للضغوط الاجتماعية.
وقد قوبلت مقولات تلك النظرية بانتقادات من أبرزها:
- لا يرجع صمت الأفراد بالضرورة إلى الخوف من العزلة الاجتماعية، إنما قد يعود إلى عدم الإلمام بالقضية المطروحة للنقاش.
- وسائل الإعلام لا تعبر بالضرورة عن رأي الأغلبية، بل تعكس أحيانًا رأي الأغلبية المزيفة التي تروج لها.
- من الصعب تفسير عملية تكوين الرأي العام، لأنه متغير ومتقلب، كما أنه لا يمكن إدراكه بمعزل عن دور المعلومات التي يحصل عليها الفرد من البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة، وخاصة في القضايا المهمة التي تتصل بمصائر الشعوب.
- لم تأخذ نظرية دوامة الصمت في الاعتبار الجوانب الاجتماعية والثقافية والتقاليد الموجودة في المجتمعات.
- قد ينظر إلى رأي الأقلية في الواقع على أنه أغلبية في المجال العام، إذا تصرف أنصارها بحزم كافٍ ودافعوا علنًا عن رأيهم.
- مدى ملاءمة النظرية للإعلام الجديد
يرى الكثير من الباحثين أن دوامة الصمت غير ملائمة للواقع التقني الجديد، وما يتيحه من فرص لتبادل الآراء والأفكار والانفتاح على المعتقدات والأيديولوجيات المتنوعة، حيث تضعف وتتراجع دوامة الصمت في سياقات الاتصال عبر الشبكة، لأن الأخيرة تؤدي إلى مزيد من التداول عن طريق تحرير الناس من الحواجز النفسية وشعورهم بالراحة في حالة عدم الكشف عن الهوية الحقيقية، فهنا ينخفض عامل الخوف من العزلة، ويكون الأفراد عبر الإنترنت أكثر قدرة على التعبير عن آرائهم، مما يقلل من تأثير دوامة الصمت على الشبكة.
وبذلك يتحدى السياق الشبكي الافتراضات الرئيسية للنظرية، ففي الفضاء الافتراضي قد تكون بعض المتغيرات الرئيسية لدوامة الصمت ذات أهمية أقل، لا سيما الخوف من العزلة الاجتماعية؛ لأن الأفراد يمثلون في الواقع جمهورًا مجهولًا.
كما استعرضت الدراسة مجموعة من السمات المتعلقة بالتواصل الشبكي، التي تحفز الفرد في التعبير عن رأيه، وتضعف من دوامة الصمت، وقد تمثلت في إنشاء أو الانضمام إلى مجموعات افتراضية متوافقة، وعدم الكشف عن الهوية، وغياب الحضور المادي والاتصال المباشر.
ووجدت الدراسة أن دوامة الصمت تقدم أطروحتين متناقضتين فيما يتعلق بتطبيقها ضمن سياق الفضاء الافتراضي، تتعلق الأطروحة الأولى بتمكين سمات التواصل الشبكي من تقليص حضور النظرية من خلال تحفيز الأفراد على التعبير عن آرائهم وأفكارهم، فلم تعد مشاركات الأفراد غير مسموعة، حتى وإن كانوا يمثلون الأقلية، كما أنهم مستعدون للتحدث بصراحة وبحرية أكبر من خلال إنشاء مجموعات افتراضية لها نفس الاهتمامات والتفاعل الذي يخلو من القيود المفروضة على السلوك المعادي نتيجة التواصل بهويات مزيفة ومجهولة، وغياب الوجود المادي للشخص والتواصل وجهًا لوجه.
في المقابل، تبرز الأطروحة الثانية ظهور دوامة الصمت في سياق الفضاء الافتراضي، بفعل عوامل سياسية واجتماعية ونفسية وسلوكية، تقيد حرية الفرد في التعبير عن رأيه، حيث يتم تفعيل الرقابة الذاتية وتقييم مناخ الرأي العام عبر الشبكة خوفًا من العزلة الاجتماعية.
- توصية الدراسة
وقد أوصت الدراسة عند تطبيق نظرية دوامة الصمت بضرورة تحديد الشكل الذي تبدو عليه المشاركة بالضبط في بيئة الإنترنت، هل هي مشاركة منشورات وتعليقات أم ردود على تعليق أو منشور؟ وهل يتم الإعجاب بمنشور من خلال تعليق نصي أو باستخدام الرموز التعبيرية الأخرى؟ إضافة إلى ضرورة تحديد سياق المشاركات ودرجة المساواة الرقمية بين المشاركين، ومدى استخدامهم لهويتهم الحقيقية، وتحديد الموضوعات والقضايا التي تدفع الفرد إلى الانخراط في السجال العمومي، والتعبير صراحة عن آرائه والمواضيع التي تميل إلى جعله يتخذ موقف الصمت تجاهها.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن تحديد ملاءمة نظرية دوامة الصمت للفضاء الافتراضي يتطلب مزيدًا من التحقيق والدراسات التطبيقية التي تعتمد على عينة ميدانية للكشف عن السلوك التعبيري، ومدى الانسحاب عن إبداء الرأي، ودرجة الخوف من العزلة.