تقدير موقف

تضامُن السعودية مع مصر المَغْزَى والدلالات

تلعب المملكة العربية السعودية ومصر دورًا حيويًّا في الحفاظ على الأمن القومي العربي، دورًا يرسِّخه التاريخ وتحتِّمه حقائق الجوار الجغرافي والمصلحة المشتركة، وتفعِّله عناصر القوة الشاملة والمكانة والنفوذ والتأثير التي يتمتع بها البلدان الشقيقان على الساحتين الإقليمية والدولية.

وتدرك القيادة السياسية في كلٍّ من الرياض والقاهرة أن الأمن القومي العربي خلال العقد الأخير الذي شهد ما سُمِّي بـ”ثورات الربيع العربي”، بات محاطًا بحزامٍ من نار تجسِّده أطماع القوى الإقليمية ومخططات قوى الشر للانقضاض على ثروات الشعوب العربية.

وتُعَدُّ ليبيا الآن نموذجًا لحالة التفكك المؤسَّسى والتناحُر الداخلي، وهو ما استغلَّتْه تركيا بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي اعتبر ليبيا ساحة جديدة لتضخيم مساحة الدور الإقليمي التركي، وفرصة للنفاذ إلى ثروات البلاد ونهب خيراتها، وورقة لمناكفة وإزعاج مصر التي وجَّهت ثورة شعبها في 30 يونيو 2013 ضربةً قاسمةً لأحلام أردوغان ومشروع جماعة الإخوان الإرهابية وتيار الإسلام السياسي بوجهٍ عامٍّ.

محددات أساسية لموقف الرياض والقاهرة من الأزمة الليبية

يرتكز الموقف السعودي والمصري تجاه الأزمة الليبية على مجموعة من المحددات الأساسية، أبرزها:

– النظر إلى الأنشطة التركية في المنطقة على أنها تهديد للأمن للقومي العربي ومحاولة لتطويق النفوذ التقليدي للبلدين، وبذلك فإن الدور التركي لا يختلف عن الأنشطة الإيرانية والمساعي المتعلقة بالتغلغل والسيطرة على صنع القرار في العواصم العربية عبر وكلاء.

– المحافظة على وحدة الأراضي الليبية وسلامتها ومقدراتها وثرواتها، وكذلك الحفاظ على الدولة وتوحيد مؤسساتها عبر تفكيك الميليشيات المسلحة وخروج كل المرتزقة من الأراضي الليبية.

– الحل السياسي باعتباره المخرج الوحيد من الأزمة الليبية، مما يستلزم تغليب الفرقاء الليبيين للمصلحة الوطنية وعدم الارتكان إلى حسابات سياسية ضيقة.

– دعم المؤسسات الشرعية المنتخبة ممثَّلة في مجلس النواب الليبي، والدفاع عن مصالح الشعب الليبي في كل المحافل والمؤتمرات الإقليمية والدولية، فضلًا عن دعم جهود الجيش الوطني الليبي في محاربة الإرهاب وكل مَن يرفع السلاح في وجه الدولة.

 مصر ترسم خطوطًا حمراءَ تُربك التحرُّكات التركية في ليبيا

شكَّل الخطاب الأخير للرئيس المصري عبد الفتاح السيسى حول ليبيا، رسالةَ تحذيرٍ شديدةَ اللهجة للعربدة التركية، حيث أكد أن الجيش المصرى قادر على الدفاع عن مصر داخل وخارج حدودها، وأن أي تدخُّل مصري مباشر في ليبيا بات شرعيًّا في إطار حق الدفاع النفس.

كما أن الرئيس السيسي وضع خطًّا أحمرَ في ظل التطورات المتلاحقة على الأرض بقوله “إن تجاوز مدينتي سرت والجفرة في ليبيا خط أحمر بالنسبة لمصر”، مُعبرًا أيضًا عن جاهزية مصر لتدريب القبائل الليبية لحماية نفسها من الميليشيات والمتطرفين.

وتتمتع سرت والجفرة بأهمية استراتيجية على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، مما يجعلهما بمثابة نقطة فاصلة في مسار الصراع الليبي، إذ تقع مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) في منتصف الساحل الليبى وتتوسط أكبر مدينتين فى ليبيا العاصمة طرابلس وبنغازي (ألف كلم شرق طرابلس) عاصمة إقليم برقة في الشرق.

وتقع سرت شمال قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق طرابلس)، ولا تفصلها عنها سوى طريق مفتوح لا يتجاوز 300 كلم، وهي مسافة ليست طويلة جدًّا بمعايير الصحراء.

وتجعل السيطرة على سرت الطريق مفتوحًا للسيطرة على الموانئ النفطية، إذ لا يبعد أقرب ميناء نفطي (السدرة) عنها سوى 150 كلم.

كما أنها البوابة الغربية لمنطقة “الهلال النفطي”، والطريق الذي يجب على أي طرف أن يسيطر عليه ليتمكن من الوصول إلى موانئ زويتينة وراس لانوف والسدرة والبريقة، حيث يوجد 11 خط نفط و3 قنوات غاز.

ومن خلال الاستيلاء على سرت، يمكن السيطرة بسهولة على امتداد ساحلي بطول 350 كيلو مترًا على طول الطريق إلى بنغازي، حيث تكثر خطوط الأنابيب والمصافي والمحطات ومرافق التخزين.

وكانت سرت خلال الأسابيع القليلة الماضية محورًا رئيسيًّا لاتصالاتٍ تركيةٍ مع روسيا، فعلى سبيل المثال في 8 يونيو الجاري، أعلن أردوغان أن “سرت والجفرة وحقول النفط الرئيسية” هي الأهداف التالية لميليشيات الوفاق المدعومة من أنقرة، واعترف بأن روسيا “منزعجة” من ذلك قائلًا إنه سيناقش الأمر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وتسعى تركيا إلى وجود عسكري دائم في ليبيا، وتتطلَّع إلى قاعدة الوطية وقاعدة بحرية في مصراتة، وقاعدة القرضابية الجوية بالقرب من سرت، بينما تسعى روسيا لوجودٍ في سرت للحصول على موضع قدم في جنوب البحر المتوسط، بعد الحصول على قواعد في طرطوس واللاذقية في سوريا.

أمَّا مدينة الجفرة فهي ذات أهمية بالغة وموقع استراتيجي، حيث تقع وسط ليبيا وتربط الجنوب بالشمال ومدنًا ببعضها عبر شبكة طرق رئيسية. وبقربها تقع حقول نفطية وبمسافة ليست ببعيدة منظومة النهر الصناعي، وهي تعتبر العاصمة العسكرية للنظام الليبي في عهد العقيد الراحل معمر القذافي وبها مخازن للأسلحة ومطار عسكري.

 دعم سعودي كامل لحق مصر في حماية حدودها الغربية من الإرهاب

وفي رسالة قوية وواضحة، أعلنت المملكة العربية السعودية أن أمن جمهورية مصر العربية جزءٌ لا يتجزَّأ من أمن المملكة والأمة العربية بكاملها.

وأكد بيان صادر عن وزارة الخارجية السعودية يوم السبت الموافق 20 يونيو 2020م وقوفَ المملكة مع مصر في حقِّها في الدفاع عن حدودها وشعبها من نزعات التطرُّف والميليشيات الإرهابية وداعميها في المنطقة، مُضيفًا تأييد المملكة لما أبداه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه من حق مصر حمايةُ حدودها الغربية من الإرهاب.

ودعت المملكة العربية السعودية عبر بيانها المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته والاستجابة لدعوات ومبادرة الرئيس السيسي للتوصُّل إلى حل شامل يحفظ أمن الأراضي الليبية واستعادة المؤسسات والقضاء على الإرهاب والميليشيات المتطرفة، ووضع حد للتدخُّلات الخارجية غير الشرعية والتي تُغذِّي الإرهاب في المنطقة.

حمل بيان المملكة مجموعة من الدلالات، أهمُّها:

صدور بيان المملكة بعد ساعات قليلة من تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يُؤكد وجود تنسيقٍ كاملٍ ومستمرٍّ في المواقف بين البلدين.

لن تقبل المملكة العربية السعودية بأيِّ شكلٍ من الأشكال تهديد الأمن القومي المصري، وأنها ستقدم كل أشكال الدعم لتحرُّكات القاهرة بما فيها العسكرية للحفاظ على أمنها واستقرارها.

تؤكِّد المملكة أنه إذا كان الخطر يُهدد مصر في هذه المرحلة، فإن المستهدَف في المراحل اللاحقة هو الأمن القومي العربي.

تأييد كلٍّ من السعودية ومصر الحلَّ السياسيَّ السلمي للأزمة الليبية، خاصة مع إشارة البيان إلى أنه سبق للمملكة تأييدُها مبادرةَ إعلان القاهرة بشأن ليبيا التي جرى الإعلان عنها بتاريخ 6 يونيو الجاري، والتي سعت إلى التوصُّل لحل سياسي للأزمة الليبية ووقف إطلاق النار وحقن الدماء، والمحافظة على وحدة الأراضي الليبية.

التوصُّل إلى الحل السياسي قد يتطلب تدخُّلًا عسكريًّا لوقف التصعيد من جانب حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج المدعوم تركيًّا.

رفض المملكة التام للتدخل التركي في ليبيا، وقناعتها بأن هدف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتخطَّى التعاون الاقتصادي أو الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية كما يدَّعي، وإنما يسعى إلى دعم الجماعات الأصولية والميليشيات المسلَّحة والمرتزقة الموجودة في ليبيا، ليس هذا فحسب، بل ويقوم بنقل المزيد من المتطرفين الموجودين في سوريا بهدف تأسيس كيان أيديولوجي على الأراضي الليبية لإعادة إحياء المشروع الإخواني.

تأكيد المملكة ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته في ليبيا، خاصة أن ما يحدث على أراضيها هو تعزيز لوجود المتطرفين والإرهابيين، ولذلك فإن مكافحة السلوك التركي في ليبيا هو امتداد للجهود الدولية في مكافحة الإرهاب.

ثقل المملكة على الساحة الدولية يحشد تأييدًا واسعًا للموقف المصري

كالعادة فإن المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية تتحمَّلان عبء الحفاظ على الأمن القومي العربي، ولذلك دائمًا ما تكون المملكة سبَّاقة في دعم وتأييد الموقف المصري.

وممَّا لا شك فيه أن هذا الدعم السعودي أكسب موقف القاهرة قوةً كبيرةً، نظرًا للمكانة التي تتمتع بها المملكة على المستويين الإقليمي والدولي، وجاءت صيغة البيان السعودي لتُؤكِّد أن المملكة ستقف بثقلها إلى جانب مصر، الأمر الذي سيترتب عليه تغيير موازين القوى على الأرض، كما سينعكس على مواقف الدول، ومن أمثلة ذلك:

بيان المملكة الداعم للموقف المصري سيُشجِّع عددًا من الدول الخليجية على إعلان مواقف مشابهة (حدث بالفعل من جانب الإمارات والبحرين).

تستطيع المملكة العربية السعودية حشد موقف عربي وإسلامي متضامن مع الموقف المصري في المحافل الدولية.

تمتلك السعودية -رئيسة قمة مجموعة العشرين 2020م- قوةَ التأثير على المستويين الإقليمي والدولي، ولديها علاقات وطيدة ثنائية ومتعددة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

تتمتع المملكة العربية السعودية بثقةٍ ومصداقيةٍ كبيرةٍ تجعل موقفها محل تقدير واحترام الجميع.

إن بيان المملكة يُؤكد أن مصر لن تقف بمفردها في وجه التحديات والمخاطر التي تتعرض لها، ولذلك فإن دعم الرياض للقاهرة سيُسهم في تهيئة البيئة الإقليمية والدولية لتبنِّي خيار المفاوضات.

وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، فإن السيناريوهات المتوقَّعة في هذا الشأن تتمثَّل فيما يلي:

الأول: تحرُّك المجتمع الدولي لتعزيز الحل السياسي السلمي، بعدما كشف الموقفان المصري والسعودي عن جديتهما في عدم التخلِّي عن ليبيا، وعدم السماح بوجود الجماعات المتطرفة، والعمل على الحفاظ على أمنها واستقرارها ووحدة أراضيها بكلِّ الطرق الممكنة، مع عدم استبعاد أي خيار في سبيل تحقيق ذلك، وبالتالي فإن هذه الجدية سيكون لها دورٌ في تحرُّك المجتمع الدولي والأمم المتحدة لإجبار مختلف الأطراف المعنيَّة، على الجلوس على طاولة المفاوضات.

وقد ظهرت العديد من المواقف الإقليمية والدولية المؤيدة للرؤية المصرية المدعومة سعوديًّا والقائمة على ضرورة التوصل إلى حل سياسي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

كما أن العديد من الدول الأوروبية ترى أن التمكُّن التركي في ليبيا سيُعطي أردوغان ورقة ضغط إضافية ضدها فيما يخص ملف الهجرة غير الشرعية واستغلالها أسوةً بما فعل مع اللاجئين السوريين، فضلًا عن أن التأثير السلبي لعدم استقرار الوضع في ليبيا وانتشار العناصر المتطرِّفة سينعكس على أمن دولهم، ولذلك ترى هذه الدول، ومنها فرنسا، أن الحل السلمي هو الأفضل.

إلا أنه من المتوقع أن يواجه هذا السيناريو تَعنُّتًا تركيًّا، خاصة أن تحركها في ليبيا تحكمه أحلام توسعية بجانب المطامع الاقتصادية والسياسية، ولا يعنيه مصلحة الدولة الليبية أو المواطنون.

ومن دلائل ذلك، أنه عقب كلمة الرئيس المصري، وضعت تركيا في اليوم ذاته شرطًا للتوصُّل إلى وقف إطلاق النار في ليبيا، حيث أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية ضرورة انسحاب قوات الجيش الوطني الليبي من مدينتي سرت والجفرة.

وتسعى تركيا بكلِّ قوة لفرض وجودها في ليبيا كأمرٍ واقعٍ، ومن ضمن هذه المساعي إمكانية عقد صفقة مع الجانب الروسي، تسمح فيها أنقرة بإخراج التنظيمات الإرهابية المتطرفة الموالية لها في إدلب السورية مقابل إفساح موسكو المجال لها في التمدد ليبيًّا، إلا أن هذه المقايضة تَلْقَى رفضًا روسيًّا حتى الآن، خاصة السماح لتركيا في السيطرة على مدينة سرت.

وقد تُمارس الرياض ضغوطها على موسكو من أجل إفشال المساعي التركية.

الثاني: ارتفاع وتيرة التصعيد العسكري، وهو سيناريو أقرب للحدوث بالمعطيات الحالية، خاصة في ظل المغامرة التركية التي تقود حربًا بالوكالة على الأراضي الليبية، فضلًا عن أن السراج أداة طيِّعة في يد أردوغان الذي سيعمل على توتير الأوضاع وإذكاء الخيار العسكري، وذلك من منطلق أن الحل السياسي سيكون مقرونًا بخروج الميليشيات الإرهابية والجماعات المسلحة من الأراضي الليبية، وبالتالي فإن التوصل إلى حل سلمي للأزمة سيجعل الوجود التركي بالصيغة الحالية غير مرغوب فيه، وهو ما أكدته كلمة الرئيس المصري والبيان السعودي.

وممَّا يُعزِّز هذا الاحتمال أن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي دعَّمتْها المملكة بشكلٍ كاملٍ أكدت أن مدينتي سرت والجفرة تُشكِّلان الخط الفاصل الذي سيُؤدي تجاوُزُه إلى التدخل العسكري المصري، وفي المقابل تُعتبر سرت هدفًا استراتيجيًّا لأردوغان.

وفي هذا الصدد، قال الناطق باسم غرفة عمليات سرت والجفرة إن قوات حكومة الوفاق عازمة على تحرير كامل المنطقة من قوات الجيش الوطني الليبي وداعميه. كما رفضت حكومة السراج بيان الرئيس السيسي واعتبرتْه بمثابة إعلان حرب.

زر الذهاب إلى الأعلى