تقارير

استراتيجية صينية لاحتواء إيران

شكلت زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان للعاصمة الصينية بكين، الأسبوع الماضي، أحدث حلقة في مجموعة من الاتصالات رفيعة المستوى بين البلدين على مدى السنوات القليلة الماضية، وكان على أجندة عبد اللهيان المناقشات المتعلقة باتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين الصين وإيران في مارس 2021، التي توفر إطارًا للتعاون السياسي والاقتصادي والأمني بين البلدين على مدى السنوات الـ 25 المقبلة؛ وتأتي على غرار اتفاقيات مماثلة أبرمتها الصين مع عدد من دول المنطقة مثل السعودية والإمارات والعراق، لكن المختلف في اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران أن تنفيذها يتوقف على إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) لعام 2015.
ووفقًا لتقرير نشره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (مركز بحثي مستقل) فإن اللافت هنا أنه على الرغم من العناوين الرئيسية التي تحذر من أن الصين وإيران تعمّقان العلاقات بهدف تحدي الهيمنة الغربية، إلا أن واقع العلاقات بين البلدين متوتر، لا سيما منذ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة في مايو 2018، فطيلة العامين التاليين أصيبت إيران بخيبة أمل من تحركات الصين لتقليص التجارة النفطية وغير النفطية في ظل العقوبات الأمريكية الثانوية (عقوبات تفرض على الأطراف الخارجية الأجنبية التي تتعامل مع الكيانات المفروض عليها عقوبات، وذلك بهدف توسيع دائرة العقوبات وزيادة فاعليتها، وتضييق الخناق على الطرف المستَهدف).
أما بكين فكانت قلقة بشأن الاستفزازات الخطيرة في المنطقة، بما في ذلك الهجمات على البنية التحتية للنفط وناقلات النفط، وهي نقاط مهمة في سلسلة إمداد الطاقة للصين .

قناعة الصين بفاعلية الدبلوماسية الإقليمية في تأمين مصالحها بالشرق الأوسط
وعندما تسربت مسودة اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بكين وطهران في يوليو 2020، كان هناك احتجاج شعبي في إيران، حيث أدت التقارير الغربية إلى اعتقاد الجمهور الإيراني بأن إدارة الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني كانت على وشك البدء في بيع الأصول الوطنية للصين، وكان الاحتجاج شرسًا لدرجة تأجيل توقيع الاتفاقية لأكثر من ستة أشهر حتى تتمكن الحكومة الإيرانية من ضمان أن يلقى وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ترحيبًا حارًّا في طهران.
ومنذ ذلك الحين، تحسنت العلاقات الصينية الإيرانية، ليس لأن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة أدت إلى أي نتائج ملموسة، ولكن لأن الخطوات على المسار الدبلوماسي بالشرق الأوسط أدت لتهدئة المخاوف بين صانعي السياسة الصينيين بشأن انزلاق المنطقة نحو أزمة أعمق، إذ تقدم المحادثات الجارية في فيينا حول مستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة احتمال توقف التصعيد النووي الإيراني عن أن يكون بؤرة ساخنة، هذا فضلًا عن أن المحادثات بين إيران ودول الجوار العربية جعلت الصراع الإقليمي أقل احتمالًا. ويساعد الوضع في الحالتين في الحفاظ على أمن الطاقة الصيني من خلال تقليل احتمالية أن يؤدي الصراع الإقليمي لوقف تدفق النفط الخام الذي يعتمد عليه اقتصاد الصين.
وبعد اجتماعه مع عبد اللهيان، الذي أعقب مباحثات مع وزراء خارجية السعودية والبحرين والكويت وعمان وتركيا، أيد وزير الخارجية الصيني وانغ يي فكرة أن الدبلوماسية الإقليمية يمكن أن تضمن سلامًا إقليميًا، حيث صرّح قائلا: “نعتقد أن شعوب الشرق الأوسط هم سادة الشرق الأوسط، ولا داعي للنظام الأبوي من الخارج”.
القوة التأثيرية للنفوذ الاقتصادي الصيني على إيران
زادت الصين مؤخرًا مشترياتها من النفط الإيراني، في تحدٍ مباشر للعقوبات الأمريكية، مما أدى لانتعاش في قطاع النفط الإيراني بعد ثلاث سنوات من الركود، ورغم أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حذرت الصين علنًا وسرًّا بشأن هذه المشتريات، لكنها لم تسع إلى فرض عقوباتها بطريقة كبيرة.
وبينما يشير بعض المحللين إلى أن مشتريات النفط الصينية تعني أن إيران ستكون أقل ميلًا لاستكمال المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي، لأنها تتمتع بفائدة اقتصادية رئيسية تتمثل في تخفيف حدة العقوبات، إلا أن هذا التحليل يتجاهل حقيقة أن لواشنطن وبكين مصالح مشتركة عندما يتعلق الأمر بخطة العمل الشاملة المشتركة، فأحد التفسيرات لعدم تطبيق إدارة بايدن العقوبات بشأن شراء الصين للنفط الإيراني، تتمثل في أن القليل من الدعم الاقتصادي الصيني لإيران كان فعالًا في إعادتها إلى طاولة المفاوضات.
وعلى الأرجح، فإن الصين جعلت دعمها الاقتصادي لإيران مشروطًا بضمانات من طهران بأنها ستسعى -على المدى الطويل على الأقل- إلى استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة. وكانت هذه صفقة ذكية، فلولا زيادة الصين لمشترياتها للنفط التي بدأت في عام 2020، لكانت إيران قد خلصت منذ فترة طويلة إلى أنه لم يعد هناك أي فوائد اقتصادية ناجمة عن الاستمرار في الاتفاق النووي.
وتجدر الإشارة إلى أن القادة الأوروبيين قد وعدوا إيران في عام 2018 بإيجاد طرق للحفاظ على الفوائد الاقتصادية للاتفاق في مواجهة العقوبات الثانوية الأمريكية، تجسدت في إطلاق آلية “إينستكس” لدعم التبادل التجاري مع إيران، لكن جهودهم فشلت في وقف الانخفاض الدراماتيكي في التجارة الثنائية مع طهران، بينما كانت الصين هي الطرف الوحيد في الاتفاق النووي، القادر على منح إيران شريان حياة اقتصاديًّا في مواجهة العقوبات الأمريكية. وهو ما منح المسؤولين الصينيين نفوذًا فريدًا.
ووفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، على الأرجح أنه تم تشجيع عبد اللهيان خلال زيارته لبكين على إتمام المفاوضات النووية، مع التحذير من أن عدم القيام بذلك ستكون له عواقب وخيمة على العلاقات الصينية الإيرانية. ورغم أن البيان الرسمي الصيني بشأن المباحثات مع وزير خارجية إيران يلقي باللوم على الانسحاب الأمريكي في “الوضع الصعب” الراهن، لكنه ناشد “جميع الأطراف للتغلب على الصعوبات والالتقاء في منتصف الطريق، والاستمرار في دفع عملية التسوية السياسية والدبلوماسية إلى الأمام”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدعم الاقتصادي الصيني لإيران حاليًا يبقى دعمًا محدودًا، فبينما انتعشت مشتريات النفط، لم ترتفع مشتريات إيران من السلع الصناعية الصينية، كما أن الاستثمار الصيني في إيران منعدم.
وكمعظم الاقتصادات النامية، يعتمد مسار إيران إلى النمو الاقتصادي الدائم على علاقة اقتصادية أكثر فاعلية مع الصين، لكن في الوقت الحالي تتخلف التجارة الصينية والاستثمار في إيران عن مستوياتها مع الدول العربية المجاورة لإيران، وسيتطلب اللحاق بالركب أن تستفيد طهران من رفع العقوبات الأمريكية الثانوية.
خطوات متوقعة من بكين حال فشل محادثات فيينا
وفي الوقت الذي أكدت فيه الإدارة الأمريكية ودول غربية أبرزها فرنسا مرارًا وتكرارًا أنه لم يتبق سوى القليل من الوقت لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني، يثار تساؤل حول الخطوات المتوقعة من جانب الصين حال فشل المحادثات النووية في فيينا.
ويرجح تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن الصين ستقاوم الجهود التي يقودها الغرب لإعادة فرض عقوبات متعددة الأطراف على إيران، وستمنع إعادة فرض العقوبات الأممية، فهي ربما تفضل اتفاقًا مؤقتًا.
ولإثبات سيادتها الاقتصادية وتعزيز أمن طاقتها، ستواصل الصين شراء بعض النفط الإيراني، لكن من غير المحتمل أن تستمر هذه المشتريات بنفس الأحجام التي نشهدها اليوم، فلن يكون خفض المشتريات وسيلة واحدة فقط لفرض الصين تكاليف على إيران مقابل أي تصعيد نووي يتبع تفكك خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن ستكون هناك حدود تشغيلية أيضًا لبرنامج طهران النووي.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن الحجم الحالي لمشتريات الصين من النفط الإيراني تعتمد جزئيًا على إعادة التصدير عبر دول أخرى يمكن توقع توقفها عن ذلك حال فشل مفاوضات فيينا، فضلًا عن أنه في حالة إنفاذ العقوبات الأمريكية الثانوية سيدفع ذلك العديد من التجار ومصافي التكرير الصينيين إلى تجنب الموردين الإيرانيين.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الاستراتيجية الصينية للتعامل مع إيران استطاعت توظيف النفوذ الاقتصادي كحافز لجلب لطهران إلى طاولة المفاوضات الرامية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وحافظت حتى الآن على بقاء هذا الاتفاق رغم الانتهاك الإيراني لبنوده، لاسيما فيما يخص مستوى التخصيب لليورانيوم.
وأخيرًا، يبقى تعميق العلاقات الثنائية بين الصين وإيران مرهونًا بعدد من المحددات أبرزها استعادة العمل بالاتفاق النووي حتى تتجنب العقوبات الأمريكية الحالية والغربية المحتملة، والتزام طهران بتهدئة إقليمية وكبح وكلائها وميليشياتها في المنطقة عن التصعيد، وشن الهجمات التي تضر بطريقة غير مباشرة بمصالح الصين نظرًا لارتباطها الاقتصادي الوثيق بإمدادات الطاقة الواردة من دول الخليج العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى