عززت خطورة جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” الحاجة إلى صحافة موثوقة ودقيقة يمكن أن تثقِّف وتعلِّم الأفراد في ظل ظرف صحي طارئ غير مسبوق في العصر الحديث، كما ذكَّرت أيضًا بأنَّ التعرُّض إلى مصادر مفتوحة للمعلومات قد يكون ساحةً خصبةً للمؤامرات والتضليل.
لم تعد وسائل الإعلام التقليدية مصدرًا أوحد لتلقِّي المعلومات، فالاعتماد الأكبر حاليًّا على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الأخرى، ممَّا يمكِّن رواد تلك الموقع من الوصول إلى مجموعة أوسع من المصادر و”المعلومات البديلة”، التي قد تكون مضللة أو خاطئة، حيث يتعارض بعضها مع النصائح الرسمية.
ومن هذا المنطلق رَصَدَ معهد رويترز لدراسة الصحافة وجامعة أكسفورد في تقرير الأخبار الرقمية السنوي لعام 2020، القضايا الرئيسية التي تواجه صناعة الأخبار في وقتٍ من عدم اليقين غير المسبوق، استنادًا إلى بيانات من40 دولةً ممثِّلةً لـ 6 قارات.
وشمل التقرير 24 دولة أوروبية وهي بريطانيا والنمسا وبلجيكا وبلغاريا وكرواتيا والتشيك والدنمارك وفنلندا، وفرنسا وألمانيا واليونان وبلغاريا وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج وبولندا والبرتغال ورومانيا وسلوفاكيا وإسبانيا والسويد وسويسرا وتركيا.
ودولتان من أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك)، مقابل 4 دول من أمريكا الجنوبية (الأرجنتين والبرازيل وكندا وتشيلي).
و7 دول آسيوية (اليابان وماليزيا والفلبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج) ودولتان إفريقيتان (كينيا وجنوب إفريقيا) وأخيرًا أستراليا. وقد تم جمع العينات في كل دولة من خلال حصصٍ تمثيليةٍ للعمر والجنس والمنطقة والتعليم.
الثقة في وسائل الإعلام أكثر من ضعف مستوى الشبكات الاجتماعية
واعتبر التقرير أن أزمة فيروس كورونا أدت إلى زيادةٍ كبيرةٍ في استهلاك الأخبار عبر وسائل الإعلام الرئيسية في جميع البلدان التي تناولها عبر مسوحات قبل وبعد انتشار الجائحة، حيث شهدت الأخبار التليفزيونية والمصادر عبر الإنترنت ارتفاعًا ملحوظًا، بينما انخفض استهلاك الصحف المطبوعة، لأن عمليات الإغلاق قوَّضت توزيعها، مما يسرع بالتأكيد بالتحوُّل إلى مستقبلٍ رقميٍّ بالكامل.
وفي الوقت نفسه، ازداد استخدام الشبكات الاجتماعية بشكلٍ كبيرٍ في معظم البلدان، كما شهد تطبيق “واتس آب – WhatsApp” أكبر نموٍّ بشكل عام مع زيادات بلغت نحو 10% في بعض البلدان، في حين استخدم 51% من عينة الدراسة التي جرت عبر 40 دولةً، نوعًا من المجموعة المفتوحة أو المغلقة عبر الإنترنت للتواصل أو مشاركة المعلومات.
واعتبارًا من شهر أبريل، باتت الثقة في تغطية وسائل الإعلام لفيروس كورونا مرتفعة نسبيًّا على مستوى الحكومات الوطنية في جميع البلدان وأعلى بكثير من السياسيين الأفراد.
وكانت الثقة في وسائل الإعلام أكثر من ضعف مستوى الشبكات الاجتماعية أو منصات الفيديو أو خدمات المراسلة، عندما يتعلق الأمر بمعلوماتٍ حول كورونا.
ولا تزال المخاوف العالمية بشأن المعلومات الخاطئة عالية، فقبل أن تضرب أزمة كورونا العالم، قال أكثر من نصف عينة الدراسة إنهم قلقون بشأن ما هو صواب أو خطأ على الإنترنت عندما يتعلق الأمر بالأخبار، وكان السياسيون المحليون هم المصدر الوحيد الأكثر شيوعًا للمعلومات الخاطئة، على الرغم من أنه في بعض البلدان -بما في ذلك الولايات المتحدة- يُلقي المنتمون للتيار اليميني باللوم على وسائل الإعلام.
وتوضح الدراسة أن “فيسبوك- Facebook” قناة رئيسية لنشر المعلومات الخاطئة في كل مكان تقريبًا، بينما في النصف الجنوبي من العالم في دول مثل البرازيل وماليزيا يُنظر إلى “واتس آب- WhatsApp” على أنه مسؤول أكثر عن المعلومات الخاطئة.
ووفقًا لنتائج استطلاع عالمي أجراه معهد رويترز لدراسة الصحافة وجامعة أكسفورد في يناير الماضي، رأى 38% (أقل من أربعة من كل عشرة) أنهم يثقون بمعظم الأخبار معظم الوقت، مما يشكِّل انخفاضًا بنسبة 4% عن عام 2019.
ويظهر الاستطلاع أيضًا أن 60% من المشاركين فيه ما زالوا يفضلون الأخبار الخالية من التوجيه وأن 28% يفضلون الأخبار التي تشارك أو تعزِّز وجهات نظرها.
وبينما تتكيَّف وسائل الإعلام الإخبارية مع أنماط التواصل السياسي المتغيرة، فإن 52% من عينة الدراسة يفضلون الإبلاغ عن التصريحات الكاذبة الصادرة عن السياسيين بدلًا من التأكيد عليها.
كما أن الأشخاص أقل ارتياحًا للإعلانات السياسية عبر محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي مقارنةً بالإعلانات السياسية على شاشة التليفزيون، ويفضل 58% من عينة الدراسة أن تحظر المنصات الإعلانات التي يمكن أن تحتوي على ادعاءات غير دقيقة، حتى إذا كان ذلك يعني أنهم في النهاية سيقررون ما هو حقيقي.
توقعات بتخطِّي إنستغرام لتويتر كمصدر للأخبار
ورصدت الدراسة أيضًا زيادات كبيرة في الدفع مقابل الأخبار عبر الإنترنت في عدد من البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة بواقع 4% لتصبح النسبة الإجمالية 20%، والنرويج بواقع 8% لتصبح النسبة الإجمالية 42%، مع زيادات أقل في مجموعة من الأسواق الأخرى، علمًا بأنه في جميع البلدان لا يزال معظم الناس لا يدفعون مقابل تصفُّح الأخبار عبر الإنترنت.
وبشكل عام يُعدُّ تميُّز المحتوى وجودته، العامل الأكثر أهميةً بالنسبة إلى المشتركين، الذين يرون أنهم يحصلون على معلوماتٍ أفضلَ. ومع ذلك فإن عددًا كبيرًا من الأشخاص راضون تمامًا عن الأخبار التي يمكنهم الوصول إليها مجانًا. ومن الملاحظ أيضا وجود نسبة عالية جدًّا من غير المشتركين تصل إلى 40% في الولايات المتحدة و50% في بريطانيا، حيث يقولون إنه لا يوجد شيء يمكن أن يقنعهم للدفع مقابل تلك الخدمة.
وفي معظم البلدان، تظل الصحف المحلية ومواقعها على الإنترنت المصدر الرئيسي للأخبار حول بلدة أو منطقة معينة، حيث يتابعها أربعة من كل عشرة أسبوعيًّا، لكن فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى تستخدم الآن في المتوسط بمعدل الثلث لمتابعة الأخبار والمعلومات المحلية، مما يضع المزيد من الضغوط على تلك الصحف المحلية ونماذج أعمالها.
أمَّا عن متابعة الأخبار، فيفضِّل ما يزيد قليلًا عن الربع نحو 28% بدء رحلتهم بحثًا عن الأخبار من خلال موقع الإنترنت أو تطبيق إلكتروني، أمَّا أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا (ما يسمَّى بالجيل Z) فلديهم اتصال أضعف مع مواقع الإنترنت والتطبيقات ويفضلون أكثر الوصول إلى الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وعبر الفئات العمرية، تضاعف استخدام “إنستغرام- Instagram” للأخبار منذ عام 2018، ومن المرجَّح أن يتفوَّق على “تويتر- Twitter” خلال العام المقبل.
ولمواجهة الانتقال إلى أنظمةٍ مختلفةٍ، كان الناشرون يتطلَّعون إلى بناء اتصالاتٍ مباشرةٍ مع المستهلكين عبر البريد الإلكتروني وتنبيهات الهاتف المحمول. فعلى سبيل المثال يدخل واحدٌ من كل خمسة أشخاصٍ في الولايات المتحدة أي 21% من الأمريكيين أسبوعيًّا إلى البريد الإلكتروني بغرض متابعة نشراتٍ إخباريةٍ. وكانت دول شمال أوروبا أبطأ كثيرًا في تبنِّي النشرات الإخبارية عبر البريد الإلكتروني، حيث يستخدمها 10% فقط في فنلندا.
وزادت نسبة استخدام ملفات “البودكاست –podcasts” بشكلٍ ملحوظٍ في العام الماضي، ورأت نصف عينة في الدراسة أن البودكاست توفِّر عمقًا وفهمًا أكثر من الأنواع الأخرى من الوسائط. وفي الوقت نفسه، أصبحت خدمة “سبوتيفاي- Spotify” الوجهة الأولى للبودكاست في عدد من الأسواق، متجاوزةً تطبيق بودكاست من “آبل- Apple”.
وبشكل عام، يعتقد 69% أي ما يقرب من سبعة من كل عشرة أن تغيُّر المناخ يمثِّل مشكلةً خطيرةً، ولكنْ هناك خلافٌ كبيرٌ على القضية في الولايات المتحدة والسويد وأستراليا. وتصل المجموعات الأصغر سنًّا إلى الكثير من الأخبار عن تغير المناخ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال متابعة النشطاء مثل الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ.
وتستمر مكبِّرات الصوت الذكية مثل Amazon Echo وGoogle Home في النموِّ السريع، فعلى سبيل المثال ارتفع الاستخدام لأي غرض من 14% إلى 19% في بريطانيا، ومن 7% إلى 12% في ألمانيا، ومن 9% إلى 13% في كوريا الجنوبية.
تسارُع وتيرة التغييرات الهيكلية نحو بيئة وسائط رقمية أكثر
شكَّل الإغلاق الناجم عن فيروس كورونا تذكيرًا بقيمة الوسائط التي تجمعنا، بالإضافة إلى قوة الشبكات الرقمية، وبالنسبة للعديد من الخاضعين للحجر المنزلي، يظل التليفزيون نافذةً على العالم الأوسع ومنصة للحكومات والسلطات الصحية لتقديم النصائح الصحية للجمهور.
وظهرت أيضًا سلوكياتٌ رقميةٌ جديدةٌ في هذه الأزمة، من المحتَمَل أن تكون لها آثارٌ طويلةُ المدى، إذ انضم العديد من الخاضعين للحجر المنزلي لأول مرةٍ إلى فيسبوك أو مجموعات واتس آب، واستهلك الشباب المزيد من الأخبار من خلال منصات مثل “إنستغرام- Instagram” و”سناب شات- Snapchat” و”تيك توك- TikTok”.
من المرجَّح أن يكون الأثر الأكبر للفيروس اقتصاديًّا، حيث تعمل وسائل الإعلام المحلية والوطنية بالفعل على تقليص عدد الموظفين، وتؤدِّي أزمة كورونا إلى تراجُعٍ اقتصاديٍّ يضرُّ بكلِّ ناشرٍ، خاصة أولئك الذين يعتمدون على الإعلانات، ممَّا سيؤدِّي لزيادة تسريع التغييرات الهيكلية الحاليَّة إلى بيئة وسائط رقمية أكثر من حيث سلوك الجمهور والإنفاق على الإعلانات وعائدات القراء.
وستصبح الأزمة في وسائل الإعلام المحلية أكثرَ حدَّةً مع المزيد من الدعوات للحصول على دعمٍ من الحكومة وشركات التكنولوجيا، والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك من حيث استقلالية وسائل الإعلام.
لقد أظهرت أزمة فيروس كورونا بوضوحٍ قيمة الأخبار الموثوق بها للجمهور، ولكن أيضًا لصُنَّاع السياسات وشركات التكنولوجيا وغيرهم ممَّن يمكنهم العمل لدعم وسائل الإعلام الإخبارية المستقلة، لذا سوف تكون الأشهر الـ 12 المقبلة حاسمةً في تشكيل مستقبل صناعة الأخبار.