جاءت رسوم “يوم التحرير” التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل أكبر وأوسع نطاقًا مما توقعه العديد من المراقبين. إذ اعتبر أنه يمكن لمزيج من الرسوم الجمركية والمفاوضات أن تساعد الولايات المتحدة على زيادة العمالة في القطاع الصناعي بشكل كبير، وتغطية جزء كبير من الإنفاق الحكومي، والاحتفاظ بتحالفات أمنية مع الدول التي توازن التجارة وأسعار الصرف مع واشنطن.
ورغم إعلان ترامب في خطوة مفاجئة تعليق تلك الرسوم الجمركية على الشركاء التجاريين لمدة 90 يومًا- الكثير من السلع من معظم البلدان ستخضع لرسوم بنسبة 10% خلال تلك المدة-، في حين قرر رفع معدلات الرسوم الجمركية على الصين إلى 125%، في تصعيد للإجراءات الانتقامية المتبادلة بين الجانبين، إلا أن نهجه تجاه الرسوم يُعد نتاج للأسس الفكرية لاقتصاد ترامب الذي يرفع شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا”، بحسب المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس”.
وبحسب العديد من الخبراء الاقتصاديين، فإن تحويل السياسة التجارية إلى سلاح اقتصادي فظ، مغامرة تُعيق الأولويات التي أعلنتها الإدارة الأمريكية، وتُقوض ديناميكية الاقتصاد الأمريكي وأمنه.
فقد تدعم الرسوم الجمركية المُستهدفة الصناعات الأمريكية الاستراتيجية كجزء من سياسة صناعية دقيقة، لكن نهج إدارة ترامب المتشدد يُقوّض القدرة التنافسية في مجالات حيوية للقيادة الاقتصادية المستقبلية، كما أنه يلحق الضرر باقتصادات الدول الصغيرة ويدفعها للبحث عن مساعدة من قوى اقتصادية أخرى أبرزها الصين.
وفي هذا الإطار، نشر مجلس العلاقات الخارجية (مركز أبحاث أمريكي متخصص في السياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات الدولية) مقالًا تحليليًا للباحث جوناثان إي. هيلمان، زميل أول في قسم الجغرافيا الاقتصادية بالمجلس، نستعرضه على النحو التالي:
خطأ جيوستراتيجي فادح
تُثقل الرسوم الجمركية، التي أعلنها الرئيس ترامب كاهل أصغر اقتصادات العالم، وهو خطأ جيوستراتيجي فادح لا يُحقق مكاسب اقتصادية تُذكر للولايات المتحدة.
تخيل نفسك رئيسًا لموريشيوس، وهي دولة جزرية ذات موقع استراتيجي في المحيط الهندي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليون نسمة، تواجه الآن رسومًا جمركية بنسبة 40%، وترغب في التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، كيف ستتمكن من إيصال صوتك؟، ومعظم قادة العالم الآن يتنافسون للتفاوض مع المسئولين الأمريكيين. وقد صرح وزير التجارة الأمريكي، هوارد لوتنيك بأن “فرق الوزارة تتحدث اليوم إلى جميع الشركاء التجاريين الكبار لواشنطن”.
وبالنسبة لموريشيوس فبلغ الفائض التجاري مع الولايات المتحدة في العام الماضي 2024 نحو 186.5 مليون دولار، وهو تقريبًا تكلفة حفل تنصيب ترامب، لذا قد تبقى الخطوط الهاتفية أمامها مشغولة لبعض الوقت.
والأسوأ من ذلك، أنه من المستحيل معرفة السياسات التي ينبغي تغييرها، إذ لم تُدرج موريشيوس حتى في أحدث تقرير لــ “تقدير التجارة الوطنية” الصادر عن مكتب الممثل التجاري الأمريكي، والذي يسجل الحواجز التجارية، وصدر في 31 مارس الماضي.
وإذا عادت موريشيوس إلى موقع وزارة التجارة الأمريكية المتعلق بممارسة الأعمال التجارية مع موريشيوس. يوضح الموقع لأنه لا توجد أي تعريفات جمركية أو غير جمركية معروفة ضد الشركات الأمريكية. فما هي “مهارة عقد الصفقة” في تلك الحالة؟ إن واردات موريشيوس الرئيسية من الولايات المتحدة هي الوقود والنفط. ربما تشتري كميات أكبر قليلًا من الموردين الأمريكيين. أما صادراتها الرئيسية إلى الولايات المتحدة فهي الألماس والمأكولات البحرية.
وعلى هذا النحو، هل يمكن لدولة مثل موريشيوس الصمود وتحمّل العاصفة؟، إن الرد بفرض رسوم جمركية مضادة لن يؤدي إلا إلى زيادة الضرر، فقدرة اقتصادها على تخفيف الصدمة من خلال دعم الاستهلاك وأشكال التحفيز الأخرى محدودة.
الاتجاه نحو الصين طلبًا للمساعدة
إذن ستتواصل مع من لطلب المساعدة؟، الكثيرون سيتجهون إلى الصين. فهي بالفعل الشريك التجاري الأكبر لأكثر من 120 دولة، بما في ذلك موريشيوس، التي وقعت اتفاقية تجارة حرة مع الصين في عام 2019. مع الأخذ في الاعتبار أنه في كثير من أنحاء العالم، لا يوجد من هو في وضع أفضل لتقديم يد العون.
لكن المساعدة لن تأتي مجانًا، حيث يفضل المسؤولون الصينيون -مثلما يفعل ترامب- التفاوض بشكل ثنائي ليتمكنوا من استغلال الفجوات في الحجم. وتعتمد قائمة مطالبهم على الدولة المُستهدفة، لكنها شملت في السابق الوصول إلى المواد الخام، والدعم السياسي في المحافل الدولية، وصفقات لبناء أو تشغيل أو الوصول إلى بنى تحتية مزدوجة الاستخدام.
وهذه اللعبة ليست جديدة. فقد أمضى المسؤولون الأمريكيون من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري سنوات في التحذير من نقاط الضعف الناتجة عن الإقراض غير المسؤول في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، لكن الرسوم الجمركية التي يفرضها ترامب الآن تزيد من تفاقم تلك الظروف القائمة، وبطريقة متناقضة، تهيّئ الصين للظهور بمظهر المُنقذ.
ومن المؤكد أن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” تراقب هذه التطورات بقلق. فمن المقرر أن تتولى موريشيوس السيطرة على دييغو غارسيا (جزيرة في وسط المحيط الهندي)، التي تضم قاعدة عسكرية أمريكية-بريطانية. وعلى الرغم من التحذيرات بشأن علاقات الدولة الجزرية بالصين، فإن ترامب وافق على عملية التسليم قبل أسابيع فقط.
وتجدر الإشارة إلى أن التحول الأمريكي المفاجئ بشأن التعريفات الجمركية يُعتبر مؤلم للغاية. ففي ديسمبر الماضي، كاد الكونجرس أن يجدد قانون النمو والفرص في إفريقيا، وهو اتفاق طويل الأمد يحظى بتأييد الحزبين، ويوفر لموريشيوس ودول إفريقية أخرى في جنوب الصحراء الكبرى إمكانية الدخول إلى السوق الأمريكية دون رسوم جمركية.
وختامًا، في حين يفرض ترامب هذه الرسوم الجمركية المتبادلة تحت مسمى حماية الأمن القومي الأمريكي. لكن على المدى الطويل، يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يكونوا أكثر حرصًا في تقليل التكاليف الجيوسياسية لهذه الإجراءات، التي تؤثر بشكل غير متناسب على الاقتصادات الصغيرة. وإلا فإن تعزيز نفوذ الصين في معظم أنحاء العالم سيكون من بين إرث “يوم التحرير”.