على وقع احتقان شعبي في تونس ناجم عن تراكم الأزمات الاقتصادية والصحية ورفض متنام لسياسات حركة النهضة الإخوانية وإدارتها الفاشلة للبرلمان وتحويله لساحة لتصفية الحسابات وترهيب المعارضين، اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيد سلسلة إجراءات حاسمة في 25 يوليو الحالي شملت تجميد سلطات البرلمان ورفع الحصانة عن جميع النواب وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وتكليف الجيش بحفظ الأمن والاستقرار وحماية مؤسسات الدولة، وقد جاءت تلك القرارات استنادًا إلى الفصل 80 من الدستور الصادر عام 2014 والذي يخول لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها اتخاذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية.
وبينما سارعت الحركة الإخوانية إلى الترويج لما حدث بأنه “انقلاب على الثورة”، كذبت فرحة التونسيين العارمة واحتفالاتهم في مختلف أرجاء البلاد تلك المزاعم الواهية، وبرهنت على حجم التأييد الشعبي للخطوة التي تشكل تصحيحًا لمسار الثورة في تونس بعدما اختطفها تيار الإسلام السياسي على مدى عقد، إذ قُوبلت بترحيب من مختلف الأطياف السياسية والتكتلات النقابية الفاعلة في الشارع التونسي، لتمثل تلك الأحداث سقوطًا جديدًا مدويًا لإحدى أبرز الأذرع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة.
فشل اقتصادي وانهيار كارثي في مواجهة كورونا
وفقًا للمجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن)، خرج التونسيون في الأشهر القليلة الماضية إلى الشوارع مرارًا للاحتجاج على تعامل الحكومة مع جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، والتعبير عن الغضب من ارتفاع معدلات الوفيات الناجمة عن الوباء وعجز القوى السياسية وفي مقدمتها حركة النهضة عن حل الأزمة، إذ يُنظر إلى التغييرات المتعددة لوزراء الصحة أنها أدت لعدم وجود استراتيجية عمل واضحة وكانت سببًا لخروج الوباء عن نطاق السيطرة، حيث تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية، إلى أن تونس سجلت خلال يوليو الحالي أعلى معدل وفيات ناجمة عن كورونا في إقليم شرق المتوسط والقارة الإفريقية.
ويضاف إلى ذلك، الإحباط الناجم عن تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب بعد سنوات من الركود، فبينما وجدت دراسة استقصائية أجراها المعهد الوطني للإحصاء في تونس أن ثلث الأسر كانت تخشى نفاد الطعام العام الماضي، كشفت وثائق مسربة عن إبداء الحكومة خلال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي استعدادها لإلغاء دعم الخبز للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، وهو الرابع خلال 10 سنوات، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
وتزامنت قرارات الرئيس التونسي مع الاحتفال بذكرى تأسيس الجمهورية الموافق 25 يوليو من كل عام، وجاءت في ختام يوم خرج فيه التونسيون للتظاهر – وسط أجواء طقس حارة بلغت 40 درجة مئوية، متحدين القيود المفروضة على التنقل والسفر لمكافحة كورونا- احتجاجًا على تردي الأوضاع الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ومطالبين بإسقاط الحكومة ومحاسبة رئيس البرلمان راشد الغنوشي وهو ما يؤكد نفاد صبر الشعب.
وقد عكس خروج الشعب التونسي إلى الشوارع للاحتفال بعد قرار تجميد البرلمان استياءهم العميق فهناك حالة سخط عامة على عجز الأحزاب الحاكمة في تونس عن إدارة شؤون البلاد، وارتفاع كلفة الصراع بين مؤسسات الدولة في ظل التحركات غير المسؤولة من جانب رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة الإخوانية راشد الغنوشي، وعجز حكومة هشام المشيشي عن مجابهة الأزمات وإنفاذ القوانين على الفاسدين، بالإضافة إلى اختراق الحركة للقضاء والتلاعب بوثائق قضايا إرهاب ترتبط باغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهما أحد أبرز المعارضين للحكومة التي قادتها حركة النهضة إبان انتخابات2011، واللذان قتلا بالرصاص على أيدي مسلحين أمام مقر سكنهما، إذ تتهم هيئة الدفاع الموكلة من عائلتي بلعيد والبراهمي الجهاز السري لحركة النهضة بالمسؤولية السياسية عن تلك الاغتيالات، وفقًا لصحيفة “المونيتور” الأمريكية.
سيناريوهات الأزمة في تونس
وترتبط تطورات الأزمة الراهنة في تونس بمجموعة متشابكة من المحددات تتمثل في سلوك مختلف الفاعلين السياسيين، وموقف الشارع التونسي، وطبيعة النظرة الإقليمية والدولية لتلك التطورات، ومن هذا المنطلق تبرز ثلاثة سيناريوهات على النحو التالي:
السيناريو الأول: انزلاق تونس إلى دوامة من العنف
يفترض هذا السيناريو لجوء حركة النهضة إلى حشد أتباعها في الشارع من أجل الاصطدام بالقوى الأمنية، ومحاولة إحداث حالة من الفوضى في البلاد، بجانب تحريك أذرعها المسلحة لتنفيذ اغتيالات واستهداف المعارضين، مع تكثيف التهديدات الأمنية التي تجابهها تونس عبر الحدود من خلال الاستعانة بجهود الإخوان في ليبيا الذين أبدوا رفضهم لقرارات الرئيس قيس سعيد، إذ زعم القيادي الإخواني الليبي خالد المشري رئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى للدولة في ليبيا أن تجميد البرلمان في تونس يعد “انقلابًا”.
ويعتبر هذا السيناريو -حال تحققه- أقرب ما يكون لما فعلته الجماعة الأم في مصر في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، حيث قامت بالدعوة للاعتصام والخروج في مظاهرات، وما لبثت أن بدأت في تنفيذ سلسلة من العمليات الإرهابية في سيناء وتشكيل خلايا إرهابية نفذت اغتيالات طالت شخصيات أمنية وقضائية أبرزها النائب العام هشام بركات.
السيناريو الثاني: صفقة تضمن بقاء حركة النهضة على الساحة السياسية
وفقًا لهذا التصور ربما يدفع مهاجمة المتظاهرين الغاضبين لمقرات حركة النهضة في عدد من الولايات في مختلف أنحاء البلاد، قادة الحركة إلى التفكير في المهادنة بغية التوصل إلى صفقة تضمن للحركة البقاء في الحياة السياسية، وعدم نزع غطاء الوجود الشرعي عنها، فبلا شك يساورها القلق حاليًا من مواجهة خروج قسري من المشهد السياسي أو العودة إلى وضعها في ظل نظام الحكم ما قبل عام 2011، والتعرض إلى ملاحقات قضائية بعدما تم رفع الحصانة عن أعضاء الكتلة النيابية للحركة التي كانت تستحوذ على الأكثرية في البرلمان، ووسط تقارير عن منع سياسيين ورؤساء أحزاب وبرلمانيين من مغادرة البلاد، بجانب مطالبة هيئة المحامين التونسية الرئيس قيس سعيد بفتح ملفات اغتيال بلعيد والبراهمي وضحايا المؤسستين الأمنية والعسكرية في مواجهة الإرهاب.
ومن المؤشرات الدالة على إمكانية تحقق هذا السيناريو التحولات السريعة في خطاب وتحركات النهضة ما بعد إعلان الرئيس التونسي تجميد البرلمان، ففي البداية نددت الحركة بالقرارات ووصفتها بـ”الانقلاب” ودعت عناصرها للنزول إلى الشوارع، كما اعتصم زعيم الحركة راشد الغنوشي أمام مجلس النواب لساعات، لكنه غادر بعد هتافات الجماهير ضده في محيط البرلمان، ثم دعت الحركة في بيان الرئيس سعيد للتراجع عن تلك القرارات، ولاحقًا طالبت بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة بدعوى أنها مخرج للأزمة الراهنة.
واللافت أن موقف إخوان تونس على النقيض تمامًا من إخوان مصر في عام 2013 الذين رفضوا بشدة الدعوة لانتخابات مبكرة والاحتكام إلى الصناديق، لكن الطرح الإخواني هذه المرة لا يخلو من مناورة خبيثة فقد جاءت دعوة الحركة للانتخابات التشريعية المبكرة مقرونة بانتخابات رئاسية أيضًا علما بأن الجماهير التي خرجت للتظاهر صباح 25 يوليو الحالي ركزت مطلبها في إقالة الحكومة وحل البرلمان.
وربما إذا تمكنت الحركة من التوصل إلى صفقة سياسية تخرجها من مأزقها الراهن، ستتجنب مصير جماعة الإخوان في مصر التي صنفت جماعة إرهابية، وتم حل ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة وخضع القياديون فيها إلى المحاكمة بعدما حرضوا على رفع السلاح في وجه الدولة والشعب، وقاموا بتمويل وارتكاب جرائم إرهابية شنيعة.
السيناريو الثالث: اللعب على وتر أزمة دستورية بهدف إعادة تشكيل النظام السياسي
يقوم هذا السيناريو على تسويق حركة النهضة لتصور خاص بقرارات الرئيس التونسي على أنه يعكس أزمة دستورية، معتبرة أن تفسير الرئيس سعيد للفصل 80 من الدستور الذي استند إليه في تلك الخطوات غير صحيح كون الفقرة التالية للفصل ذاته تنص على بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم، ويفاقم تلك الأزمة عدم تشكيل المحكمة الدستورية منذ إقرار الدستور عام 2014 وحتى الآن وهي التي يفترض أن تتولى الفصل في تلك الإشكاليات المتعلقة بتفسير النصوص الدستورية.
وقد يلجأ الإخوان المسلمون في تونس في سبيل إثارة الجدل الدستوري إلى التحرك عبر مسارين الأول على الصعيد الداخلي من خلال محاولة استقطاب القوى الوازنة ذات التأثير في الشارع مثل الاتحاد العام للشغل إلى دائرة ذلك الجدل، علما بأن الاتحاد عبر في موقفه الرسمي من خلال الدعوة لتجنب العنف مع المطالبة بضمانات ترافق التدابير الاستثنائية المعلنة وجدول زمني محدد والإسراع بإنهائها حتى لا تتحول إلى إجراء دائم.
أما المسار الثاني فعلى الصعيد الخارجي بتصدير خطاب موجه للغرب عن أزمة دستورية وتعطيل لعمل مؤسسة منتخبة هي البرلمان، مع استغلال الاهتمام الغربي بذلك الجانب، وهو ما تجلى في بيان للممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل دعا فيه إلى إعادة عمل البرلمان وضمان استقرار المؤسسات بشكل عاجل ودون إبطاء مع الإصغاء لنداءات وتطلعات الشعب، كما رأت وزارة الخارجية الأمريكية أن حل مشكلات تونس يجب أن يستند إلى الدستور، وشددت الخارجية الروسية على أن التناقضات الداخلية في تونس يجب أن تجد حلها عبر المجال القانوني دون غيره.
وربما تسعى حركة النهضة إلى فتح المجال أمام تعديلات دستورية تعيد تشكيل النظام السياسي بطريقة تؤمن للحركة السيطرة على الحكم، فالدستور الحالي فتت السلطة بين الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان) فهو نظام سياسي هجين، بينما تميل الحركة إلى نظام برلماني، وهو موقفها الذي سبق وأن عبر عنه الناطق الرسمي للحركة فتحي العيادي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن قرارات الرئيس التونسي بمثابة شهادة جديدة على سقوط جماعة الإخوان المسلمين في اختبار الحكم، فالغضب المتصاعد في الشارع التونسي تجاه حركة النهضة يكشف عن زيف الادعاءات التي لطالما روج لها أقطاب وأتباع تيار الإسلام السياسي عن نموذج قدمته تونس لإسهام هذا التيار في عملية التحول الديمقراطي، فالحركة فشلت بشكل ذريع في إدارة شؤون الدولة والتعاطي الجاد والفعال مع المشكلات الحيوية التي يئن منها الشعب التونسي سواء من ناحية الاقتصاد المتداعي أو أزمة كورونا المتفاقمة، فضلًا عن افتقادها للغة الحوار مع القوى السياسية، فحركة النهضة شأنها شأن الإخوان في كل مكان وزمان، لا تجيد سوى لغة التهديد والترهيب لكل من يتبنى رأيًّا أو وجهة نظر مخالفة لما تعتنقه من أفكار، وتفتقر للقدرة على تحمل أعباء ومسؤوليات الحكم فهي جماعة دأبت على العمل السري والسمع والطاعة، ولا تقبل النقد أو الحوار وهما متطلبان رئيسيان للحكم ولتطبيق مبدأ الشورى.
وبلا شك يواجه الإخوان المسلمون في تونس مأزقًا هو الأصعب منذ عام 2011، فلا قوى سياسية داخلية ذات ثقل تصطف بجانبهم، ولا يوجد ظهير شعبي يساندهم، كما أن التحولات السياسية في الإقليم ألقت بظلالها على الدعم المالي والسياسي الذي كانت تحظى به جماعات الإسلام السياسي من جانب بعض القوى الإقليمية.
وخلاصة القول باتت جماعة الإخوان في حالة انكشاف استراتيجي، بفعل تجربتها الفاشلة في الحكم، وفكرها الضال المتطرف، وممارساتها الإرهابية.