تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي قوةً مركزيةً في الحياة العصرية، فهي قناة رئيسية للتفاعلات الاجتماعية والاتصالات السياسية والتسويق التجاري، ولذلك تتراوح تأثيراتها بين الإيجاب والسلب.
فعلى الصعيد الإيجابي، يُسهّل المحتوى الذي ينشئه المستخدم على وسائل التواصل الاجتماعي من إبقاء الأصدقاء والأقارب الذين تفصل بينهم مسافة بعيدة على اطلاع بما يحدث في حياة بعضهم البعض، كما تُساعد الأنشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا على نشر الوعي بالأمراض، مثل تحدي “دلو الثلج” للتوعية بمرض التصلب الجانبي الضموري، فضلاً عن كون تلك المواقع تُسهم في سرعة نشر المعلومات أثناء الكوارث.
وفي المقابل، تفسح وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا المجال لنشر المعلومات الخاطئة وعمليات الاحتيال، وتسهل ظهور غرف الصدى، وتؤدي إلى زيادة حدة الاستقطاب السياسي، وتُوفر مناخًا مواتيًا لاستضافة بوتات الدعاية الآلية.
ونظرًا للأهمية الكبرى لوسائل التواصل الاجتماعي في حياة الأفراد، وتضمنها مجموعة واسعة من المحتوى، توجد أهمية علمية وعملية لفهم كيفية تفاعل الأشخاص مع وسائل التواصل الاجتماعي، وما الذي يُؤثر على قراراتهم لمشاركة أنواع مختلفة من المحتوى، أو لمتابعة الحسابات والصفحات المختلفة.
المنظور المعرفي كمعيار لرصد سلوك مستخدمي تويتر
وبينما ركّزت الدراسات السابقة في هذا السياق على العلاقة بين نمط استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والخصائص الديموغرافية للمبحوثين، اعتمدت دراسة بعنوان “ارتباط الانعكاس المعرفي بالسلوك على تويتر” نشرتها الدورية “Nature Communications” العلمية ضمن عددها الصادر في فبراير 2021، على عدسة العلوم المعرفية لشرح سلوك المستخدمين على تويتر عبر مجموعة واسعة من المحتوى.
وتُضيف تلك الدراسة إسهامًا أكاديميًّا في النقاش المستمر داخل أدبيات العلوم المعرفية بين روايتين متنافستين حول العوامل التي تحدد معتقدات الأشخاص وسلوكياتهم، تتمثلان في “الفكر التحليلي – analytic thought” و”الاستجابات البديهية intuitive responses – ” التي تظهر بشكل مستقل، وغالبًا بسرعة عندما يواجه الفرد حافزًا مثيرًا.
وتطرح الدراسة تساؤلاً رئيسيًّا مفاده كيف يرتبط النمط المعرفي بسلوك المستخدمين على موقع تويتر؟ وللإجابة عن هذا السؤال يتم قياس النمط المعرفي باستخدام “اختبار الانعكاس المعرفي – (the Cognitive Reflection Test (CRT”.
ويتكون هذا الاختبار من مجموعة من الأسئلة ذات الإجابات المقنعة بشكل حدسي ولكنها غير صحيحة، والتي تُستخدم على نطاق واسع في علم الاقتصاد السلوكي وعلم النفس لقياس الميل للانخراط في التفكير التحليلي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأسلوب المعرفي يرتبط بشكل إيجابي بمجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية، مثل رفض نظريات المؤامرة، وزيادة قبول العلم، ورفض الهراء والمعلومات الزائفة، كما أن “الأفراد الأكثر تأملاً – More reflective individuals” يكونون أقل عرضة لتنحية تفكيرهم جانبًا خلال عمليات البحث على الإنترنت.
عينة الدراسة ومنهجية المسح
واختبرت الدراسة العلاقة بين التفكير التحليلي والسلوك الطبيعي على موقع تويتر، من خلال عينة تتكون من 1901 مستخدم للمنصة، بمتوسط عمر يبلغ 33 عاماً، وتُشكل الإناث 55% من العينة، كما يقيم 18 % من أفراد العينة في بريطانيا، أما الباقي معظمهم في كندا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال.
وقد تم إخضاع المبحوثين لاختبار الانعكاس المعرفي، والذين قدموا بدورهم لفريق الدراسة اسم مستخدم حسابات تويتر الخاصة بهم، ثم جرى استخدام واجهة برمجة تطبيقات تويتر لسحب المعلومات العامة من ملفات تعريف هؤلاء المستخدمين، بغية التحقيق في العلاقة بين الدرجة التي حصل عليها المستخدم في الاختبار، وبصماتهم الرقمية المتمثلة في ثلاثة أبعاد رئيسية وهي الخصائص الأساسية لملفهم الشخصي، والحسابات التي يتابعونها ومحتويات تغريداتهم.
خصائص الملف الشخصي
فحصت الدراسة العلاقة بين اختبار الانعكاس المعرفي للمستخدمين وميزات ملفهم الشخصي الأساسية من خلال عدد الحسابات التي يتابعونها، وعدد المتابعين، والعدد الإجمالي للتغريدات، وعدد التغريدات في آخر أسبوعين ماضيين، وعدد الأيام التي ينشطون فيها على تويتر.
واستخدمت الدراسة نموذج “الانحدار ذي الحدين السالب – negative binomial regression” للتنبؤ بالنتيجة، مع اعتبار اختبار الانعكاس المعرفي متغيرًا رئيسيًّا مستقلاً، بالإضافة إلى التركيبة الديموغرافية للمستخدمين.
ووجدت الدراسة أن الأشخاص الذين حصلوا على درجات أعلى في “اختبار الانعكاس المعرفي” يتبعون عددًا أقل بكثير من الحسابات الأخرى، وهو أول مؤشر على أنهم أكثر تمييزًا، فكونهم يتابعون حسابات أقل يعني بالتبعية أنهم يعرضون أنفسهم لمحتوى أقل.
الحسابات التي تحظى بمتابعة المستخدمين
ورصدت الدراسة الحسابات التي تابعها المشاركون في اختبار الانعكاس المعرفي، حيث وجدت أن مجموعة الحسابات التي يتبعها المستخدمون الذين سجلوا درجات أقل في الاختبار ( 1209 حسابات) هي تقريبًا ضعف مجموعة الحسابات التي يتبعها المستخدمون الذين سجلوا درجات أقل وأعلى في الاختبار (651 حسابًا).
ولفتت الدراسة إلى أن هذه النتائج توحي بوجود “غرف صدى معرفية” على وسائل التواصل الاجتماعي، وإن كانت غير متماثلة الحجم.
محتوى التغريدات
وعقب رصد الحسابات التي يتابعها المستخدمون، وبالتالي المحتوى الذي يستهلكونه، قامت الدراسة بفحص المحتوى الذي ينشئه المستخدمون أو يوزعونه بأنفسهم من خلال تغريداتهم، حيث صنفت 1619 موضوعًا يمكن الوصول إليها من إجمالي تغريدات بلغ مليونًا و871 ألفًا و936 تغريدة.
وقامت الدراسة بالتحقيق في مشاركة الأخبار، من خلال التركيز على التغريدات التي تحتوي على روابط لأي موقع إخباري من أصل 60 موقعًا تم تقييم مصداقيتها بواسطة مدققي الحقائق المحترفين، حيث تغطي هذه المواقع الإخبارية نطاقًا واسعًا من مدى جودة المعلومات، إذ إنها تشمل مواقع تقدم “أخبارًا زائفة” تمامًا، ومواقع شديدة الحزبية تقدم تغطية مضللة للأحداث، ومواقع ذات مصداقية وسمعة طيبة.
ووفقًا للدراسة قام 728 مستخدمًا بالتغريد، مستخدمين رابطًا واحدًا على الأقل من هذه المواقع، بإجمالي 11295 تغريدة. ووجدت الدراسة أن المستخدمين الذين سجلوا درجات أعلى في اختبار الانعكاس المعرفي كانوا أكثر عرضة للتغريد بروابط لمواقع الأخبار، وهذا مؤشر على أن هذه الفئة أكثر عُرضة للتغريد حول الموضوعات الأكثر أهمية أي الأخبار.
وكانت هذه الفئة من المستخدمين أكثر عُرضة لإعادة تغريد الروابط من مواقع تتسم بالمصداقية -بحسب تصنيف مدققي الحقائق- مثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”، وأقل عُرضة لإعادة تغريد روابط لمواقع غير موثوقة، مثل صحيفة ديلي ميل، وذلك بالنسبة للمشاركين البريطانيين في الدراسة.
كما قامت الدراسة بفحص اللغة المستخدمة في التغريدات على مستوى الكلمات الفردية، من خلال برنامج الاستقصاء اللغوي وعدد الكلمات- Linguistic Inquiry and Word Count” بهدف التحقق من صحتها من الناحية النفسية.
ووجدت الدراسة أن أصحاب الأداء الجيد في اختبار الانعكاس المعرفي أكثر عُرضة للانخراط في التفكير، وتجاوز استجاباتهم البديهية (العاطفية غالبًا)، ما ينعكس في استخدام كلمات تدل على التبصر والتفكير.
النتائج العامة للدراسة
يمكن إجمالاً تلخيص النتائج العامة التي توصلت إليها الدراسة في النقاط التالية:
– أصحاب التقديرات المرتفعة في اختبار الانعكاس المعرفي أكثر تميزًا في استخدامهم لتويتر، حيث تابعوا حسابات أقل، وشاركوا محتوى عالي الجودة من مصادر أكثر موثوقية، وقاموا بالتغريد حول مواضيع أكثر أهمية.
وهذه النتيجة أكثر اتساقًا مع مقولات التيار العلمي الذي يؤكد القدرة البشرية على استخدام التفكير لتجاوز الحدس، في مواجهة تيار آخر يُجادل بأن التفكير المعرفي يلعب دورًا محدودًا في تحديد السلوكيات اليومية للأفراد.
– مستخدمو تويتر الذين يتمتعون برؤية تحليلية لديهم قدرة أفضل من غيرهم على تحديد عناوين الأخبار الحقيقية مقابل الأخبار الزائفة، بغض النظر عما إذا كانت العناوين الرئيسية تتوافق مع أيديولوجيتهم.
– الأشخاص الأكثر تفكيرًا يكونون أكثر انخراطًا في الشأن السياسي والعام على تويتر، وهو ما يدعم الاستدلال على أن التفكير التحليلي مرتبط بزيادة المشاركة في الشأن العام.
– ارتباط الانعكاس المعرفي بانخفاض السذاجة، أي قبول أقل لمجموعة كبيرة من المعتقدات المعرفية المشبوهة، مثل نظريات المؤامرة ، والادعاءات المتعلقة بالخرافات.
وفي المقابل، يرتبط انخفاض الانعكاس المعرفي بزيادة متابعة الحسابات والتغريدات حول حيل جني الأموال ومخططات الثراء السريع، وهذا يدعم الاستنتاج القائل إن الأشخاص الأكثر اعتمادًا على الحدس يكونون أكثر سذاجة.
وأخيرًا.. من المهم دراسة كيفية تعميم نتائج تلك الدراسة على مجموعات أخرى أكثر تمثيلاً من المستخدمين، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين لم يختاروا المشاركة في تجربة الاستطلاع، ويعد تدريب نموذج التعلم الآلي لتقدير درجات اختبار الانعكاس المعرفي للمستخدمين بناءً على نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي أحد الأساليب المحتملة التي قد تكون مثمرة في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز أهمية اختبار كيفية تعميم نتائج الدراسة على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى مثل فيسبوك و”لينكد إن” والمستخدمين من الثقافات غير الغربية.
5 دقائق