مثلما كان صعود تنظيم داعش الارهابي سريعاً، جاء انهياره أسرع، وكذلك هو حال إعلامه الذي ملأ الدنيا ضجيجاً، وحاول نشر الرعب والخوف في نفوس الأبرياء، غير أنه صمت سريعاً، ولم يَعُدْ يُسمَع صوتُه إلا همساً.
ملأ إعلام داعش الدنيا ضجيجاً، وحاول نشر الرعب والخوف في نفوس الأبرياء، غير أنه صمت سريعاً، فلم يعد يُسمَع إلا همساً
يقول الجنرال الصيني الشهير (سون تزو) صاحب كتاب (فن الحرب): “يجب عليك أن تعرف عدوّك حتى تستطيع هزيمته”، والحقيقة أن تنظيم داعش الإرهابي الذي يطلق على نفسه “الدولة الإسلامية”، امتلك ترسانة إعلامية على قدرٍ عالٍ من الاحترافية، مكّنته تلك القدراتُ المرئية والمسموعة والمقروءة، من رسم صورةٍ ذهنيةٍ له في عقول المتابعين من ناحية، وفي ناحيةٍ أخرى، سهّلت له جذب الشباب للتجنيد في التنظيم.
القدرات الإعلامية الهائلة التي امتلكها التنظيم، قبل هزيمته، جعلته قادراً على إنشاء مواقعَ ومدوّنات، ومنصاتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، بل ووكالة أنباء رسمية أطلق عليها اسم “أعماق”، بُغية الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الجماهير، بالإضافة إلى إمكانية استخدام تلك المواقع في التواصل بين أعضاء التنظيم.
لم يبخل التنظيم الإرهابي على أذرعه الإعلامية، فمنحها تمويلاً واسعاً، وأمدّها بأفراد محترفين إعلامياً
وجاء امتلاك التنظيم لتلك الترسانة الإعلامية، لعلمه أن الرسائل التي تبثّها سبيلٌ فعال لجذب المجنّدين، فلم يبخل التنظيم الإرهابي على أذرعه الإعلامية بالمال والتسهيلات، فمنحها تمويلاً واسعاً، وأمدّها بأفرادٍ محترفين إعلامياً، تم تدريبهم على أحدث أدوات الإنتاج الإعلامي، مطلقاً عدداً من الوسائل الإعلامية، أهمها:
1-مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي:
أقدم أدوات التنظيم الإعلامية، وهي مخصّصة لإنتاج مقاطع الفيديو، والملصقات، والنشرات، والبيانات الرسمية الصوتية والمكتوبة.
2-وكالة أعماق Amaq News Agency :
هي وكالة الأنباء الرسمية للتنظيم، مهمتها نشر أخبار التنظيم على مرّ الساعة.
3-مؤسسة أجناد للإنتاج الإعلامي:
تختصّ تلك المؤسسة بإنتاج الأناشيد الجهادية والصوتيات التي تحمل دعايا التنظيم.
4-إذاعة البيان:
الإذاعة الرسمية للتنظيم، تذيع البيانات والأخبار الخاصة بالتنظيم بعدة لغات، وكانت تبثّ من مدينة الموصل، كما أن التنظيم أنشأ إذاعة أخرى له في ليبيا عقب السيطرة على بعض المناطق فيها.
5-مركز الحياة للإعلام:
مؤسسة إعلامية تقوم بإنتاج الكتب ومقاطع الفيديو والأناشيد، وأغلب إنتاج المركز موجّه للغرب وبغير اللغة العربية، وأنتج موادَّ دعائيةً بأكثر من عشر لغات، منها: الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والروسية، ويصدر المركز مجلة “دابق” بالعربية والإنجليزية، ومجلة “دار الإسلام” بالفرنسية، ومجلة “القسطنطينية” بالتركية، ومجلة “مصدر” بالروسية.
ويوجد غير تلك الوسائل والمنصّات، عشراتٌ من المنتديات والمواقع الخاصة بالتنظيم، والتي يتم إنشاؤها تحسباً لإغلاق المنصّات الأساسية.
الآلة الإعلامية والخطاب الإعلامي لتنظيم داعش الإرهابي، هما كلمة السرّ في انضمام المقاتلين إليه
ووفقاً لـ”مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف”، فإنه يكاد يكون هناك إجماع على أن الآلة الإعلامية لتنظيم داعش الإرهابي وخطابه الإعلامي هما كلمة السرّ في انضمام المقاتلين إليه، خصوصاً من فئة الشباب، حيث تبنى هذا التنظيم خطاباً إعلامياً ضالاً ومُضللاً، خاطب فيه كلّ فئةٍ شبابية بما تحبّ وتهوى، فأغرى الشباب المتطلع إلى الزعامة وإلى أنْ يكون من النخبة بأن ينضم إليه، ويشارك معه في تغيير خريطة العالم، وكتابة تاريخه من جديد، كما أغرى الشباب المتديّن والفتيات المتديّنات في المجتمعات الغربية، أو في المجتمعات المسلمة التي سلكت طريق الغرب في شكل الحياة الاجتماعية، بقوله لهم: “انضموا إلينا حتى تعيشوا الإسلامَ الذي حُرمتم منه في بلادكم العلمانية”.
داعش ووسائل التواصل الاجتماعي
لا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي بأشكالها المختلفة (فيس بوك – تويتر – إنستجرام – تيليجرام – يوتيوب.. إلخ)، تشكل جاذباً كبيراً للشباب في كافة أنحاء العالم، من هنا جاء استغلال التنظيم الإرهابي لتلك المواقع، لتحقيق أهدافه المتطرّفة وجلب المزيد من المجنّدين، خاصة بعد أن أثبتت تلك المنصاتُ قدرتَها على الحشد خلال موجة ما يعرف إعلامياً بـ”ثورات الربيع العربي”.
أضف إلى ذلك أنه من الممكن الاستفادة من هذه المنصات، في عملية تمويل التنظيم، من خلال الإعلانات التي توضع علي المحتوي التي تقوم بنشره على هذه المواقع، من خلال زيادة نسبة المشاهدة لهذه المحتويات، كما أن سرعة الأخبار المتداولة على وسائل التواصل وانتشارها بسرعة رهيبة، أفادت التنظيم بشكل كبير – على سبيل المثال – في السيطرة على الموصل عام 2014، حيث انتشرت أنباء عن سقوط الموصل في يد التنظيم قبل سقوطها الفعلي، ما بثّ الرعب في نفوس سكان المدينة والمدافعين عنها.
هناك ثغرات في بعض منصات التواصل الاجتماعي تسهّل للتنظيم نشر رسائله، مثل استخدام “الهاشتاج” على تويتر
ووصف “توماس إلكير” الخبير في مجال الاتصالات الاستراتيجية بكلية الدفاع الملكية الدنماركية، استراتيجية داعش على مواقع التواصل الاجتماعي، بـاستراتيجية “مضاعفة القوة”، لجعل التنظيم يبدو أكثر قوة مما هو عليه، ويتم تحقيق ذلك عبر تقديم محتوى كبير عبر منصات التواصل الاجتماعي، لضمان مشاهدته من قبل الفئات الاستراتيجية من الجمهور، وتتم ترجمة هذا المحتوى للغات مختلفة، ومحاولة إيجاد انطباع بوجود أعداد ضخمة من الموالين، للإيحاء بتمتّع التنظيم بتأييد اجتماعي، ما قد يؤدي لاكتساب التنظيم مزيداً من المؤيدين بالفعل على أرض الواقع، ومن بين سبل تحقيق ذلك الاعتماد على “ناشرين”، وهم أفراد على الرغم من عدم انتمائهم رسمياً لـ”داعش”، فإنهم يعيدون نشر “التويتات” الصادرة عنها والرسائل الأخرى بين آلاف المتابعين.
ورغم وجود ضغوطات على التنظيم وحساباته على تلك المواقع وحذف محتوياتها، إلا أنه يلجأ لعدة حيل لتفادي ذلك، أبرزها إنشاء حسابات وتطبيقات بديلة، وليس أدلّ على ذلك أكثر من مقولة لأحد أعضاء التنظيم الإرهابي: “إذا أغلقوا لكم حساباً واحداً اصنعوا ثلاثة، وإذا أغلقوا 3 اصنعوا 300 حساب”، واللجوء أحياناً إلى تطبيقات أكثر سرية لا رقابة عليها خاصة تطبيق “تيليجرام”.
ومن ناحية أخرى فإن هناك ثغرات في بعض المنصات تسهّل للتنظيم نشر محتوياته ورسائله، مثل استخدام “الهاشتاج” على تويتر، مما يسهل الوصولَ غلى المحتويات التي ينشرها التنظيم.
القيادات الإعلامية في التنظيم
الأهمية الكبيرة التي أولاها التنظيم للإعلام، خلقت لديه ما يشبه وزارةً للإعلام، كان المسئول عنها مَن يُعرف بـ”الدكتور وائل” أو “أبو محمد الفرقان”، والذي كان يعتبر أحد أبرز قيادات التنظيم، وكان أحد المقرّبين من مفاصل حساسة بالتنظيم، وقُتل في غارة عام 2016، ثم في فبراير 2018 أعلنت تركيا القبضَ على من يوصف بوزير إعلام التنظيم الإرهابي “عمر ياتاك” في العاصمة أنقرة.
وكان أبرز مسئوليات الفرقان، الإشراف على الإصدارات الدعائية التي يروّج فيها التنظيم لنفسِه، وتصوير عمليات القتل وقطع الرؤوس، والتي تهدف لاستقطاب مجنّدين جدد للانضمام إلى التنظيم.
إلى جانب ذلك يوجد متحدث رسمي باسم التنظيم، هو أبو الحسن المهاجر، الذي خلف أبا محمد العدناني، الذي قُتل بدوره في حلب عام 2016.
بالإضافة إلى ذلك.. يوجد “أحمد أبو سمرة”، المعروف بـ “أبي سليمان الشامي”، الذي كان مسئولاً عن الأفلام الوثائقية وإخراج الفيديوهات، وعن نشاط التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك كان محرراً بمجلة “دابق”، وقتل في يناير 2017.
المواد الإعلامية للتنظيم
الاحترافية العالية لدى إعلاميي داعش، كانت خلف إنتاج مواد دعائية عالية الجودة في فترة قوته وسيطرته
استخدم التنظيم الإرهابي أنماطاً مشابهة في رسائله الدعائية التي يبثها عبر وسائل إعلامه، والتي تشابهت في تكرار استخدام الرايات السوداء، والزي المتشابه لأعضاء التنظيم، كذلك استخدام لثام الوجه، وظهرت الفيديوهات التي تمثل مشاهد إعدامات هوليودية لأسرى من الجنود والمدنيين، وأبرز تلك المشاهد كان مشهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً في 2015.
الاحترافية العالية التي كانت لدى العناصر الإعلامية في داعش، كانت خلف إنتاج مواد دعائية عالية الجودة، في فترة قوته وسيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا، بل وبلغات عديدة وبإتقان شديد.
ظهرت الاحترافية كذلك في الإصدارات الصوتية والمقروءة للتنظيم الإرهابي، خاصة في مجلة “دابق” التي كانت مصممة بمهارة عالية
وكان من أشهر الفيديوهات التي بثها التنظيم، الخطبة التي ألقاها زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي في الموصل عام 2014، وفيديو إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، والعديد من مشاهد الإعدامات الميدانية التي بثها التنظيم، ما أوحى بفنيّات الإخراج العالية لدى التنظيم.
ولم يقتصر الأمر عند ذلك، بل ظهرت الأناشيد الخاصة بالتنظيم وأشهرها “صليل الصوارم”، الذي يُعدّ بمثابة الأنشودة الرسمية لأعضائه.
لم تكن الاحترافية حكراً على الفيديوهات فقط، بل ظهرت الاحترافية كذلك في الإصدارات الصوتية والمقروءة للتنظيم الإرهابي، خاصة في مجلة “دابق”، التي كانت تُخرج بمهارة واضحة، على غرار المجلات العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن داعش اعتمدت أيضاً في إنتاج محتوياتها الإعلامية، على تصوير المعارك الجارية في العراق وسوريا، وتوضيح العمليات الانتحارية التي كان يقوم بها أعضاء التنظيم، لتحقيق التمدّد الجغرافي.
ورغم وجود ملاحقات إلكترونية لمواقع التنظيم، إلا أنه سرعان ما كان ينشئ روابط بديلة لمنتجاته الإعلامية، فيتم بشكل دوري إنشاءُ مدوّنات ومنتديات بديلة.
عمل التنظيم على إيصال رسائل بعينها من خلال أدواته الإعلامية، هي:
أولاً: زراعة الخوف والرعب في نفوس سكان المناطق التي احتلها التنظيم، من خلال اللعب على العامل النفسي، لإحكام السيطرة عليهم.
ثانياً: إبراز قوة التنظيم العسكرية، والتنظيمية.
ثالثاً: الحفاظ على أن يكون التنظيم في صدارة المشهد الإعلامي العالمي، ما يساعده على الانتشار وجذب المزيد من المجنّدين.
انهيار منظومة إعلام داعش
ليس أدل على تراجع الإنتاج الإعلامي لداعش، أكثر من فيديو زعيمه البغدادي في أبريل 2019، مقارنة بما سيقه
بعد الهزائم المتوالية التي مُنِي بها التنظيم في العراق وسوريا، ثم القضاء على آخر معقل له في الباغوز، انعكس التراجع العسكري على الإنتاج الإعلامي للتنظيم الإرهابي، لعدة أسباب أهمها:
– غياب التمويل: فبعد أن كان التنظيم يموّل الإنتاج الإعلامي بميزانية ضخمة، أدّت الهزائم إلى افتقاد الإعلام الداعشي لهذا التمويل الذي كان يساعده في إنتاج وترويج محتوياته، حتى إنه كان يُقال إن المصوّرين والعاملين في المجال الإعلامي في التنظيم يأخذون رواتب يحسدهم عليها المقاتلون.
– خسارة التنظيم لعناصره المدربة على إنتاج المواد الإعلامية، خلال المعارك الكثيرة التي خاضها في الفترة الأخيرة.
– انتشار الوعي بخطورة التنظيم، مما جعله منبوذاً في كل الوسائل الإعلامية.
وليس أدلّ على التراجع الكبير في الإنتاج الإعلامي للتنظيم، أكثر من الفيديو الذي تم نشره في أبريل عام 2019، لزعيم التنظيم أبي بكر البغدادي، مقارنةً بالفيديو الذي تمّ بثه للبغدادي في الموصل منذ خمس سنوات.
ففي مقارنةٍ سريعة بين الاثنين، نجد أن الفيديو الخاص بالبغدادي عام 2014، يُظهِره على منبر مسجدٍ في الموصل، مُحاطاً بعشراتٍ من عناصر التنظيم، فرحاً بالانتصارات التي حقّقها في تلك الفترة، أما في الفيديو الأخير، فوفقاً لفرانشيسكو ماروني، الباحث في الإرهاب الدولي، فإن البغدادي يجلس في مكان مغلق خالٍ من الديكور، يتحدث بهدوء إلى ثلاثةٍ من مسئولي التنظيم تم حجبُ وجوههم، وهم يستمعون إليه، فيتّسم الفيديو بالبساطة والرزانة، ويغلب عليه الطابع الرسمي الجافّ، بجانبه بندقية تحمل دلالة رمزية معينة، مما يوضح مدى التغيير الكبير الذي حَلّ على الإنتاج الإعلامي الخاص بالتنظيم الإرهابي.
ختاماً.. فإن التجربة الإعلامية لتنظيم داعش الإرهابي، ما زالت موضع تحليل من قبل المتخصصين في الإعلام والتنظيمات الإرهابية، ويمكن الاستفادة من تلك التجربة في عدة نواحي، لضمان عدم تَكرارها مرةً أخرى، أهمها:
– توضيح كيف وصل هذا التنظيم لتلك القدرات الإعلامية الهائلة.
– أهمية قيام الأجهزة الإعلامية في الدول المتضرّرة من الإرهاب، بإنتاج موادَّ إعلاميةٍ للتوعية بخطورة التنظيمات المتطرفة، ومنتجاتها الإعلامية، وتمويل تلك الأجهزة ومدّها بالعناصر المدربة على ذلك.
– إنشاء منصّات للرد على أفكار التنظيمات المتطرفة، ونشرها على أوسع نطاق.