يشكل التعامل مع ظاهرة المعلومات المضللة والأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي إحدى القضايا الرئيسية التي تشغل المجتمع الأكاديمي منذ عقود، حيث مرت بمراحل متعددة وفقًا للمنظور الذي تم من خلاله التعامل مع تلك الإشكالية، التي أخذت في التنامي مع التطور التقني والتحولات التي طرأت على المناخ الإعلامي وطرق تلقي الجمهور للرسائل المتضمنة في المحتوى الإعلامي، وتراجع عمليات التدقيق في مراحل ما قبل النشر لا سيما على منصات الإعلام الجديد.
وفي هذا الإطار، استعرض تقرير نشرته مجلة “Misinformation Review” الصادرة عن كلية هارفارد كينيدي للسياسات العامة، الأطر المفاهيمية لتحليل المعلومات التي تُفهم على أنها “خبيثة- pernicious” وهي: البحوث الخاصة بـ”الدعاية المغرضة-propaganda”، وتحليل الأيديولوجيا وعلاقتها بالثقافة، ونظرية المؤامرة، والمفاهيم المتعلقة بالمعلومات المضللة وأثرها، مشيرا إلى أن استمرار الدراسة الخاصة بالمعلومات المضللة بشكل عام دون الاعتراف بهذه الأطر النظرية يجعل الحلول والعلاجات لمسألة التضليل أكثر صعوبة لأن المشكلة الفعلية التي يتعين حلها غير واضحة.
الدعاية والبحوث التطبيقية
وفقًا لمجلة “Misinformation Review”، فإنه على الرغم من وجود تيار أكاديمي يساري يهتم بأبحاث الدعاية فإن هناك تناقضًا داخل المجتمع الأكاديمي في كليات الصحافة وأقسام الاتصال في التعامل مع تلك الأبحاث كحقل تطبيقي، فبينما تؤخذ “الدعاية المغرضة-propaganda” على محمل الجد من قبل الحكومات والجيوش وأجهزة الاستخبارات، إلا أنها احتلت مكانة مفاهيمية ضعيفة في معظم أقسام الدراسات الإعلامية والاتصالية، نظرًا لوجود تيارات فكرية سائدة تتبنى فكرة محدودية تأثير تلك الدعاية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس هناك أدنى شك في أن الدراسة التطبيقية لقوة الرسائل وأبحاث الاتصال نشآ معًا، فمنذ البداية تم تصميم أبحاث الاتصال -على الأقل جزئيًا- كعلم تطبيقي، يهدف إلى تقديم المعرفة المنهجية التي يمكن استخدامها لخدمة عمل الحكومات، ولذلك أصبحت أبحاث الاتصال راسخة في الجامعات الأمريكية لكن اتضح أيضًا أن علماء الاتصال لا يمكنهم بالضرورة تقديم المعرفة إلى السلطات السياسية التي يمكن أن تكون بمثابة نموذج للعمل السياسي، ومنذ ذلك الحين، انفصلت السياسة وعلوم الاتصال، وأصبحت العديد من الأساليب والتقنيات التي بدت مبتكرة وحتى ثورية في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وتعد بمفتاح سحري لإدارة أنشطة الدعاية والسيطرة على الرأي العام، مجالات عمل روتينية، ونفذت مؤسسات مثل “وكالة المعلومات الأمريكية-USIA” الكثير من هذه الأبحاث بنفسها.
ولا يعني هذا الانفصال غياب الاهتمام بدراسة الدعاية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، إذ توثق سجلات الحكومة الأمريكية ارتفاع إجمالي التمويل لـ”وكالة المعلومات الأمريكية-USIA” من 1,2 مليار دولار في عام 1955 إلى 1,7 مليار دولار في عام 1999، وهو العام ذاته الذي تم فيه حل تلك الوكالة وإسناد مهامها إلى وزارة الخارجية الأمريكية. كما أنفق الاتحاد السوفيتي أموالا طائلة على التشويش على البث الإذاعي الغربي تفوق ما أنفقته الولايات المتحدة في ميزانيتها الدعائية بأكملها.
الأيديولوجيا والاقتصاد والوعي الزائف
من جهة أخرى، إذا كان الأكاديميون أقل اهتمامًا من الحكومات في تحليل الدور الذي تلعبه الدعاية في تشكيل الرأي العام، فإنهم أبدوا اهتمامًا أكبر بمفهوم الأيديولوجيا، والتي عرفها العالم البريطاني ريموند ويليامز، بأنها مجموعة متشابكة من الأفكار أو المعتقدات أو المفاهيم أو المبادئ الفلسفية التي يتم اعتبارها بديهية من قبل شرائح مختلفة من المجتمع.
ونبع انشغال المجتمع الأكاديمي بالأيديولوجيا من ثلاثة مبادئ مثيرة للجدل ومترابطة، أولا أن الأيديولوجيا – لا سيما في نسختها الماركسية –تؤكد ضمنيًا أن ما تحمله من أفكار منفصل عما هو موجود بالفعل في الواقع، وثانيًا ارتباط الأيديولوجيا بالظروف الاقتصادية أي بالواقع المادي ويوصف هذا عادة بالعلاقة بين القاعدة (الاقتصاد والظروف المادية) والبنية الفوقية (عالم المفاهيم والثقافة والأفكار)، أما المبدأ الثالث فيتمثل في إمكانية أن يكون لشرائح المجتمع أيديولوجيات مختلفة، تستند جزئيًا إلى موقعها داخل الهيكل الطبقي.
وقد ساعدت الماركسية الغربية بشكل عام والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بشكل خاص على وضع هذه المفاهيم على أجندة علماء الإعلام والاتصال من خلال إيلاء أهمية أكبر “للبنية الفوقية” بما تشمله من رسائل إعلامية وصناعات ثقافية، وبالتالي تلعب الصحافة والإعلام دورًا رئيسيًا في خلق الأيديولوجيا والحفاظ عليها وبالتالي تكريس الخداع الذي تقوم عليه العمليات الأيديولوجية.
وتشير الدراسات الخاصة بالعلاقة بين وسائل الإعلام والأيديولوجيا، إلى أن “الرسائل الخبيثة” تتسم بكونها رسائل أكثر هيكلية ودقة وغير مرئية، كما أن قلة من البحوث الإعلامية تفهم الأيديولوجيا من منظور “الأكاذيب المنفصلة والمعتقدات الخاطئة”، فأغلب الدراسات تفضل التركيز على عمليات “المغالطة الهيكلية العميقة-deep structural misrecognition “، التي تخدم المصالح الاقتصادية السائدة.
وكما هو الحال في دراسة الدعاية، كان للتطورات الواقعية على الأرض أيضًا تأثير على التحليل الأكاديمي لأيديولوجية وسائل الإعلام، فمن الواضح أن انهيار الشيوعية في الثمانينيات والتسعينيات وصعود الحكم النيوليبرالي قد لعب دورًا رئيسيًا في هذه التغييرات.
ونخلص من ذلك إلى أن أي تحليل للمعلومات المضللة يجب أن يضع في الاعتبار العلاقة بين الطبقة الاجتماعية والثقافة، والوعي الزائف، وكون التحليل الأيديولوجي أقل اهتمامًا بالرسائل الكاذبة من اهتمامه بمسائل المغالطات الهيكلية والآثار التي قد تترتب على جهود الحفاظ على هيمنة تيار أيديولوجي معين على الإعلام.
نظرية المؤامرة في مرحلة ما بعد الحداثة
يعتبر تفسير المحتوى الإعلامي الخبيث من خلال نظرية المؤامرة أقل شيوعًا عن المنظورين الدعائي والأيديولوجي، ومع ذلك كانت هناك فترة في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين تم فيها تحليل بعض المفاهيم الأكثر إثارة للاهتمام لنظريات المؤامرة في العمل الأكاديمي، إذ رأى المنظر الأمريكي فريدريك جيمسون الذي اشتهر بتحليله للاتجاهات الثقافية المعاصرة، أن المؤامرة هي رسم الخرائط المعرفية للفقير في عصر ما بعد الحداثة، معتبرًا أنه إذا كانت “ما بعد الحداثة” تتميز بالتشكيك تجاه ما وراء السرد، فإن نظرية المؤامرة هي النظام السردي الوحيد المتاح لشرح التشوهات المختلفة للنظام الرأسمالي.
وحاول باحثون آخرون متخصصون في الإعلام والاتصال، أن يأخذوا نظريات المؤامرة بجدية أكبر من خلال طرح سؤال رئيسي مفاده ما إذا كان الجمهور يتحمل أي مسؤولية عن الوقوع في براثن نظرية المؤامرة، لافتين إلى أن المحتوى الإعلامي الخبيث يميل إلى تغذية عقلية تآمرية.
ويجادل كل من التحليل الأيديولوجي والكتابات الأكاديمية حول نظرية المؤامرة بأن هناك فجوة بين “ما يبدو أنه يحدث” و”ما يحدث بالفعل”، وأن هذه الفجوة يتم الحفاظ عليها وتوسيعها بواسطة الرسائل الإعلامية الخبيثة، ويميل البحث عن الجانب الأيديولوجي إلى رؤية الغرض من المحتوى الإعلامي الخبيث باعتباره مصدرًا ماديًا متجذرًا في المصالح الحقيقية، في حين أن البحث من منظور نظرية المؤامرة ينصب على البحث عما إذا كانت هناك أي مصالح حقيقية تتجاوز الممارسة السياسية.
وختامًا، يمكن القول إن التفكير الحالي في الدراسات الخاصة بالمعلومات المضللة يرتبط بشكل أكثر عمقًا بمنظورين حول المعلومات والصحافة ظهرا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يتعلقان بتدفقات المعلومات، حيث يرى المنظور الأول أن المؤسسات الإعلامية وجماهيرها قريبة من نظام بيئي طبيعي، إذ تساهم مختلف المنافذ الإعلامية في تهيئة بيئة معلومات سليمة، مما يؤدي إلى وجود مواطنين أصحاء معلوماتيًا.
ويحلل المنظور الثاني تدفقات الرسائل أثناء انتقالها عبر بيئة المعلومات، مع إعادة تشكيل الرسائل وتشويهها أثناء انتقالها عبر شبكة المعلومات. ويدين كلا المنظورين لمفهوم “المواطن المعلوماتي” الذي كان شائعًا في مطلع القرن والذي تم التعبير عنه في تقرير “مؤسسة نايت- Knight Foundation” لعام 2009 بعنوان “احتياجات المعلومات للمجتمعات”، الذي قدم رؤية رائدة لفكرة أن المجتمعات في العصر الراهن هي مجتمعات معلوماتية تعتمد سلامتها في جزء كبير منها على جودة المعلومات التي تتلقاها.
وتميل الدراسات الخاصة بالمعلومات المضللة إلى تبني السلوكيات الليبرالية التي تشير إلى أن المواطن المستقل يحتاج فقط إلى المدخلات الصحيحة (معلومات سليمة) من أجل إنتاج المخرجات الصحيحة (سلوكيات منضبطة) تحافظ على استقرار وسلامة المجتمع.