أوجد الاندماج بين التطور التكنولوجي والثورة المعلوماتية خلال العقدين الماضيين بيئة رقمية معقدة متعددة الثقافات فرضت وجودها كبيئة تفاعل وتواصل وعمل وغيرها من أوجه النشاط الإنساني، فالفرد في عصرنا الحالي أصبح يعيش في بيئتين مختلفتين هما البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها جسديًا، والبيئة الرقمية التي يتواصل فيها أو يعمل من خلالها أو يمارس نشاطًا إنسانيًّا آخر عبرها، وتتسم هذه البيئة الرقمية الجديدة بخصوصيتها من حيث القيم السائدة فيها المستمدة من خصوصية تكنولوجيا الاتصال في حد ذاتها، والمبنية على أساس الحرية الكبيرة، وكذلك إمكانية المجهولية، وتعدد الثقافات وبالتالي تعدد القيم المستمدة من هذه الثقافات، وهو ما يفرض على الفرد قيمًا جديدة قد تختلف مع قيمه الأصلية المستمدة من مجتمعه عن طريق التنشئة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة الرسالة للدراسات الإعلامية في عددها الصادر في نوفمبر 2023 دراسة بعنوان “السلوك الاتصالي للفرد بين البيئة الاجتماعية والبيئة الرقمية.. إشكالية البعد القيمي الثقافي”، من إعداد عبد الوهاب بوبعة من جامعة محمد الصديق بن يحيى، نستعرضها على النحو التالي:
- سمات وملامح البيئة الرقمية
استعرضت الدراسة مجموعة من السمات التي تتسم بها البيئة الرقمية وتمثلت في التباعدية الزمانية والمكانية أي الانفصال بين الزمان والمكان اللذين كانا مترابطين في المجتمعات التقليدية. بالإضافة إلى الانفتاح وتخليص العلاقات الاجتماعية من طوق بيئات التفاعل المحلية، وكذلك حرية المناقشة والتعبير فلدى الإنترنت نزعة وميول ديمقراطية قوية.
ومن بين السمات أيضًا تجاوز الحدود الثقافية والشعور بالانتماء القوي لثقافة مجتمع الإنترنت، فضلًا عن الأحاسيس المختزلة، حيث يتم تغييب الانفعالات التي نلحظها على الوجوه وجميع مفردات لغة الجسد، وكذلك التواصل النصي والاتصال السريع والاستغراق في عملية الاتصال.
- السلوك بين البيئة الاجتماعية الثقافية والبيئة الرقمية الجديدة
سلطت الدراسة الضوء على معايير السلوك المتوقعة في السياقات الرقمية، فعند مقارنة معايير السلوك في الحياة الطبيعية بمثيلاتها في البيئة الرقمية نجد أن هناك اختلافات بينها، فالمعايير التي تحكم السلوك الطبيعي معايير طويلة المدى، في حين أن السلوك بالعالم الرقمي يغلب عليه طابع التغير السريع والجذري الذي يجب أن يجاريه كل فرد.
وبينما ينطوي العالم الطبيعي على معرفة الأفراد وأدوارهم وبيئاتهم، والتي تكون محكومة بعدد من الفضائل، فإن للبيئة الرقمية سياقها الأوسع والأكبر، فعند نشر شيء ما على شبكة الإنترنت، يجب أن نضع في الاعتبار أننا نتعامل مع جمهور عريض من خلفيات وثقافات مختلفة، وهنا يكون دور الأخلاق بارزًا.
ويمكن القول إن سلوك الأفراد في البيئة الرقمية أصبح يتشكل في فضاءات اجتماعية وثقافية تتوافر في ظل بيئة معلوماتية مستحدثة، فليس ثمة شك حول حجم وتأثير ما أحدثته تقنية المعلومات من نقلة واسعة في الوسط البيئي التفاعلي بين الإنسان والحاسوب من جهة، وبينه وبين مستخدم آخر يتواصل معه من خلال الفضاء المعلوماتي من جهة أخرى، كذلك فقد أسهمت البيئة المعلوماتية في توافر أرضية خصبة لإنشاء مجموعة من الفضاءات التخيلية التي تجمعنا مع الآخر في أنساق تواصل متنوعة باتت تشكل موردًا جديدًا لحوار رقمي بين الثقافات.
وبالرغم من أن شبكة الإنترنت ليست مجتمعًا مستقلًا، فإنها بنية فوقية مجتمعية تمتد فيها الكثير من الخطوط العامة التي تميز المجتمعات السائدة، وتعتمد عليها لاستمرار وجودها، وبينما ترث الكثير من العناصر الثقافية من المجتمعات التي تمتد عبرها، فإنها تملك ثقافة خاصة ومميزة، فمعظم ثقافة الإنترنت مأخوذة من هذه الثقافات السائدة، لكن هناك الكثير أيضًا من تلك العناصر حدث لها تكيف ثقافي مع البيئة الجديدة وهي الإنترنت.
وينظر الكثيرون لثقافة الإنترنت المستمدة أصلًا من ثقافة منشئيها على أنها تعكس الثقافة الغربية الطاغية حاليًا وفق مبدأ طغيان ثقافة الأمة السائدة والمزدهرة في العالم، وتبعية الثقافات الأخرى لها، فالثقافة التي تمتلك وسائل اتصال قوية يمكنها أن تهيمن على الثقافات الأخرى فتعمل على خلق قيم وسلوك تروج لها وتصدرها على أنها النموذج الأمثل في الحياة الاجتماعية اليومية، والتي قد تتقاطع مع منظومة القيم لتفرز تداعيات ومشكلات اجتماعية داخل وخارج الأسرة، التي قد تؤدي إلى المقارنة بين الثقافات لتفرز التنافر المعرفي، وبالتالي ستحدث عملية صراع بين الأفكار التي يتعرض لها الفرد ومعتقداته عن الواقع الذي يعيش فيه. وقد تكون التقنيات وسيلة هدم وبناء للإنسان من خلال ترسيخ القيم أو هدمها في الوقت ذاته إذا ما أساء توظيفها.
- إشكاليات قيمية ثقافية في البيئة الرقمية
استعرضت الدراسة 7 إشكاليات يواجهها الفرد نابعة من البيئة الرقمية:
- إشكالية الهوية المعلوماتية: توفر شبكة الإنترنت بيئة خصبة لممارسات متباينة تشمل تغييب الهوية أو تزييفها بأساليب مختلفة ودون وجود أي نوع من الرقابة القانونية أو الاجتماعية على هذا الفضاء.
- إشكالية الشر المعلوماتي (الجريمة المعلوماتية): هو سلوك غير قانوني، يتم عن طريق أجهزة إلكترونية ينتج عنها أضرار بالغة إما مادية أو معنوية للضحية، وحصول المجرم بها على فوائد مادية ومعنوية أو كلاهما، ويتم ذلك بهدف القرصنة من أجل السرقة أو إتلاف المعلومات، وتفرز هذه المسألة موضوع الشر المعلوماتي بوصفه إفرازًا جديدًا للبيئة الرقمية التي استحدثت في ظل تقنيات المعلومات الجديدة، وطبيعة الخيوط التي تربطه بالسلوك الإنساني.
- إشكالية الخصوصية: لقد أصبحت البيانات الشخصية والدقيقة متاحة ومكشوفة، بل إن حياة الأشخاص أصبحت موثقة عبر حساباتهم على الشبكات الاجتماعية، وأصبحت شركات الشبكات الاجتماعية تمتلك قواعد بيانات كاملة عن أدق تفاصيل حياة مشتركيها.
- مستويات جديدة من الحرية: في هذه البيئة إمكانية الإبحار داخل فضاءاتها بمستويات جديدة من الحرية، حيث يساهم الواقع الرقمي في إرساء حدود جديدة، فالأنماط الجديدة التي أفرزها الفضاء المعلوماتي والتي تتمثل بالتفاعل الدائم مع الفضاء المعلوماتي والإقامة في أرضه الجديدة باتت تحتم إعادة تشكيل مفاهيمنا عن المكان والزمان عبر رؤية معاصرة تحاول التحرر من المفاهيم التقليدية، لكي ننجح في وصف العلاقات الداخلية التي تقيم على التخوم الفاصلة بين العالم الفيزيائي والواقع الافتراضي الرقمي.
- إشكالية تحيز المكان: تعمل هذه الوسائل على تكوين أنماط من الصور المكانية الجزئية (المتحيزة) من الخارج أو بعيدًا عن المكان الذي ينتمي إليه الفرد، فتُدخل عليه مكانًا رمزيًا مغايرًا أو مختلفا عن مكانه المعايش، لكنه يصير مألوفا مع كثرة التعرض لها، مما يؤدي إلى نوع من الاغتراب عن المكان المعايش، يقابله شكل من التعلق بالمكان المألوف، فيصبح المكان الرمزي هو المكان الحقيقي المعياري.
- المبالغة في الصداقات: جميع الأشخاص الذين يتم التعرف عليهم عبر مواقع التواصل يتم إضافتهم كأصدقاء وهو لقب غير دقيق لأن الصداقة تتشكل مع الزمن وليس فورًا.
- إشكالية القيم والثقافة: التغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة جعلت الإنسان يعيش صدمة ثقافية قيمية بالغة الخطورة والأهمية، وهي التغيرات التي تضع الشباب في مواجهة قيم جديدة غير مألوفة يتوجب عليه أن يتمثلها، مما يعرض الشخصية لموجة متضاربة من القيم تؤدي إلى انهيار الشخصية وانفصام اجتماعي.
وختامًا، يمكن القول بأن اختلاف السلوك الاتصالي للفرد بين البيئة الاجتماعية والبيئة الرقمية يعود إلى اختلاف في القيم الاجتماعية والثقافية، وكذلك اختلاف في مهارات الاتصال؛ نظرًا لأن كل بيئة تتطلب مهارات تواصل مختلفة.