تحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مكانة خاصة لدى فرنسا، ليس فقط في السياسة الخارجية، ولكن أيضًا بالنسبة لمجتمعها وتاريخها وثقافتها، واتضح ذلك جليًّا في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017 حين تصاعد الجدل حول الدور الواجبِ على باريس لعبُه في تلك المنطقة الاستراتيجية.
ومنذ فوزه بالرئاسة، أعطى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دورًا مركزيًّا للشرق الأوسط في خطاباته المبكِّرة المتعلِّقة بالسياسة الخارجية وهو ما تأكَّد في مبادراته وتحرُّكاته خلال الأعوام الثلاثة الماضية، التي كان هدفها وضع فرنسا مجددًا على خريطة السياسة الدولية، بعد رئاسة فرانسوا هولاند التي نُظر إليها على نطاق واسع على أنها أدَّت إلى تراجع باريس دبلوماسيًّا.
وقد تفاوَتَتْ مظاهر الانخراط الفرنسي في الشرق الأوسط ما بين اللجوء إلى استخدام الأدوات السياسية والدبلوماسية والعسكرية في العديد من الملفات، أبرزها الأزمة الليبية والصراع حول موارد الطاقة في منطقة شرق المتوسط وأخيرًا الأزمة السياسية اللبنانية بعد انفجار مرفأ بيروت.
خصوصية العلاقات مع العالم العربي.. وسمات السياسة الخارجية الفرنسية
ووفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تعود السياسة الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى عدة مئات من السنين، إذ يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي، لكن ملامح السياسة الفرنسية ما بعد الحرب العالمية الثانية تبلورت في أعقاب أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، عندما سعى شارل ديجول إلى استعادة دور فرنسا وتأثيرها مع الدول العربية، وهو ما أصبح يُعرف لاحقًا باسم “السياسة العربية الفرنسية”، ولم تنتهج باريس سياسة متجانسة مع جميع الدول العربية، كما أنها تعاملت مع إيران وإسرائيل والأكراد كمحاورين رئيسيين في كثير من الحالات.
واتسمت السياسة الفرنسية في المنطقة بعدة سمات، من أبرزها إعطاء أهمية خاصة للعلاقات الشخصية على مستوى رئيس الدولة، واتباع نهج أبوي مع بعض الشركاء الإقليميين، والوجود العسكري الفرنسي الكبير في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ عام 1975 وأغلبه ضمن تحالفات أوسع أو مهام لقوات أممية، وأبرز تلك العمليات في العقد الأخير كان عملية “الحامي الموحد” لحلف شمال الأطلسي “الناتو” في ليبيا عام 2011، والمشاركة في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي في العراق وسوريا عام 2014، وفي البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2015 من خلال عملية صوفيا البحرية الأوروبية لصد المهاجرين غير الشرعيين القادمين من السواحل الليبية.
وعلى هذا، فإن المفتاح لفهم سياسة فرنسا الخارجية تجاه الشرق الأوسط هو أن باريس ترى المنطقة أولًا وقبل كل شيء كمنصة للسياسة الخارجية وممارسة سياسة القوى العظمى، كما تتمتَّع فيها بهامش واسع للمناورة.
ويشير معهد مونتين الفرنسي إلى أن الروابط بين فرنسا والشرق الأوسط لها تأثير هيكلي مهم، ومن مؤشراته:
- الحضور العربي في فرنسا فنحو 10% من سكان فرنسا ينحدرون من العالم العربي، وبخاصة المغرب العربي، والإسلام هو الديانة الثانية في البلاد.
- ثمة بُعْدٌ ثقافي مهمٌّ في العلاقة بين فرنسا والعالم العربي، إذ توجد استثمارات فرنسية ضخمة في مجال التعليم، حيث توجد معاقل للثقافة الفرانكفونية في منطقة شمال إفريقيا.
- يعتمد الاقتصاد الفرنسي على العالم العربي، وتتجه إليه نصف الصادرات من الأسلحة، وتستورد باريس منه الطاقة، ولا سيما النفط.
- يعيش 1.2 مليون فرنسي معظمهم مزدَوَجو الجنسية في منطقة الشرق الأوسط، لذا يؤثر عدم الاستقرار في المنطقة وانتشار خطر الإرهاب على فرنسا بشكل مباشر، حيث يتحوَّل البعض إلى التطرُّف ويلجأ إلى شن الهجمات الإرهابية، ممَّا يشكل خطرًا على أمن البلاد.
وفي هذا الإطار، يرى جوزيف باحوط، الباحث الزائر في برنامج كارنيجي للشرق الأوسط، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتبر الحديقة الخلفية الأقرب، حيث يمكن لفرنسا أن تلعب دورًا فعَّالًا، من شأنه أن يحظى بدعم الرأي الفرنسي المحلي، ربما لأنه يُعتقد بأن لذلك صلة مباشرة بالحرب ضد الإرهاب وبأمن الفرنسيين الخاص.
ويمكن القول بأن تصاعد الدور الفرنسي في الشرق الأوسط ارتبط بثلاثة محدِّدات رئيسية تتمثل فيما يلي:
- النفوذ الروسي المتصاعد في المنطقة كنتيجة للانخراط العسكري المباشر والدعم السياسي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في ظل الأزمة السورية.
- فك الارتباط بالسياسة الأمريكية في المنطقة في ظل التجاذبات بين باريس وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إزاء العديد من الملفات، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي انسحبت منه واشنطن.
- طموح فرنسا في الإمساك بزمام القيادة الأوروبية عند التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، فالرئيس ماكرون يُفصح بشكل علني عن أن هدفه يتمثل في الوصول إلى ما وصل إليه رؤساء كشارل ديجول وفرانسوا ميتران اللذين تَرَكَا بصمات فرنسية بارزة في الشؤون الدولية.
المزج بين الأدوات الدبلوماسية والعسكرية في تنشيط الحركة الفرنسية بالإقليم
وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، برزت التحركات الفرنسية الدبلوماسية وأيضًا العسكرية في العديد من القضايا الساخنة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط المشتعلة بالأزمات، ولعل من أبرزها الأزمة التي يمر بها لبنان حاليًّا، والتصدِّي للدور التركي التخريبي في ليبيا واستفزازات أنقرة في منطقة شرق المتوسط.
لبنان ومهمة بناء نظام سياسي جديد
لم يكن من قبيل المصادفة أن يصبح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول رئيس غربي يقوم بجولة على أطلال بيروت بعد الانفجار الكارثي الذي وقع في مرفأ بيروت، الذي أودى بحياة 190 شخصًا وأصاب أكثر من 6500 آخرين، ودمَّر أجواء واسعة من العاصمة اللبنانية، بل يمكن اعتبارها “خطوة طبيعية” نظرًا لتعاطي فرنسا مع لبنان كأنه “حصتها” في الإقليم، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان، فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، توجَّه الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك إلى بيروت لمواساة العائلة.
لكن ما يميِّز انفجار بيروت اقترانه بحالة غضب غير مسبوقة في الشارع اللبناني إزاء الوضع الاقتصادي المتردِّي والنخبة السياسية وميليشيا حزب الله، ممَّا شكَّل تربة خصبة لإطلاق الرئيس ماكرون دعوة واضحة إلى نظام سياسي جديد في لبنان، وتواكبت تلك الدعوة مع توقيع أكثر من 44 ألف لبناني على عريضة افتراضية تطالب بعودة الانتداب الفرنسي للبنان، في وقت لا تزال الجماعات المسيحية فيه بلبنان ترى في فرنسا نوعًا من القوة الحامية لها.
ورغم دعوة ماكرون، فقد استمرت حالة الجمود السياسي في لبنان، التي حالت حتى الآن دون تشكيل حكومة جديدة قادرة على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تحدق بالبلاد، ممَّا دفع الرئيس الفرنسي إلى التوجُّه مجددًا إلى بيروت حاملًا روشتة إصلاحات، تشمل في مقدمتها المصادقة على قانون يحارب الفساد وإصلاح سوق القطاع العام والطاقة، فضلًا عن القطاع المصرفي، لكن اللافت في تلك الزيارة أن أول لقاء مدرج على برنامجه السياسي المزدحم، هو لقاء مع الفنانة اللبنانية فيروز، حيث كُتب في برنامج الرئيس عبارة: “موعد على فنجان قهوة مع فيروز في أنطلياس”.
وتعد فيروز رمزًا وطنيًّا يجمع عليه اللبنانيون من مختلف الطوائف والفئات وتربطها علاقة قوية بفرنسا، إذ نالت فيروز أرفع الأوسمة الفرنسية، منها وسام قائد الفنون والآداب من الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران عام 1988، ووسام فارس جوقة الشرف من الرئيس الراحل جاك شيراك عام 1998.
وكان ماكرون قد كتب في تغريدة على حسابه بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” عبارة “بحبك يا لبنان” في ختام زيارته بعد انفجار بيروت، وهي عنوان أغنية شهيرة لفيروز صاحبت اللبنانيين طوال 15 عامًا من الحرب الأهلية.
ويعتبر ماكسيميليان فيلش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هايكازيان في بيروت، أن استعداد فرنسا الآن لمساعدة لبنان في الأزمة الحالية، سيقابل بموافقة في البلاد، مشيرًا إلى عدم وجود “أي أصوات في هذه المرحلة تفسر هذا على أنه تدخُّل ما بعد الاستعمار.”
ومن مؤشرات ذلك تصريحات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عشية زيارة ماكرون، التي قال فيها إن الحزب منفتح على مناقشة الاقتراح الفرنسي بشأن التوصل إلى “عقد سياسي جديد” في لبنان، لكنه رَهَنَ ذلك بأن يكون “بإرادة ورضا مختلف الفئات اللبنانية“، على حد تعبيره.
وبلا شك تعكس “المرونة الظاهرية” غير المعتادة من حزب الله حجم الضغوط التي تحاصره والرفض الشعبي لسلوكه وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، لا سيما وأن كثيرين في لبنان يعتبرون أن الحزب هو المسؤول الأول عن انفجار مرفأ بيروت، كما أن زيارة ماكرون تأتي بعد نحو أسبوع من إدانة محكمة دولية لـ”سليم عياش” عضو حزب الله في اغتيال رفيق الحريري.
مواجهة الانتهاكات التركية في ليبيا وشرق البحر المتوسط
لجأت فرنسا إلى استخدام الأدوات العسكرية في مقاربتها للتعامل مع الوضع المتأزم في شرق البحر الأبيض المتوسط، في ظل تنامي السلوك التركي العدائي في المنطقة واستمرار أعمال التنقيب غير المشروعة في مناطق متنازَع عليها مع اليونان.
وبينما يواصل الاتحاد الأوروبي التلويح بفرض عقوبات على أنقرة إذا لم يُسجَّلْ تقدُّمٌ في الحوار بين تركيا واليونان، انتهجت باريس سياسة الخط الأحمر، على حد تعبير ماكرون، الذي أكد في مؤتمر صحفي في 28 أغسطس الجاري، أن الأتـراك لا يأخذون في الاعتبار ولا يحترمون إلا ذلك، منددًا بالاستفزازات التركية في المتوسط، ومعتبرًا أن الاستراتيجية التي اتبعتها تركيا في السنوات الأخيرة لم تكن استراتيجية حليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ونشرت باريس في منتصف الشهر الجاري سفينتَيْن حربيَّتَيْن وطائرتَيْن من طراز رافال دعمًا لليونان التي تندد بعمليات البحث التركية “غير القانونية” عن موارد الطاقة في شرق المتوسط.
كما شاركت فرنسا في تدريبات مع قوات يونانية قبالة جزيرة كريت الجنوبية في 13 أغسطس، وبعد نحو أسبوع شاركت مع كل من إيطاليا واليونان وقبرص في مناورات بحرية شرق المتوسط في إطار مبادرة التعاون الرباعية (إس –كيو- إيه- دي).
واتصالًا بالاستفزازات التركية والدور التخريبي الذي تقوم به أنقرة في ليبيا، جاء اتهام فرنسا للبحرية التركية بارتكاب عمل عدواني ضد سفينة حربية فرنسية في البحر المتوسط، حيث أعلنت باريس أن سفينة تركية وجَّهت رادارَ استهدافٍ إلى فرقاطة فرنسية كانت تحاول وقف سفينة شحن يشتبه بأنها تنتهك حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا.
وتشير ناتالي لويسو، الوزيرة الفرنسية السابقة للشؤون الأوروبية في مقال نشره المجلس الأطلسي الأمريكي إلى أن هذه الحادثة العسكرية، وإن كانت خطيرة وغير مسبوقة، لكنها ليست مفاجأة، فتركيا تشن حربًا بالوكالة في ليبيا من خلال إرسال مقاتلين سوريين وتنتهك حظر الأسلحة على ليبيا وتخرق الالتزامات التي تعهدت بها في مؤتمر برلين بوقف التدخل في الصراع.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن تزايد الاهتمام الفرنسي بمنطقة الشرق الأوسط يرتبط بمصالح جيوستراتيجية لباريس في المنطقة، كما أنه يعكس إدراكًا واضحًا بأن عدم الاستقرار في المنطقة يؤثر حتمًا في أمن فرنسا، ولعل أبرز دليل على ذلك أن فرنسا كانت أكثر الدول تعرُّضًا للهجمات الإرهابية في أوروبا خلال ذروة نشاط تنظيم “داعش” الإرهابي في منطقة الشرق الأوسط، كما أن فرنسا تحتجز ثلثي السجناء المدانين في قضايا إرهاب على مستوى أوروبا، وفقًا لتقديرات المركز الدولي لدراسة التطرف التابع لجامعة كينجز كوليدج في لندن.
كما تعكس السياسة الفرنسية رغبةً في قيادة توجُّه أوروبي لتأسيس هوية أمنية أوروبية، كان أول مَن طرح فكرته الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتأسيس جيش أوروبي موحد، في ظل تصاعد انتقادات واشنطن لإسهامات الدول الأوروبية في حلف الناتو.