تقارير

سمو ولي العهد في لقائه مع بوتين .. حضور كاريزمي وحنكة دبلوماسية

في ظل أجواء إقليمية ودولية ملتهبة مع دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الثالث دون وجود أي مؤشرات على اتجاه الأوضاع الميدانية إلى التهدئة، وتصاعد حدة المواجهة بين موسكو والقوى الغربية مع استمرار الحرب في أوكرانيا في غياب أي أفق للتفاوض من أجل وقف القتال، وترقب عالمي مستمر لأسواق النفط وحصص الإنتاج التي يقررها تحالف “أوبك+” الذي تقوده السعودية وروسيا (يضم 13 دولة من أعضاء أوبك و10 غير أعضاء في المنظمة)، تبرز أهمية القمة التي جمعت سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الرياض، في أول زيارة له للعاصمة السعودية منذ عام 2019 ضمن جولة هي الأولى من نوعها لمنطقة الخليج العربي، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022.

  • دلالات زيارة الرئيس الروسي للمملكة

تحمل زيارة بوتين كثيراً من الدلالات المهمة في توقيتها؛ إذ يبرهن بها الرئيس الروسي الصادر بحقه مذكرة توقيف دولية من جانب المحكمة الجنائية الدولية على أنه قادر على كسر حالة العزلة الدبلوماسية التي سعى الغرب لتطويقه بها ما أدى لغيابه عن فعاليات دولية مهمة خلال الفترة الأخيرة، مثل قمة مجموعة بريكس في جوهانسبرج، والاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقمة مجموعة العشرين في الهند، بل إن  الرئيس الروسي بهذه الزيارة لكل من السعودية والإمارات يظهر قدرته على تعزيز العلاقات وممارسة الدبلوماسية الرئاسية مع دولتين تجمعهما علاقات استراتيجية بالولايات المتحدة.

كما تعكس الزيارة أيضًا الأهمية الاقتصادية الكبيرة للخليج العربي بالنسبة لموسكو في ظل العقوبات الغربية التي تحاصرها؛ كونه نافذة لروسيا لممارسة دور مؤثر في حركة الاقتصاد العالمي، فموسكو تعمل عن كثب مع المملكة من أجل ضبط سوق النفط العالمي كشريك رئيسي في “أوبك+”، بينما أضحت الإمارات المركز الدولي الرئيسي للشركات الروسية في ظل العقوبات المتلاحقة ضد الكيانات الروسية الحكومية والخاصة، بحسب تقارير إعلامية غربية.

وفي الوقت نفسه، تكتسب تلك الزيارة للرياض أهمية كبرى في ضوء الجهود التي تقودها المملكة حالياً من أجل العمل على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك في ضوء مخرجات القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية، التي عقدت في الرياض في 11 نوفمبر الماضي بموجب دعوة من المملكة، فضلًا عن الجولات المتواصلة للجنة الوزارية العربية الإسلامية المشتركة برئاسة سمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان والتي تهدف لتحقيق نفس الغاية.

  • سمو ولي العهد يقدم درسًا في فنون الدبلوماسية

كان من المشاهد اللافتة والمؤثرة خلال الزيارة قيام سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، بتصحيح ما ورد عبر مترجم الرئيس بوتين، عن “استقلال” المملكة العربية السعودية، حينما ترجم حديث الرئيس الروسي، قائلا: “كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف باستقلال المملكة، قبل حوالي 100 سنة”.

وفي تلك اللحظة قاطع سمو ولي العهد، المترجم، موجهًا حديثه لبوتين قائلا: “فقط، فخامتكم… أود أن أصحح للمترجم أن السعودية لم تستقل في ذلك الوقت، السعودية أُعيد توحيدها، لم تكن مستعمرة من قبل في التاريخ”.

وعكس ذلك المشهد ما يتمتع به الأمير محمد بن سلمان- أيده الله- من كاريزما قيادية وحنكة دبلوماسية وحضور ويقظة ذهنية، ورفض سموه أي خطأ يمس المملكة وتاريخها حتى وإن كان غير مقصود، مقدمًا في ذلك درسًا عمليًا تاريخيًا في فنون الدبلوماسية.

 

  • شراكة سعودية روسية ناجحة لتعزيز الاستقرار

بالإضافة إلى ذلك، عكست تصريحات سمو ولي العهد، حفظه الله، خلال مباحثاته مع الرئيس الروسي، ذلك النهج الحكيم الذي تسلكه المملكة في توظيف علاقاتها مع القوى الكبرى لخدمة أهداف التنمية، وكذلك تعزيز الاستقرار في المنطقة، إذ أكد – حفظه الله- أن المملكة وروسيا تعملان معًا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، مشيدًا بتعاونهما الناجح في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعاون تجلى في كثير من الأطر الثنائية، مثل اللجنة السعودية الروسية المشتركة ومجلس الأعمال السعودي الروسي اللذين كان لهما بصمة واضحة في الارتقاء بمستوى التعاون الاقتصادي، والشراكات الاستثمارية في ضوء الفرص الواعدة التي توفرها رؤية المملكة 2030، بجانب دفع عجلة التبادل التجاري بين البلدين.

كما أدت العلاقات المتميزة بين المملكة وروسيا إلى تعزيز أطر التعاون متعددة الأطراف ذات الصبغة الاقتصادية ممثلة في تحالف “أوبك+” النفطي الذي يضطلع بمهمة تحديد سقف إنتاج النفط، مستندا إلى قواعد العرض والطلب في السوق مما يجعل قراراته مؤثرة في أسعار الطاقة وبالتبعية في حركة الاقتصاد العالمي. بالإضافة إلى أُطر سياسية استراتيجية حيث الحوار الاستراتيجي بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي.

  • رسائل بوتين من الرياض

لعل المدة التي استغرقتها المباحثات بين الجانبين السعودي والروسي – 3 ساعات بحسب ما أعلن الكرملين- دلالة على عمق وتنوع مسارات التعاون بين البلدين.

وقد حرص الرئيس بوتين في لقائه مع سمو ولي العهد على تمرير رسائل للعالم الغربي من الرياض، في مقدمتها تأكيده على رسوخ العلاقات التي تربط روسيا بالمملكة على كافة الأصعدة السياسة والاقتصاد والإنسانية، وأنه لا شيء يمكنه منع تطور تلك العلاقات الودية، مع دعوة سمو ولي العهد لزيارة موسكو.

بالإضافة إلى رسالة أخرى تمثلت في حديثه عن أهمية تبادل المعلومات والتقييمات فيما يحدث بمنطقة الشرق الأوسط، في إشارة إلى العدوان الإسرائيلي على غزة.

ويبدو أن بوتين أراد أن يؤكد ضمنيًا في تلك التصريحات أن التنسيق والتفاهم بين الجانبين الروسي والسعودي في الملفات المختلفة وفي صدارتها ملف النفط وسوق الطاقة الذي يشغل الأوساط الغربية لا سيما الأمريكية، سيظل قائمًا بل وفي تطور وأن أي رهان غربي يظهر بين الحين والآخر على انقسام داخل “أوبك+” لن يحدث.

كما أن حديثه عن التطورات في الشرق الأوسط، أراد به الإشارة إلى أن الدور الروسي في المنطقة ما زال حاضرًا وفاعلًا في المشهد، إذ من المقرر أن يعقد بوتين فور عودته إلى موسكو قمة ثنائية مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، ويأتي ذلك وسط تصاعد مخاوف إقليمية ودولية من اتساع رقعة الصراع في غزة إلى مناطق أخرى في الإقليم، عززتها القصف المتبادل بين جماعة حزب الله اللبنانية وإسرائيل، ودخول الحوثيين في اليمن إلى دائرة القتال، سواء من خلال إطلاق صواريخ ومسيرات على أهداف إسرائيلية، أو أيضًا استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر ما يهدد طريقًا مهمًا للملاحة الدولية، فضلًا عن الضربات التي تشنها فصائل عراقية تستهدف القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن القمة السعودية الروسية في الرياض تُشكّل أحدث حلقة في سلسلة القمم الدبلوماسية الثنائية والجماعية التي شهدتها المملكة هذا العام، بوصفها عاصمة مؤثرة في صناعة القرار الدولي، وقِبلة للدبلوماسية العالمية.

كما أن العلاقة بين المملكة وموسكو تمثل أحد المحاور الرئيسية لدوائر تحرك السياسة الخارجية السعودية القائمة على الانفتاح المتوازن على القوى الكبرى في العالم، والذي ينطلق من قراءتها الواعية للتغيرات التي طرأت على هيكل النظام الدولي، واستشرافها بدقة لمساره المستقبلي، وتكييف هذه التغيرات بما يحقق المصلحة الوطنية السعودية، وكذلك الدفاع عن مصالح الأمتين العربية والإسلامية انطلاقًا من دور الرياض القيادي والريادي في محيطها العربي والإسلامي.

زر الذهاب إلى الأعلى