بعد مرور عام على طرح بنك الشعب الصيني (البنك المركزي)، اليوان الرقمي لأول مرة أمام الجمهور الدولي في أولمبياد بكين، أصبحت أهداف الصين أكثر وضوحًا، فعلى الصعيد المحلي، لا يزال البنك المركزي في وضع الاختبار والتعلم، مع إعطاء الأولوية للتجربة على التبني.
أما على الصعيد العالمي، فإن بكين لا تركز على تدويل اليوان بقدر تركيزها على وضع المعايير الفنية والتنظيمية التي ستحدد كيفية عمل العملات الرقمية للبنوك المركزية في البلدان الأخرى في المستقبل، وهو الأمر الذي تناوله تقرير للمجلس الأطلنطي (مركز بحثي مقره واشنطن) تحت عنوان “ماذا تريد الصين من عملتها الرقمية في عام 2023؟”، نستعرضه على النحو التالي:
- الطموحات المحلية
رغم معدلات التبني المنخفضة، يعد اليوان الرقمي – إلى حد بعيد – أكبر عملة رقمية تجريبية في العالم من حيث الكمية المتداولة والبالغة 13.61 مليار يوان، وعدد المستخدمين (260 مليون محفظة) نظرًا لتوسع نطاق تجربته في 25 مدينة.
ومنذ البداية كان هدف البنك المركزي الصيني ليس فقط التنافس في مشهد المدفوعات المحلية الذي تهيمن عليه منصتان خاصتان هما “AliPay” و”WePay”، ولكن توسيع عالم الأنشطة الاقتصادية التي يتم تضمينها في شبكة المدفوعات المدعومة من الدولة.
وحتى الآن، تتمحور حالات الاستخدام الشائعة لليوان الرقمي في وسائل النقل العام ومراكز الصحة العامة بما في ذلك مراكز فحص فيروس كورونا المستجد “كوفيد – 19” وبطاقات الهوية المتكاملة لتلقي ودفع المرافق مثل استحقاقات التقاعد ومدفوعات الرسوم المدرسية، فضلًا عن مدفوعات الضرائب والمبالغ المستردة. كما بدأت مؤسسات محلية رائدة أيضًا في استخدامه في التجارة الإلكترونية وتوفير الائتمان.
ومن المرجح أن تتوسع حالات استخدامه هذا العام وتغطي نطاقًا أوسع من الأنشطة والمناطق، إذ يتطلع بنك الشعب الصيني للوصول إلى هوامش المجتمع، حيث يتم اختبار اليوان الرقمي بين السكان المسنين وضمن مخططات أوسع للربط بين المناطق الحضرية والريفية لتحسين الرقمنة.
كما تهدف أيضًا إلى الوصول إلى عملاء “AliPay” و””WePay من خلال دمج وظائف المحفظة والتجارة الإلكترونية الخاصة بهم.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أظهر بنك الشعب الصيني ميلًا نحو مركزية السلطة التنظيمية عندما يتعلق الأمر بالتمويل والتكنولوجيا، وقد أثار عالم الشبكات الاقتصادية الموسعة التي تم تمكينها بواسطة اليوان الرقمي مخاوف بشأن مركزية السلطة من قبل البنك المركزي الصيني، وتأثيراتها على حرية الاختيار وكذلك مراقبة الدولة لمستخدمي تلك الشبكات.
تجدر الإشارة إلى أنه بوجه عام تثير الشبكة الموسعة لحالات الاستخدام عبر التطبيقات التي من شأنها جمع البيانات حول الهوية الشخصية والمعلومات الصحية وعادات وسلوك الاستهلاك مخاوف بشأن قابلية تعرض هذه البيانات للتهديدات السيبرانية محليًا وخارجيًا.
- التطورات التنظيمية
شهد المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني في أوائل شهر مارس الماضي، بعض التغييرات التي تم الإعلان عنها للجهات التنظيمية المالية في الصين، إذ فقد بنك الشعب الصيني سلطته على الشركات المالية القابضة ولوائح حماية المستهلك المالي لصالح هيئة تنظيمية جديدة هي إدارة الدولة للرقابة المالية، التي ستشرف أيضًا على اللوائح المصرفية والتأمينية.
كما تقرر افتتاح 31 فرعًا جديدًا لبنك الشعب الصيني على مستوى المقاطعات مما يشير إلى تنسيق أعمق بين البنك والسلطات المحلية. ويظهر هذا التعديل اتجاهًا إلى مزيد من مركزية السلطة تحت جهاز الحزب، فعلى عكس البنوك المركزية الأخرى، فإن بنك الشعب الصيني ليس مستقلًا تمامًا، حيث يُطلب من مجلس الدولة (أي رئاسة الحكومة) التوقيع على القرارات المتعلقة بعرض النقود وأسعار الفائدة. كما يتعقب مجلس الدولة أبحاث بنك الشعب الصيني حول اليوان الرقمي منذ الموافقة على الخطة الأولية في عام 2016.
من منظور السياسة النقدية، يمكن أن تكون البنية التحتية لليوان الصيني أداة مفيدة في يد بنك الشعب الصيني، والتي يمكن أن تزيد أو تقلل المعروض النقدي. وبينما تضع الصين استراتيجية لتحفيز الإنفاق الاستهلاكي هذا العام، هناك فرصة للقيام بذلك عن طريق استخدام وتوسيع شبكة اليوان الرقمي. وقد قامت الصين بالفعل بزيادة السيولة قصيرة الأجل للبنك بمقدار 118 مليار دولار والسيولة طويلة الأجل بمقدار 72 مليار دولار من خلال تقليل متطلبات نسبة الاحتياطي هذا العام.
- اليوان الرقمي حول العالم
يشير استخدام كلمة “اليوان الرقمي” بشكل عام إلى البنية التحتية المحلية لمدفوعات التجزئة، ومع ذلك، فإن الكثير من النقاش في واشنطن يشير إلى قدرات البيع بالجملة العابرة للحدود التي يختبرها بنك الشعب الصيني الآن، حيث يشارك البنك في تجربة مشتركة مع سلطة النقد في هونج كونج، وبنك تايلاند، ومصرف الإمارات المركزي، وبنك التسويات الدولية الذي يسمى بـ “Project mBridge”، لإنشاء بنية تحتية مشتركة عبر الحدود لتسهيل عملية تسوية المعاملات في الوقت المناسب وبتكلفة رخيصة.
ففي أكتوبر الماضي، أجرى “Project mBridge” بنجاح 164 صفقة بالتعاون مع 20 بنكًا في 4 دول، لتسوية ما مجموعه 22 مليون دولار. وبدلاً من الاعتماد على شبكات المراسلة المصرفية، تمكنت البنوك من الارتباط بنظرائها الأجانب مباشرةً لإجراء المدفوعات وتسويات العملات الأجنبية وعمليات الاسترداد والإصدار عبر العملات الرقمية الوطنية، ومن المثير للاهتمام أن ما يقرب من نصف جميع المعاملات تمت باليوان الرقمي، وعلى الأرجح سبب ذلك هو زيادة حصة اليوان في التسويات التجارية الإقليمية.
وقد وصف المحللون تلك الجهود بأنها محاولة لإزالة الدولرة وتدويل اليوان، لكن من المهم الإشارة إلى أن اليوان الرقمي مثل نظيره النقدي يواجه نفس قيود السيولة بسبب ضوابط رأس المال على المعاملات الخارجية. وقد انعكس ذلك في تجربة “mBridge”، حيث كان أحد التعليقات الرئيسية من المشاركين هو الحاجة إلى سيولة أكبر من صانعي سوق العملات الأجنبية وموفري السيولة الآخرين لتحسين إمكانات المعاملات بالعملات الأجنبية للمنصة.
بالإضافة إلى ذلك، حتى لو تم تداول اليوان الرقمي بحرية في المستقبل، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في قيمة اليوان ومن المحتمل ألا تكون هذه نتيجة مرغوبة لبنك الشعب الصيني، ولهذا السبب فإن تجربة “mBridge” سيكون تأثيرها محدودا على دور الدولار.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن تجربة اليوان الرقمي تجسد التشابك بين الطموحات المحلية والعالمية للصين، وتعتبر خطوة في طريق طويل لإعادة هندسة النظام المصرفي العالمي، كما أن تنامي التكتلات المصرفية التي تقوم بها مع بنوك مركزية أخرى لتسوية المعاملات بالعملات الرقمية الوطنية، وتصاعد الاتجاه نحو استخدام العملات الوطنية في التجارة الدولية، سيشكل على المدى الطويل مصدر تهديد للهيمنة الأمريكية على النظام المصرفي العالمي.