شهدت الساحة السياسية الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية تطورات درامية غير متوقعة تتصل بالسباق الانتخابي الرئاسي، فقبل أكثر من 10 أيام تعرض المرشح الرئاسي الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب لمحاولة اغتيال كانت ستغير تماما من شكل السباق وتربك حسابات المعسكر الجمهوري الذي يراهن بكل قوة على العودة إلى البيت الأبيض من خلال ترامب.
ولم يمض أسبوع على ذلك الحادث حتى قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن الانسحاب من الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 نوفمبر المقبل، معلنا دعمه لنائبته كامالا هاريس كمرشحة للرئاسة، والتي من المرتقب إعلانها مرشحة رسمية للديمقراطيين خلال المؤتمر العام للحزب في السابع من أغسطس المقبل.
وقد أثارت خطوة بايدن، التي جاءت بعد أسابيع من ضغوط المشرعين والمانحين الديمقراطيين لدفعه للتنحي عن خو ض الانتخابات، العديد من التساؤلات التي يمكن حصرها في نطاقين أساسيين، الأول يتصل بتأثيرها على السباق الانتخابي نحو البيت الأبيض، والثاني يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة المتبقية من ولاية بايدن.
- الوضع الداخلي الأمريكي
بداية لا يعتبر قرار بايدن سابقة تاريخية أو مسألة غير مألوفة في سياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فقد فعلها رؤساء أمريكيون قبل انتهاء فترة ولايتهم وهم كالفين كوليدج عام 1927، وهاري ترومان عام 1952، وليندون جونسون عام 1968، إلا أنه يرتب العديد من التداعيات على النحو التالي:
- اختبار تماسك الحزب الديمقراطي:
يضع انسحاب الرئيس الأمريكي السادس والأربعين من الانتخابات حزبه “الحزب الديمقراطي” في اختبار صعب لمدى تماسكه وقدرته على الالتفاف سريعا خلف مرشح رئاسي آخر واختيار نائب يشاركه تذكرة الاقتراع الديمقراطية، لا سيما مع اعتراف بايدن في خطاب ألقاه يشرح فيه أسباب انسحابه بقوله: “في الأسابيع الأخيرة، اتضح لي أنه يتوجب علي توحيد حزبي”، مؤكدًا أن “الوقت” قد حان لكي تكون هناك “أصوات جديدة لأشخاص أصغر سنًّا”.
ومع دعم بايدن لنائبته كامالا هاريس، ثمة تساؤلات مطروحة حاليا أبرزها هل تتمكن هاريس من تأمين الدعم اللازم بسرعة للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي أم أن الحزب سيشهد انقساما؟ وإذا كانت هي المرشحة، فهل يمكنها التغلب على ترامب في الانتخابات الرئاسية؟ ومما لا شك فيه أن الإجابة ستتضح خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي بإعلانه المرشح الرسمي، كما ستظهر مؤشرات دالة على فرص الديمقراطيين عبر استطلاعات الرأي التي ستجري خلال الفترة المقبلة وصولًا إلى يوم التصويت الحاسم.
- جدل قانوني حول مصير أموال حملة بايدن:
لقد أثارت خطوة بايدن التي جاءت قبل أقل من أربعة أشهر عن الانتخابات، تساؤلات حول مصير أموال التبرعات التي جمعتها حملته الانتخابية -بلغت نحو 95 مليون دولار في البنوك بنهاية يونيو الماضي-، وبدأ المعسكر الجمهوري دونالد ترامب خوض معركة، إذ قدم ديفيد وارينغتون، المستشار العام للحملة شكوى إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية، اتهم فيها هاريس بأنها بصدد ارتكاب “أكبر انتهاك لتمويل الحملات الانتخابية في التاريخ الأمريكي”-على حد وصفه- بـ”الاستيلاء” على تلك الأموال.
في حين أكد تريفور بوتر، المسؤول القانوني لحملة الديمقراطيين أنه في ضوء كون بايدن وهاريس يشتركان في الحملة، يمكن لهاريس الاستمرار في استخدام الأموال الموجودة للانتخابات العامة إذا كانت على التذكرة الانتخابية الديمقراطية كمرشحة للرئاسة أو لمنصب نائب الرئيس، أما إذا لم تكن هاريس مرشحة للرئاسة، ستخضع لجان الحملة للقواعد الفيدرالية، التي تقضي بتحويل 2000 دولار فقط من الأموال التي تم جمعها إلى المرشح الجديد أما باقي الأموال التي تم جمعها فيمكن ردها إلى المانحين أو تحويلها إلى الحزب الديمقراطي على المستوى الوطني أو في الولايات.
- دعوة لاستقالة بايدن:
كان إعلان بايدن الذي سبقه ضغوط متزايدة من داخل حزبه تطالبه بالتنحي بعد أدائه “الكارثي” خلال المناظرة الرئاسية الأولى ضد ترامب الشهر الماضي، والتي بدا فيها في بعض الأحيان فاقدا لتركيزه وللقدرة على الاسترسال في الحديث، كانت محركا أيضا لدعوات أطلقها الجمهوريون تطالب بتنحي بايدن عن الرئاسة أيضًا (أي عدم استكمال ولايته الرئاسية)، حيث رأى مشرعون جمهوريون أنه إذا لم يعد بايدن قادرًا على الترشح لولاية ثانية، فهو لم يعد قادرًا على العمل كرئيس، داعين الرئيس الأمريكي إلى الاستقالة، فيما طالب آخرون، إدارة بايدن بإقالته من خلال تفعيل التعديل الـ25 للدستور التي تتيح لنائب الرئيس و15 مسؤولًا رئيسيًا في الحكومة تقديم “إعلان كتابي” يفيد بأن الرئيس “غير قادر على القيام بسلطات وواجبات” الرئاسة.
وقد أكد بايدن بنفسه تمسكه باستكمال ولايته، حيث قال في خطابه إنه سيواصل العمل على الاقتصاد وقضايا السياسة الخارجية الرئيسة لبقية فترة وجوده في منصبه، مشددًا على ذلك بقوله: “سأركز على تأدية عملي بصفتي رئيسًا خلال الأشهر الستة المقبلة”.
- السياسة الخارجية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة
قد يكون لإعلان بايدن آثار كبيرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية، فبقدر ما كان فوز ترامب المحتمل مدرجًا بالفعل في الحسابات الدولية المتعلقة بنتيجة الانتخابات الرئاسية، فإن خطوة الرئيس الأمريكي الأخيرة تفرض تقييمًا مختلفًا تمامًا إذ أحيا بشكل كبير المنافسة الانتخابية وبات السباق مفتوحًا أمام كافة الاحتمالات.
وفي ظل الاختلاف الحاد الراهن بين رؤية الحزبين الديمقراطي والجمهوري لمكانة الولايات المتحدة في الشؤون الدولية؛ حيث يؤمن الديمقراطيون بالانفتاح الأمريكي على العالم، بينما يعتنق الجمهوريون في ظل ترامب مبدأ الانعزالية، فإن هذا المشهد يفرض على الزعماء الأجانب ومراكز الفكر والأبحاث إعادة النظر في الحسابات والتقديرات ورسم سيناريوهات وفقًا لتلك المستجدات.
وحتى لو فاز ترامب على المرشح الديمقراطي النهائي، فإن إرث بايدن في مجال السياسة الخارجية قد لا يتلاشى بالكامل، إذا لم يسجل الجمهوريون انتصارًا ثلاثيًا في 5 نوفمبر أي بانتخابات الرئاسة والاحتفاظ بالأغلبية في مجلس النواب بالإضافة إلى الفوز في انتخابات بمجلس الشيوخ (تجرى على ثلث المقاعد).
بعبارة أخرى، إن المسألة تعتمد على الحزب الذي يختاره الأمريكيون لقيادة مجلسي الكونجرس. فإذا سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب، فإنهم سيعقدون جهود ترامب- حال عودته للرئاسة- تجاه العديد من القضايا الخارجية التي تعد محل خلاف شديد بين الحزبين مثل دعم أوكرانيا والموقف من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، فلطالما تحدث ترامب عن قدرته على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال 24 ساعة دون أن يوضح كيفية ذلك وما التنازلات التي قد يتعين على كييف تقديمها.
كما أن أوروبا ودول الناتو تنتظر بترقب وقلق نتيجة الانتخابات الأمريكية، بالنظر إلى ما حدث خلال ولاية ترامب الرئاسية التي قضاها في حروب تجارية مع الاتحاد الأوروبي نتيجة لاتباع إدارته لسياسات تجارية حمائية، ودخل ترامب أيضا في صدام مع حلف الناتو للضغط على الشركاء في التحالف زيادة إنفاقهم الدفاعي، فضلا عن احتمالية تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا بشكل أكبر، قد تؤدي إلى زيادة الضغوط الأمنية على دول الاتحاد الأوروبي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن انسحاب بايدن من المشهد الانتخابي، يمثل خطوة هامة ربما تحيي آمال الديمقراطيين في البقاء بالبيت الأبيض، وتفرض إعادة النظر في سيناريوهات العديد من الأطراف الدولية لتداعيات نتائج الانتخابات على السياسة الأمريكية تجاه العديد من مناطق الصراع المشتعلة حول العالم، ومستقبل المؤسسات الدولية متعددة الأطراف والتحالفات العسكرية.