في التاسع عشر من يناير الجاري، وصلت الولايات المتحدة إلى الحد القانوني للاقتراض الذي يقدر بـ 31.4 تريليون دولار ويعرف بـ “سقف الدين- Debt Ceiling”، وذلك وسط حالة من التجاذبات السياسية بين إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن والكونجرس حول رفع هذا السقف مع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب عقب انتخابات التجديد النصفي التي جرت في نوفمبر الماضي، ما يُنذر بمعركة شاقة لتخطي تلك الأزمة، ومخاوف وتحذيرات من انعكاسات كارثية ليس فقط على الاقتصاد الأمريكي بل تتخطاه إلى الأسواق الدولية، في وقت لم يتعاف فيه العالم بعد من وقع صدمات كبرى ضربت الاقتصاد العالمي خلال آخر 3 سنوات تمثلت في أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد والحرب الروسية الأوكرانية التي ما زالت تدور رحاها دون آفاق للتسوية.
- نشأة وتطور سقف الدين في الولايات المتحدة
أقر الكونجرس الأمريكي في عام 1917، حداً أقصى لمبلغ الديون الفيدرالية المستحقة التي يمكن أن تتحملها الحكومة، وهو ما عرف بـ”سقف الدين”، ويمثل هذا المبلغ الاقتراض الذي تتعهد به وزارة الخزانة لتمويل التزاماتها المالية، والتي تتراوح من مزايا شبكة الأمان مثل مدفوعات الضمان الاجتماعي إلى الفوائد على الدين الوطني. ويصبح رفع سقف الدين إجراءً ضروريًا عندما تحتاج الحكومة إلى اقتراض أموال لسداد ديونها.
ووفقًا لتقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (مركز بحثي مقره واشنطن)، كان رفع السقف على مدار القرن الماضي إجراءً روتينيًا للكونجرس، فكلما لم يعد بإمكان وزارة الخزانة سداد مدفوعات السندات الحكومية، كان الكونجرس يتصرف بسرعة وأحيانًا بالإجماع لزيادة الحد الأقصى لما يمكن أن يقترضه.
وقد قام الكونجرس منذ عام 1960، برفع سقف الدين 78 مرة، وتم تنفيذ 49 من هذه الزيادات في عهد رؤساء جمهوريين، مقابل 29 تحت رئاسة ديمقراطية، وفقا لشبكة “سي.بي.إس” الإخبارية الأمريكية.
وكانت آخر مرة تم فيها رفع سقف الدين في ديسمبر 2021، حين أقر الكونجرس زيادة بمقدار 2.5 تريليون دولار ليصبح سقف الدين 31.4 تريليون دولار، وحينها كان الديمقراطيون يسيطرون على كل من مجلسي النواب والشيوخ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بمقدور الكونجرس تعليق سقف الدين، أو السماح مؤقتًا لوزارة الخزانة بإلغاء سقف الدين، بدلاً من رفعه بمقدار معين. وفي حين أن ذلك كان إجراءً نادرًا خلال التسعين عامًا الأولى من وضع هذا السقف، إلا أنه جرى تعليق سقف الدين 7 مرات منذ عام 2013.
- تداعيات تجاوز سقف الدين على الاقتصاد الأمريكي
دفع الجدل حول سقف الدين، خبراء اقتصاديين إلى النظر في احتمال لم يكن من الممكن تصوره في السابق بشأن تخلف واشنطن عن سداد ديونها، محذرين من أن ذلك الأمر يُنذر بفوضى في الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية.
وحتى في حالة عدم التخلف عن السداد، فإن بلوغ سقف الدين- وهو ما تحقق حاليًا- من شأنه أن يعيق قدرة الحكومة على تمويل عملياتها، بما في ذلك توفير التمويل لمهام الدفاع الوطني والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي، بحسب مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
وتشمل التداعيات المحتملة أيضًا خفض التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني الدولية، وزيادة تكاليف الاقتراض للأفراد والشركات، وانخفاض ثقة المستهلك الذي قد يصدم السوق المالية الأمريكية ويدفع الاقتصاد إلى الركود. وقدر خبراء اقتصاديون في بنك جولدمان ساكس أن تجاوز سقف الدين من شأنه أن يوقف على الفور حوالي عُشر النشاط الاقتصادي الأمريكي.
ويقدر مركز أبحاث الطريق الثالث (يسار الوسط)، أن تجاوز السقف الذي يؤدي إلى التخلف عن السداد يمكن أن يتسبب في خسارة 3 ملايين وظيفة، وإضافة 130 ألف دولار إلى تكلفة متوسط الرهن العقاري لمدة 30 عامًا، ورفع أسعار الفائدة بما يكفي لزيادة الدين العام بمقدار 850 مليار دولار.
كما يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال دافعي الضرائب في المستقبل بعيدًا عن الاستثمارات الفيدرالية التي تشتد الحاجة إليها في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
وفي ظل تلك التداعيات الكارثية المحتملة، تمثل المفاوضات الراهنة حول سقف الدين الفيدرالي أكبر تحد أمام الكونجرس الجديد المنقسم- يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب بينما يتمتع الديمقراطيون بالأغلبية فى مجلس الشيوخ-، الأمر الذي دفع وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى التحذير في مذكرة قدمتها إلى رئيس مجلس النواب (الجمهوري) كيفين مكارثي، وزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر وقادة آخرين في الكونجرس في 13 يناير الجاري من أن الفشل في الوفاء بالتزامات الحكومة من شأنه التسبب في ضرر لا يمكن إصلاحه للاقتصاد الأمريكي وحياة الأمريكيين والاستقرار المالي العالمي.
وكان مكارثي قد ربط رفع سقف الدين بتخفيضات الإنفاق، مما أثار قلق المدافعين عن برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية من محاولة المشرعين تعديل تلك البرامج، بحسب شبكة “سي.إن.بي.سي” الاقتصادية الأمريكية.
- التأثيرات المحتملة على الأسواق العالمية
يرى الخبراء أن تخلف الولايات المتحدة عن السداد قد يعيث فسادًا في الأسواق المالية العالمية، حيث عززت الجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأمريكية الطلب على الدولار منذ فترة طويلة، مما ساهم في قيمتها ومكانتها كعملة احتياطية في العالم، لذا قد يؤدي أي ضرر للثقة في الاقتصاد الأمريكي، سواء بسبب التخلف عن السداد أو عدم اليقين المحيط به، إلى قيام المستثمرين ببيع سندات الخزانة الأمريكية، وبالتالي تراجع قيمة الدولار.
ونظرا لكون أكثر من نصف احتياطيات العملات الأجنبية في العالم بالدولار الأمريكي، فإن الانخفاض المفاجئ في قيمة العملة سيؤدي لانخفاض مماثل في قيمة هذه الاحتياطيات. وفي وقت تكافح فيه البلدان المنخفضة الدخل المثقلة بالديون لسداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية، يمكن أن يؤدي تراجع الدولار إلى جعل الديون المقومة بعملات أخرى أكثر تكلفة نسبيًا، ويهدد بدفع بعض الاقتصادات الناشئة إلى أزمات ديون، وفقًا لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
في المقابل، يمكن أن يستفيد العديد من المصدرين الأمريكيين من انخفاض قيمة الدولار لأنه سيزيد الطلب الأجنبي على سلعهم عن طريق جعلها أرخص بشكل فعال. ومع ذلك، فإن نفس الشركات ستتحمل أيضًا تكاليف اقتراض أعلى من ارتفاع أسعار الفائدة.
ويمكن أن يفيد عدم استقرار الدولار أيضًا منافسين طموحين من القوى العظمى مثل الصين. وعلى الرغم من أن بكين سعت منذ فترة طويلة إلى وضع اليوان ” الرنمينبي” ضمن سلة الاحتياطي النقدي العالمي، فإنه يمثل أقل من 3% من الاحتياطيات الأجنبية المخصصة في العالم.
- خيارات أمام إدارة بايدن إذا لم يرفع سقف الدين
ويشير تقرير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي إلى أنه إذا لم تتوصل المفاوضات في الكونجرس بشأن رفع سقف الدين إلى نتيجة، يمكن لإدارة بايدن تجنب التخلف عن السداد لعدة أشهر عبر اتخاذ وزارة الخزانة سلسلة من الإجراءات المؤقتة التي تسمى بـ “الإجراءات الاستثنائية” وتشمل تعليق المدفوعات لبعض برامج ادخار الموظفين الحكوميين، وقلة الاستثمار في بعض الصناديق الحكومية، وتأخير طروحات الأوراق المالية.
وسبق أن استخدمت الوزارة هذه الإجراءات في عامي 2011 و2013، علما بأن الكونجرس لم يفشل أبدًا في رفع السقف قبل استنفاد تلك الإجراءات.
وإذا لم يتخذ الكونجرس إجراءات لرفع سقف الدين على الرغم من اتخاذ هذه الإجراءات الطارئة، فسيتعين إما اللجوء إلى خفض الإنفاق الفيدرالي أو رفع الضرائب بشكل كبير، أو المزج بين هذين الخيارين.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن أزمة سقف الدين الأمريكي ليست بالشيء المستحدث، ولكنها انعكاس لآلية يمارس من خلالها الكونجرس كجهة تشريعية سلطته في ضبط السياسة المالية للحكومة الأمريكية، وعلى الدوام يتم تسوية تلك الأزمة من خلال حلول توافقية ومواءمات سياسية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وإن طال مسار التفاوض بعض الشيء نتيجة حالة الاستقطاب والتجاذب. وأخيرًا، تعد أزمة سقف الدين الأمريكي أحد إفرازات النظام السياسي الأمريكي والتشابكات بين مؤسساته، وحلها سياسي في المقام الأول وإن اتخذت القضية صبغة اقتصادية.