أدت جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” إلى تنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي على نطاقٍ واسعٍ، ويمثِّل الالتزام بالتباعُد تحدِّيًا خاصًّا للمراهقين، الذين يعتبرون التفاعل مع أقرانهم مهمًّا بشكلٍ خاصٍّ.
وتنطوي مخالفة قواعد التباعد الاجتماعي على مخاطرة، حيث تعرِّض صحة مَن يخالف القواعد وغيرهم للخطر في العديد من الأماكن، فضلًا عن عواقبَ قانونيةٍ مثل الغرامات المالية.
وللتغلُّب على تلك المشكلة تبرُز أهمية تسخير قدرة الشباب على أن يشجِّع بعضُهم بعضًا على مراعاة قواعد التباعد الاجتماعي، ويوصي باحثون بأن تلجأ هيئات الصحة العامة إلى التفكير في تحفيز المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لتشجيع المراهقين على اتِّباع المبادئ التوجيهية للتباعد الاجتماعي.
تأثير الأقران في السلوك الاجتماعي للمراهقين
في 12 مارس الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” جائحة عالمية، واستجابةً لذلك نفَّذت الحكومات في جميع أنحاء العالم عددًا من التدابير للحدِّ من انتشار المرض، تضمَّنت إغلاق الأماكن العامة والمدارس والجامعات، والحدَّ من التفاعلات وجهًا لوجهٍ من خلال “التباعد الاجتماعي” القسري.
وبينما يلتزم العديد من الأشخاص بالمبادئ التوجيهية، فإن البعض ليس كذلك، وعلى وجه الخصوص من الصعب إقناعُ بعض الشباب بالامتناع عن لقاء الأصدقاء والمشاركة في التجمُّعات، فعلى سبيل المثال أفادت تقاريرُ صحفيةٌ عديدةٌ تجمُّعَ الطلاب الأمريكيين في مجموعاتٍ كبيرةٍ خلال عطلة الربيع.
وغالبًا ما ترتبط المراهقة، وهي فترةٌ حَرِجَةٌ ما بين سن 10 و24 عامًا، بزيادة المخاطرة والحاجة المتزايدة إلى التواصل الاجتماعي مع الأقران، وكذلك زيادة الحساسية لتأثير الأقران، وتعني هذه العوامل أن الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي قد يكون تحدِّيًا خاصًّا للشباب.
وبحثت دراسةٌ جديدةٌ لجامعة كامبريدج البريطانية نُشرت في دورية “Trends in Cognitive Sciences” تأثير الأقران المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي في سلوكيات المراهقين المعرَّضين للخطر، وكيفية التوظيف الإيجابي لهذه الظاهرة عبر تشجيع الشباب على اتباع تدابير التباعد الاجتماعي.
وليس بالضرورة أن يكون التأثير الاجتماعي للمراهقين له عواقبُ سلبيةٌ دائمًا، فالشاب يكون أقلَّ عرضةً للانخراط في سلوكٍ محفوفٍ بالمخاطر إذا قام صديق بإثنائه عن القيام بذلك. كما يتأثر المراهقون اجتماعيًّا أكثر من البالغين للانخراط في سلوكياتٍ اجتماعيةٍ (افتراضيةٍ) إجراميةٍ، وهم أكثرُ عرضةً للتطوُّع في المجتمع، إذا قيل لهم إن أقرانهم يتطوَّعون.
ويمكن القول بأن المراهقين عرضة بشكلٍ خاصٍّ لتأثير الأقران لعدة أسباب:
– يتطلَّع المراهقون إلى أقرانهم لفهم الأعراف الاجتماعية، وينسِّقون سلوكَهم بمرور الوقت مع معايير مجموعتهم أو المجموعة التي يريدون الانتماء إليها وهي عمليةٌ تُعرَفُ باسم التنشئة الاجتماعية للأقران.
– قد يسعى المراهقون إلى اكتساب مكانةٍ اجتماعيةٍ، وهي نتيجةٌ محتمَلَةٌ للتوافُق مع أقرانهم.
– يميل المراهقون إلى أن يكونوا شديدي الحساسية للآثار السلبية للإقصاء الاجتماعي، لذا يسعَوْن للتوافُق مع معيار المجموعة، ممَّا يعني في بعض الأحيان تحمُّلَ قدرٍ من المخاطرة، لتجنُّب هذه النتيجة الاجتماعية غير السارة، بحيث تفوق الرغبة في تجنُّب المخاطر الاجتماعية المتمثلة في النبذ أو التخلُّف عن الرَّكْب، العواقبَ السلبية المحتملة المرتبطة بالمخاطر الصحية أو السلوكيات غير القانونية.
وبالتالي فإن القابلية لتأثير الأقران -سلبًا أو إيجابًا- لها آثارٌ مهمةٌ على سلوك المراهقين في الأزمة الحالية بفعل فيروس كورونا المستجد.
وفي سياق تدابير التباعد الاجتماعي، إذا خالف أصدقاء المراهق هذه القواعد واجتمعوا وجهًا لوجه، فقد يشعر المراهق بأنه أكثرُ مَيْلًا للقيام بذلك أيضًا.
وعلى نفس المنوال، قد يؤثر المراهقون في الأزمة الحالية أيضًا على بعضهم وبعض بطريقةٍ إيجابيةٍ، بحيث يمكن للأقران التأثيرُ على المراهقين للتصرُّف بشكلٍ أكثرَ إيجابيةً، وإقناعهم بتطبيق قواعد التباعد الاجتماعي بين الشباب.
محدودية تأثير التدخُّلات التقليدية عبر كبار السن
التدخلات والحملات التي تهدف إلى التأثير على سلوك المراهقين غالبًا ما تكون غير ناجحة، وتعتمد العديد من هذه التدخلات على النظرية القائلة بأن زيادة معرفة المراهقين ووعيهم ببعض المخاطر الصحية سيؤدِّيان إلى تغييراتٍ إيجابيةٍ في السلوك.
وتشير دراسة جامعة كامبريدج إلى أن هذه التدخُّلات التقليدية، التي يقودها الكبار في الغالب، غالبًا ما تكون غير ناجحةٍ أو محدودة التأثير، لكنه يكون من المرجَّح أن تؤدي التدخلات إلى تغييرٍ في سلوك المراهقين عندما تقوم على احترام استقلالية المراهقين ومراعاة ما يقدرونه.
وفي ظل الوباء الحالي، كانت الحملات لفرض التباعد الاجتماعي بقيادة الحكومات، ويتولَّى تنفيذَها البالغون كالآباء والمعلمين ورجال الشرطة. ولذلك تتمثَّل أحد الأساليب الممكنة لتعزيز فعاليتها في تزويد المراهقين بالاستقلالية الذاتية لتطوير وتنفيذ حملاتهم الخاصة، مع التركيز على تغيير مواقف الأقران حول أهمية التباعد الاجتماعي.
وتم إثبات هذه العملية بنجاحٍ من خلال دراسةٍ سابقةٍ استَخْدَمَت نهجًا بقيادة الأقران لتقليل معدلات إيذاء المراهقين في المدارس.
واستخدمت تلك الدراسة تحليلًا للشبكة الاجتماعية للعثور على الطلاب المحبوبين بشكلٍ كبيرٍ والذين تتراوح أعمارهم بين 11 و15 عامًا، إذ تم اختيارُهم لتطوير حملاتٍ مضادَّةٍ للتسلُّط بين أقرانهم. وخلال العام التالي، كان هناك انخفاض بنسبة 25٪ في معدَّلات الإيذاء في هذه المدارس مقارنةً بالمدارس التي لم تطبّق فيها الحملات.
وقد لُوحِظتْ نجاحاتٌ مماثلةٌ لبرامجِ التدخُّل التي يقودها المراهقون والتي تهدف إلى الحد من التدخين والمخدرات والكحول، مقارنةً بالاكتفاء بفرض ضوابطَ على المراهقين.
وسائل التواصل الاجتماعي الطريق الأكثر فاعليةً لتعزيز التباعد الاجتماعي بين المراهقين
نظرًا للقيود الحالية على التفاعلات وجهًا لوجه، من المرجَّح أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي هي الطريقة الأكثر فاعليةً لتعزيز سلوكيات التباعد الاجتماعي بين المراهقين. قد ينشر الشباب محتوًى عبر الإنترنت حول كيفية اتباعهم للقواعد؛ على سبيل المثال، من خلال مشاركة صورة أو فيديو لأنفسهم في المنزل.
وعلى منصات مثل “إنستغرام- Instagram”، يمكنهم إضافة وسوم للتباعد الاجتماعي إلى المنشورات، وسيطَّلِعُ زملاؤهم على ذلك، ويتفاعلون معها من خلال التعليقات وإبداء الإعجاب، مما يزيد من الزخم حول القضية.
وعندما يرى المزيد من المراهقين هذا المحتوى، يمكن أن يصبح التباعد الاجتماعي معيارًا جماعيًّا بين الأصدقاء، ويقوموا بنشر محتوًى مماثلٍ بأنفسهم.
وتتمثَّل إحدى مزايا هذا النهج في أن المراهقين يستقلُّون بأنفسهم ويقودون جهود تطبيق التباعد الاجتماعي في أوساط الشباب، لذلك تُوصي الدراسة بأن تنظر هيئات الصحة العامة في استهداف وتحفيز الأشخاص المؤثِّرين عبر الإنترنت (أي أولئك الذين لديهم القدرة على نشر المعلومات بين شبكة اجتماعية كبيرة عبر الإنترنت).
فعلى سبيل المثال قد يكون من المفيد بشكلٍ خاصٍّ اجتذابُ “المؤثرين” على وسائل التواصل الاجتماعي، والأفراد الذين لديهم حضورٌ قويٌّ على الإنترنت وعدد كبير من المتابعين المراهقين، للانضمام لتلك الجهود.
وإذا كان هؤلاء الأفراد يصنعون سلوكًا إيجابيًّا للتباعد الاجتماعي ويظهرون خطر كورونا من خلال منصتهم، فقد يستمع المراهقون.
تتمثَّل ميزة استهداف المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في وجودهم عبر عددٍ من المجالات ذات الأهمية، على سبيل المثال، هوايات مختلفة، وبالتالي من المحتمل أن يكونوا قادرين على استهداف مجموعاتٍ كبيرةٍ ومتنوِّعةٍ من الشباب.
وأخيرًا، على الرغم من أن فيروس كورونا يبدو أنه يشكِّل خطرًا منخفضًا على المراهقين أنفسهم، فإن استعدادهم لاتباع إرشادات التباعد الاجتماعي أمر ضروري للحد من المخاطر على الأشخاص الآخرين.
ويمكن أن تكون حساسية المراهقين لتأثير الأقران مفيدةً ويجب تسخيرُها من خلال حملات الصحة العامة لزيادة التباعد الاجتماعي.
وتقترح الدراسة أن المراهقين أنفسهم لديهم قدرةٌ كبيرةٌ على أن يؤثِّر بعضُهم في بعض لتغيير المعايير وتوقعات الأقران نحو أهداف الصحة العامة.
ومن المهم بشكلٍ خاصٍّ تزويدُ الشباب بالقدرة على قيادة وتنفيذ أفكارهم الخاصة داخل شبكاتهم الاجتماعية.
إن مطالبة المراهقين بالابتعاد عن أصدقائهم في فترةِ نموٍّ رئيسيةٍ تمثِّل تحدِّيًا كبيرًا، ولكنْ يمكنُ تحقيقُه من خلال الاستفادة من التأثير الاجتماعي للمراهقين أنفسهم.