بعد نحو عام من الجمود السياسي والفراغ الحكومي وأزمة اقتصادية غير مسبوقة، وقع الرئيس اللبناني ميشال عون مع رئيس الحكومة المُكلف نجيب ميقاتي مرسومًا بتشكيل حكومة جديدة تتألف من 22 وزيرًا ونائب رئيس الوزراء معظمهم حديث العهد بالعمل الوزاري، ولا ينتمي إلى أي تيار سياسي علنًا، لكن تمت تسميتهم من أحزاب وقادة سياسيين بارزين ما يشير إلى تأثيرهم عليهم.
وقوبل إعلان ميلاد الحكومة بترحيب عربي ودولي بالغ، وسط آمال في أن تسارع لاتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح الأوضاع الاقتصادية واستعادة الاستقرار المفقود منذ اندلاع الاحتجاجات في البلاد في أكتوبر عام 2019، والتي شكلت جرس إنذار للنخبة السياسية من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية تفاقمت على مدى العامين الماضيين، وبلغت ذروتها في الانفجار الكارثي الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020.
ويمثل نجاح نجيب ميقاتي في إنجاز تشكيل الحكومة بعد 46 يومًا من تكليفه بالمهمة التي سبق وأن اعتذر عنها كل من السفير مصطفى أديب بعد 3 أشهر من تكليفه ورئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري بعد 9 أشهر من تكليفه، مؤشرًا على مرونة نسبية أبدتها القوى والأحزاب السياسية التي سبق وأن عطلت جهود تشكيل الحكومة، كما أنه لا يمكن قراءة ما حدث بمعزل عن ضغط الشارع اللبناني، والتحولات في السياسات الإقليمية والضغوط الدولية على الساسة اللبنانيين.
تشكيلة حكومية تكرس المحاصصة الطائفية
كان الإصرار على الاحتفاظ بما يسمى بـ”الثلث المعطل” في مجلس الوزراء هو النقطة الشائكة الرئيسية في المحاولات السابقة لتشكيل الحكومة، حيث تمسك جبران باسيل صهر عون ورئيس التيار الوطني الحر والمتحالف مع حزب الله على الاحتفاظ بثلث المناصب الوزارية، وهو ما يمكن باسيل من استخدام حق النقض ضد قرارات الحكومة والتهديد بإسقاطها كوسيلة لتعزيز طموحاته السياسية، لكن واقع تشكيل حكومة ميقاتي يشير إلى أن باسيل لم يحقق ما أراد، لأن اثنين من الوزراء المسيحيين مستقلان غير متحالفين مع باسيل أو حلفائه، وربما يكون الضغط الذي مارسه حزب الله وإيران أقنعه بالتخلي عن هذا المطلب، لا سيما وأن أزمات لبنان بدأت تؤذي حتى قاعدة حزب الله.
وضمت الحكومة شخصيات تتولى مناصب وزارية للمرة الأولى ومن خارج الوسط السياسي وإن كانت جميعها سُميت من قبل الفرقاء السياسيين وكرست المحاصصة الطائفية المعتادة، بشكل يعكس الحاجة الماسة إلى غطاء سياسي واسع كي تتمكن الحكومة من اتخاذ عدد من القرارات المصيرية.
وقد حصل التيار الوطني الحر الذي يرأسه جبران باسيل صهر عون على حصة تتكون من 6 وزارات هي الخارجية، والشؤون الاجتماعية، والطاقة والمياه، والسياحة، والعدل، والدفاع. أما حصة الكتلة السنية برئاسة ميقاتي فتمثلت في 4 حقائب وزارية وهي الداخلية والاقتصاد والصحة والبيئة.
وبالنسبة للثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) فقد حصلا على 5 وزارات كالتالي وزارتا الأشغال والعمل لحزب الله، ووزارات المالية والزراعة والثقافة من نصيب حركة أمل.
كما حصل “تيار المردة” برئاسة سليمان فرنجية على حقيبتي الإعلام والاتصالات، وتمثلت حصة الحزب السوري القومي الاجتماعي في منصب نائب رئيس الحكومة.
وتوزعت حصة الدروز بين كل من “الحزب التقدمي الاشتراكي” الذي حصل على وزارة التربية، والحزب الديمقراطي اللبناني برئاسة النائب طلال أرسلان الذي كان من نصيبه وزارة شؤون المُهجرين، ونال حزب الطاشناق الأرمني وزارة الصناعة.
وتضمنت التشكيلة الحكومية وزيرين صنفا على أنهما “توافقيان” بين عون وميقاتي، وهما: وزيرة التنمية الإدارية السفيرة نجلا الرياشي ووزير الشباب والرياضة جورج كلاس.
ويبقى السؤال هنا هل تُرضي تلك التشكيلة الحكومية الشارع اللبناني؟ والإجابة قطعا ستكون مرهونة بسياسات وقرارات تلك الحكومة، لكنها لن تُرضي على الأرجح اللبنانيين الذين خرجوا في مظاهرات منذ أكتوبر 2019، مطالبين بوضع حد للفساد المستشري في النظام السياسي، والاحتجاج على الأساس الطائفي للسياسة اللبنانية ومساعي أعضاء الطبقة الحاكمة إلى تأمين المكاسب للطائفة الضيقة التي يمثلونها كل واحد على حدة، فبعض أعضاء الحكومة كانوا هدفًا للاحتجاجات، على سبيل المثال وزير المالية يوسف خليل كان مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان وهو مهندس السياسات المثيرة للجدل للمصرف والتي يعتقد الكثيرون أنها عجلت بالأزمة المالية، ومع ذلك سيشعر بعض اللبنانيين بالارتياح لأن البلاد لديها أخيرًا حكومة يمكنها محاولة معالجة الأزمات العديدة، وإبقاء البلاد واقفة على قدميها حتى الانتخابات النيابية المقررة في مايو المقبل.
ترحيب دولي وعربي بحكومة ميقاتي.. ودعوات للمسارعة بخطط الإصلاح
انعكس إعلان تشكيل الحكومة في العديد من المؤشرات الاقتصادية من أبرزها صعود قيمة الليرة اللبنانية من 19 ألفًا إلى 15 ألفًا مقابل الدولار، وسيفتح تشكيل الحكومة الباب أمام تلقي مئات الملايين من الدولارات في شكل قروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومساعدات إنسانية من المانحين الدوليين، حيث سيتم صرف جزء من هذه المساعدات للأسر اللبنانية الأشد فقرا من خلال برنامج البطاقة التموينية الجديد. وستكون الحكومة أيضًا قادرة على استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل خطة إنقاذ أكبر، والتي توقفت بعد انهيار الحكومة السابقة.
ومما لا شك فيه سيلعب حجم الدعم الدولي والعربي للحكومة الجديدة دورًا مهمًا في قدرتها على إنجاز تلك المفاوضات وإنجاز خطة الإصلاح الاقتصادي، وكذلك الحصول على المساعدات التي جرى التعهد بها في مؤتمر الدول المانحة للبنان الذي نظمته باريس في الرابع من أغسطس الماضي ونجح في جمع أكثر من 370 مليون دولار من المساعدات المطلوبة لتلبية الاحتياجات الإنسانية في لبنان.
وقد توالى الترحيب الدولي والعربي بإعلان تشكيل حكومة ميقاتي، إذ اعتبرت فرنسا أنها “خطوة لا غنى عنها من أجل اتخاذ تدابير طارئة ينتظرها اللبنانيون لإخراج البلاد من الأزمة العميقة التي تشهدها، داعية السياسيين للامتثال إلى الالتزامات التي قطعوها من أجل السماح بتنفيذ الإصلاحات اللازمة لمستقبل لبنان وتمكين المجتمع الدولي من تقديم المساعدة الأساسية له، وعلى ذات المنوال سارت الولايات المتحدة بترحيبها بتشكيل الحكومة في لبنان ومطالبتها باتخاذ “إجراءات عاجلة” لإصلاح الاقتصاد المنهك.
كما أكدت بريطانيا دعمها للحكومة الجديدة، لكنها شددت على ضرورة رؤية تحرك ملموس على 3 مسارات وهي تطبيق إصلاحات عاجلة والوصول بشفافية إلى نتيجة للتحقيق في التفجير المأساوي في مرفأ بيروت وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر.
وعربيًّا، أكدت جامعة الدول العربية مواصلة دعم لبنان في جميع استحقاقاته للخروج من الوضع الصعب الحالي، والانتقال إلى وضع أكثر استقراراً يستعيد فيه عافيته وتوازنه، كما ثمنت مصر تشكيل الحكومة اللبنانية، داعية إلى “ضرورة إخراج لبنان من أزمته، وفقاً لصلاحياتها الدستورية”، وشددت على حرصها على دعم لبنان ومساندة عمل الحكومة خلال الفترة المقبلة، بهدف تحقيق مصالح الشعب اللبناني، في إشارة على ما يبدو إلى الجهود المتعلقة بتصدير الغاز المصري إلى لبنان مرورًا بالأردن وسوريا، وهو ما كان محورا لاجتماع وزراء الطاقة للدول الأربع قبل نحو أسبوع في العاصمة الأردنية عمّان، وهي خطوة لاقت دعمًا أمريكيًا، واستثناء تلك العملية من “قانون قيصر” الذي تفرض بموجبه واشنطن عقوبات على سوريا.
تحديات أمام الحكومة اللبنانية الجديدة.. وصراع مع الوقت
تواجه حكومة ميقاتي العديد من التحديات الموروثة من الحكومات السابقة والتي تشكل ضغوطًا عليها بالنظر إلى كونها حكومة مؤقتة، ومنها:
إصلاح الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي:
يعقد اللبنانيون آمالهم حاليًا على قدرة الحكومة الجديدة في إبطاء الانحدار السريع للاقتصاد الذي أدى إلى إفقار ما يقرب من نصف الشعب، إذ يصنف البنك الدولي أزمة لبنان الاقتصادية والمالية ضمن أسوأ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد أدت تلك الأوضاع الصعبة إلى أزمات حادة في توافر البنزين والمازوت والأدوية وتردي الخدمات وعلى رأسها انقطاع الكهرباء، فمعظم السكان يحصلون على الكهرباء لمدة 10 ساعات فقط يوميًا، لذلك سيكون التركيز المباشر لحكومة ميقاتي على معالجة تلك الأزمات من أجل تحقيق الاستقرار ومن ثم الانطلاق نحو خطط الإصلاح الاقتصادي.
ويعتبر ملف رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية من الملفات الشائكة، فصحيح أن تلك الخطوة ضرورية ومهمة لتوفير نفقات الخزانة العامة ولكنها تهدد بإغراق اللبنانيين في فقر أعمق، لذا تحتاج الحكومة إلى إيجاد طريقة عادلة لتوزيع الخسائر في القطاع المالي.
الإعداد للانتخابات النيابية 2022:
سيكون على عاتق الحكومة معالجة الأزمات التي يمر بها لبنان وكذلك الإعداد والاستعداد للانتخابات النيابية التي يتبقى على إجرائها 9 أشهر، والتي ستحظى بأهمية كبرى كونها أول استحقاق يأتي بعد موجة احتجاجات 2019.
انتهاج سياسة خارجية متوازنة:
سيتعين على حكومة ميقاتي اجتياز تحديات صعبة في علاقات لبنان مع محيطها الإقليمي والمجتمع الدولي، وهو ما يتطلب صياغة مواءمات وعمل توازنات دقيقة بين معادلة السياسة الداخلية وامتداداتها الإقليمية والدولية، وعلى رأس تلك التحديات حزب الله المشارك في الحكومة بحقيبتين وهو مصنف كتنظيم إرهابي من قِبل العديد من دول العالم من أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا، الأمر الذي يشكل عائقًا أمام التعاون مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، كما يعد التحرر من التدخلات الإيرانية وإعادة الدفء إلى العلاقات بين لبنان ودول الخليج العربي ملفًّا بحاجة إلى المزيد من الجهود.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن معاناة لبنان الاقتصادية وأزمات النظام السياسي البنيوية أكبر من قدرة أي حكومة على التحمل، حيث توجد حاجة ماسة إلى خطة إصلاح اقتصادي وسياسات اقتصادية ومالية أكثر شفافية، وإعادة صياغة شاملة للنظام السياسي بشكل يتجاوز المحاصصة الطائفية، ويُغلّب مصلحة لبنان على الولاءات الخارجية.