ترجمات

الجغرافيا السياسية.. مدخل تفسيري للحرب الباردة الجديدة

في كتابه الجديد “السلام البارد: تجنب الحرب الباردة الجديدة”، يتذكر مايكل دويل أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا بنيويورك، بحنين التفاؤل الذي كان سائدًا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار حلف وارسو، ومظاهرات ساحة تيانانمن المطالبة بالديمقراطية في الصين، إذ كانت سنوات ما بعد الحرب الباردة فترة أمل حملت إمكانات هائلة، تبشر بفرصة للتعاون الخلّاق بين الدول، ووضع حد للصراع الأيديولوجي، وربما بداية نظام دولي مستقر من السلام الليبرالي.

وعلى الرغم من أن النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة لم يكن مثاليًا، فإنه وفّر السلام والازدهار في معظم أنحاء العالم على نطاق لا مثيل له، لكن انتهى به المطاف بأن أصبح العالم حالياً على شفا حرب باردة أخرى، فالأمن والاستقرار العالميان في خطر مع تداعيات خطيرة على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي وتغير المناخ.

وفي هذا الإطار، يطرح دويل في كتابه 3 أسئلة رئيسية تتعلق بالحرب الباردة الجديدة الناشئة، تناولتها مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية ضمن عرض نقدي للأفكار الواردة في الكتاب مستندة إلى منظور تحليلي هام في أدبيات العلاقات الدولية يتمثل في مدخل الجغرافيا السياسية، وذلك على النحو التالي:

  • لماذا تلوح حرب باردة أخرى في الأفق؟

يفترض دويل أننا ندفع الآن ثمن الافتقار للإبداع خلال تسعينيات القرن الماضي، وأنه في حال وجود قدر أقل من الغطرسة الأمريكية والغربية، كان من الممكن دمج روسيا في هيكل أمني أوروبي مشترك وبناء نظام ديمقراطي فيها وكذلك في الصين.

ومن المدهش أن نرى دويل، الذي ينتمي إلى المدرسة الليبرالية في دراسة العلاقات الدولية، يردد إلى حد كبير صدى حجج المدرسة المضادة “المدرسة الواقعية”، بما في ذلك رؤية جون ميرشايمر الأستاذ بجامعة شيكاغو التي تقوم على أن إيمان الولايات المتحدة الراسخ بتعزيز الهيمنة الليبرالية كان سببًا رئيسيًا لصعود النزعة القومية في الصين وروسيا.

  • مقارنة الحرب الباردة الناشئة بالحرب الأصلية

يستنتج دويل أنه من غير المرجح أن تكون الحرب الباردة الجديدة متطرفة مثل الحرب الباردة الأولى، وذلك بسبب المصلحة المشتركة في الازدهار المتبادل، ولأن روسيا والصين المعاصرة ذات أنظمة سلطوية وليست شمولية، واهتمامهما الأقل بالحروب الأيديولوجية عن أسلافهما الستالينيين والماويين (نسبة إلى الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين والزعيم الصيني ماو تسي تونغ).

وبناءً على ذلك، يقترح دويل أن الوضع الحالي يتطلب تسمية أخرى غير الحرب الباردة، إذ وصفها بـ”السلام البارد” وهي حالة لا تتضمن حروبا بالوكالة أو عمليات تخريب سرية أو محاولات لزعزعة الدول المتنافسة.

  • كيف يمكن تجنب الحرب الباردة؟

يناقش الكتاب أيضًا كيف يمكن تجنب الحرب الباردة، إذ يجادل دويل بأن أفضل مسار لتجنب الحرب الباردة الجديدة، وخطر التصعيد إلى حرب ساخنة، هو أن تسعى الولايات المتحدة والدول الليبرالية الأخرى إلى قيادة مسؤولة في الداخل وحماية مؤسساتها الديمقراطية، ولتحقيق ذلك يقترح صفقة جديدة (وهي عقد اجتماعي جديد) لمعالجة التفاوتات المحلية التي تغذي الشعبوية في الديمقراطيات المعاصرة.

  • تجاهل الجغرافيا السياسية

وهكذا يظهر من خلال المحاور الثلاثة الأساسية للكتاب أنه يشتمل على نقطة ضعف رئيسية تتعلق بتجاهل الجغرافيا السياسية باعتبارها العامل الرئيسي في تشكيل الحرب الباردة الجديدة، إذ يقول دويل نصا في كتابه: “إن الجغرافيا الاقتصادية، وليست السياسية، هي التي ستنتهي من خلالها المنافسة على زعامة العالم”.

ويعكس تجاهله للبعد الخاص بالجغرافيا السياسية رؤية اختزالية تذكر بعبارة “إنه الاقتصاد، يا غبي!” تلك العبارة الشهيرة التي كانت محور الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 1992.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت تلك العبارة تلخص تفوق الاقتصاد على السياسة، على الرغم من أنه منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، رأينا الحكومات تعيد فرض نفسها تدريجيًا على الاقتصاد من خلال السياسات الخاصة بالتصنيع، وتنظيم الانبعاثات، والقيود الجديدة على العولمة.

وعلى ذات النمط، نجد أنه مع عودة التنافس بين القوى العظمى في الشؤون العالمية، فقدت المدرسة الليبرالية – بتركيزها على الترابط الاقتصادي والأيديولوجيا والمؤسسات المحلية – بعض قيمتها التفسيرية. وبالتالي من أجل فهم السياسة العالمية المعاصرة، نميل إلى اقتباس عبارة كلينتون مع تعديلها لتصبح: “إنها الجغرافيا السياسية، أيها الغبي!”.

  • الجذور المحلية والاقتصادية للصراع

من جهة أخرى، اعتبر دويل في كتابه أن الجذور المحلية للصراع هي المحرك الأكثر أهمية لحرب باردة جديدة. وهو ما يثير تساؤلاً وهو هل هذا صحيح حقا؟، ويمكن الإجابة بالقول إن النظام السياسي المحلي في الصين على سبيل المثال، لا يختلف اليوم كثيرًا عما كان عليه قبل 10 أو 20 عامًا، وبالمثل لم تشهد الولايات المتحدة تحولًا أيديولوجيًا دراماتيكيًا في الطريقة التي تنظر بها إلى العالم.

كما يجادل دويل بأن المنافسة الاقتصادية مع الصين تتحدى الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة وتشجع واشنطن على تطبيق قيود على التجارة والاستثمار الدولي، لكن هذا ليس بجديد فقد استجابت الولايات المتحدة بطريقة مماثلة للنهوض الاقتصادي لليابان في ثمانينيات القرن الماضي، والفرق بالطبع أن اليابان لم تستثمر بجدية في القوة العسكرية، في حين أن الصين تفعل ذلك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العامل الرئيسي الذي يغير سياسة واشنطن تجاه الصين من الانخراط إلى الاحتواء ليس الأيديولوجيا بل ميزان القوى المتغير. فاليوم لم يعد النظام الدولي أحادي القطب، كما أنه ليس متعدد الأقطاب أو ثلاثي الأقطاب كما يقترح دويل، ولكن هيكل النظام الحالي ثنائي القطبية، تمامًا كما كان خلال الحرب الباردة.

ويمكن القول بأن التنافس الثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والصين هو الذي يشكل حربًا باردة جديدة، تمامًا كما شكل التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في زمن الحرب الباردة.

فبالنسبة للقوة الاقتصادية، نجد أن النظام الحالي ثنائي القطبية أكثر مما كان عليه حتى خلال الحرب الباردة، حيث تساوي الثروة الاقتصادية الإجمالية للصين تقريبًا تلك الموجودة في الولايات المتحدة، في حين أن الاقتصاد السوفيتي لم يمثل أبدًا أكثر من 50% من الاقتصاد الأمريكي.

أما عن القوة العسكرية، فالنظام الدولي ليس ثنائي القطبية تمامًا كما كان عليه خلال الحرب الباردة، إذ توجد فجوة أكبر في القوة العسكرية بين واشنطن وبكين الآن عن تلك التي كانت بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، لكن سبب هذه الفجوة ببساطة أن الصين لا تزال تنفق حصة أقل من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع مقارنة بما كان يفعله الاتحاد السوفيتي.

  • هيكل النظام الدولي الحالي

في كتابه الجديد أيضًا، ناقش دويل بإسهاب هيكل النظام الدولي واستنتج أنه ثلاثي الأقطاب، يتألف من الولايات المتحدة والصين وروسيا من الناحية العسكرية، والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي من الناحية الاقتصادية.

واللافت هنا أن لا أحد يريد الاعتراف بأن هيكل النظام الحالي ثنائي القطبية؛ فالولايات المتحدة لا ترغب في ذلك لأنه يقلل من مكانتها. كما أن بكين ليست راغبة لأنه يرفعها إلى مكانة دولية ليست مستعدة بعد لشغلها. والزعماء الأوروبيون بدورهم يفضلون الحديث عن نظام متعدد الأقطاب كما تفعل روسيا والهند.

وهناك أيضًا قدر كبير من التردد بين صانعي السياسات والأكاديميين على حد سواء لقبول حقائق التنافس ثنائي القطبية، فالبعض يجد فكرة عالم متعدد الأقطاب يشمل القوى الصاعدة في الجنوب أكثر راحة أو عدلاً، لكنهم يتبنون وجهة نظر معيارية لما يجب أن يبدو عليه العالم في أعينهم، وليس كما هو في الواقع اليوم.

وعلى الرغم من أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين يشبه التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، فإن السياق الجغرافي لهذين النظامين ثنائي القطب مختلف، مما يخلق منطقين جيوسياسيين فريدين للغاية.

فخلال الحرب الباردة، واجهت الولايات المتحدة القوة البرية للاتحاد السوفيتي الواقع في قلب أوراسيا، بينما تواجه اليوم القوة البحرية للصين الواقعة في الأطراف الآسيوية. ومع ذلك، فإن كتاب “السلام البارد” لدويل لا يناقش الموقع الجغرافي للصين على الإطلاق، ولا طبيعتها كقوة بحرية سريعة النمو.

ومن المهم التنويه هنا بأن الصين تمتلك نطاقًا جغرافيًا محدودًا أكثر من الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة، وهذا يخلق تصورات متباينة للتهديدات في الولايات المتحدة وأوروبا؛ ففي حين أن الاتحاد السوفيتي كان يمثل تحديًا ثنائي الجانب للولايات المتحدة عبر المحيطين الأطلسي والهادئ، فإن الصين تمثل تحديًا من جانب واحد فقط في آسيا.

وهكذا تجبر الجغرافيا الولايات المتحدة على إعطاء الأولوية للتهديد والتحدي في المحيط الهادئ، بينما تنظر أوروبا إلى روسيا باعتبارها التحدي الأكبر لأمنها.

وأخيرًا، إن كتاب “السلام البارد” يعد دليلاً مفيداً لفهم الحرب الباردة الجديدة الناشئة، لكنه ينطوي على قدر كبير من المبالغة في الجذور المحلية للشؤون الدولية، لذلك من أجل الفهم الكامل للسياسات العالمية المعاصرة ولا سيما التنافس بين الولايات المتحدة والصين، يمكن القول باختصار إنه لا يوجد دليل أفضل من الجغرافيا السياسية بطابعها الكلاسيكي.

زر الذهاب إلى الأعلى