في السادس من يناير 2021، اقتحمت حشود متطرفة من أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مبنى الكونجرس خلال جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب للتصديق على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ما أدى إلى تعطيل الجلسة، ونشر الفوضى في أروقة الكونجرس ومقتل خمسة أشخاص.
وجاء ذلك بعدما قام المتظاهرون بتنظيم أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي اليمينية المتطرفة – وبالتحديد “غاب- Gab”، و”بارلر- Parler”، إذ حركهم اعتقاد مشترك أن “الانتخابات مسروقة”، وأن واجبهم المقدس هو “وقف السرقة” بأي وسيلة، بما في ذلك التخويف والعنف.
وفي هذا الإطار، اختبرت دراسة جديدة نشرتها مجلة ” Social Psychological and Personality Science” العلاقة بين التقارب الأخلاقي والخطاب التحريضي البغيض في شبكتين اجتماعيتين متطرفتين عبر الإنترنت؛ الأولى هي منصة “غاب- Gab” (تضم يمنيين متطرفين)، والثانية شبكة إنسيل-Incels” (مجتمع على الإنترنت مُعادٍ للنساء ومرتبط بأعمال إرهاب والعديد من عمليات القتل الجماعي).
الإقدام على العنف بدوافع أخلاقية
تشير الدراسة الصادرة عن جامعة جنوب كاليفورنيا إلى أن تحديد العوامل التي تقود الأشخاص العاديين إلى التطرف والانخراط في الأنشطة التي تعتبر انتهاكًا للأعراف، يعتبر سؤالًا ملحًا عبر الأطر النظرية لمنظومة العلوم الاجتماعية، إذ سلطت التطورات النظرية الحديثة الضوء على أدوار العمليات الاجتماعية المختلفة في التطرف، بما في ذلك إعطاء الأهمية والمعنى للانتماء إلى الفئات الاجتماعية، والروايات والشبكات المرتبطة بالمجموعة.
وبمجرد أن تصبح قضية ما أخلاقية، من المرجح أن يتصرف الأفراد وفقًا لها لضمان أن تسود جماعتهم بأي وسيلة بما في ذلك الإقناع أو الكذب أو الغش أو الاحتجاج أو العنف.
وعادة ما تكون “المشاعر الأخلاقية- Moral emotions” مثل الغضب والاشمئزاز والكراهية تجاه المجموعة الخارجية مؤثرة في سياقات “نحن مقابل هم”، مما يخلق روابط قبلية قوية مع مجموعة واحدة، وعداء شديدًا تجاه الأفراد خارج تلك المجموعة الذين قد يتم تجريدهم من الإنسانية، ويُنظر إليهم على أنهم يستحقون الأذى والاضطهاد.
وفي الآونة الأخيرة تم إثبات التصور القائل بأن آراء الشخص الأخلاقية المشتركة مع الآخرين – ظاهرة يُشار إليها بـ”التقارب الأخلاقي المتصور- perceived moral convergence”- تزيد من تأثير الأخلاق على قبول العنف والسلوك الراديكالي المتطرف. وعلى وجه التحديد في حالة النزاعات بين المجموعات يبدو أن استحضار العنف غالبًا ما يكون مرهونًا بإضفاء الطابع الأخلاقي على النزاع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه قبل الانتشار واسع النطاق للشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت، كان التقارب الأخلاقي المتصور يحدث بين “مجموعة من الإخوة” أو “أصدقاء كرة القدم”، حيث تعمل المبادئ الأخلاقية المشتركة على تقوية أواصر المجموعة، ويؤدي تصورهم بشأن انتهاك هذه المبادئ إلى نوايا متطرفة ضد الجماعات الخارجية.
هذا ويعتبر مفهوم التقارب الأخلاقي حاليًا ظاهرة شائعة بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، إذ يتم تحديد القيم الأخلاقية – لا سيما تلك المتعلقة بـ”النقاء الأخلاقي – moral purity ” (على سبيل المثال التدين) – على أنها مصدر للتضامن، وعامل مهم في تكوين الروابط والمجتمعات عبر الإنترنت، مما يؤدي غالبًا إلى “غرف الصدى الأخلاقية- moral echo chambers ” مع تصورات مبالغ فيها للغاية عن التجانس بين الأعضاء.
فرضيات الدراسة
وقد اختبرت الدراسة التي أجراها فريق بحثي من جامعة جنوب كاليفورنيا صحة فرضيتين رئيسيتين، الأولى تقوم على أن المستخدمين الذين يكونون في نظام إيكولوجي للمعلومات متجانس أخلاقيًا هم أكثر عُرضة لنشر خطاب الكراهية لانتقاص المجموعة الخارجية وتجريدها من إنسانيتها.
أما الفرضية الثانية فتتعلق بأن التقارب الأخلاقي المُدرك من شأنه أن يُغري نوايا التطرف المؤيدة للجماعة من خلال هوية الاندماج والشعور الملحوظ بالقوة.
واعتمدت الدراسة على نموذج لاكتشاف اللغة الأخلاقية، طوره علماء في جامعة جنوب كاليفورنيا ومؤسسات أخرى منذ بضع سنوات، حيث يعتمد على إطار عمل سابق للتعلم العميق لبرنامج كمبيوتر يمكنه تحديد النص الذي يثير مخاوف أخلاقية مرتبطة بأنواع مختلفة من القيم الأخلاقية وأضدادها مثل الرعاية / الأذى ، والولاء / الخيانة.
وفي هذا السياق، يقول المؤلف الرئيسي للدراسة محمد أتاري: “لقد نظر فريق البحث لدينا في كيفية تحفيز الأخلاق للأفراد على الانخراط في أنواع مختلفة من السلوك، بدءًا من التبرع أثناء كارثة إلى اتخاذ إجراءات متطرفة وحتى العنف لحماية مجموعتهم”، مشيرًا إلى أن “هؤلاء الأشخاص يشعرون أن الآخرين يفعلون شيئًا خاطئًا من الناحية الأخلاقية، ومن واجبهم المُقدس فعل شيء حيال ذلك، حتى لو كان ذلك يعني نشر خطاب كراهية وارتكاب جرائم كراهية”.
مستويات الدراسة
وقد اختبرت الدراسة الفرضيات عبر سلسلة من الدراسات، إذ تناولت الدراسة الأولى 7692 رسالة تم نشرها بواسطة 800 مستخدم جاء اختيارهم عشوائيًا من مستخدمي منصة “غاب-Gab” على أساس الخطاب البغيض والقيم الأخلاقية استنادًا إلى أدلة ترميز تم تطويرها مسبقًا عبر دمج وجهات النظر العلمية والقانونية والحاسوبية والاجتماعية حول خطاب الكراهية.
وخلصت نتائجها إلى أن المستخدمين الذين تقاربوا مع المكون الأخلاقي لمجموعتهم كانوا أكثر عُرضة لنشر خطاب الكراهية، واللغة التي تهدف إلى نزع الصفة الإنسانية، أو الدعوة إلى العنف، ضد أعضاء خارج هذه المجموعة.
وفي الدراسة الثانية تم تطبيق نفس المنهجية على مجموعة من 906455 تعليقًا بواسطة 34165 مستخدمًا نشطًا على شبكة بموقع “رديت- Reddit” تسمى “إنسيل-Incels” (تجمع للرجال العزاب المعادين للنساء) تتبنى المجموعة أفكارًا مُعادية للمرأة، وتتغاضى عن الاغتصاب أو تقلل من شأنه أو تدعو إليه، مع استخدام لغة مهينة للإشارة للنساء؛ مثل وصفهن بـ”العاهرات- sluts”.
وقد توصلت تلك الدراسة إلى نتيجة مماثلة للدراسة الأولى الخاصة بمنصة “غاب-Gab”.
وتشير هذه الدراسات القائمة على الملاحظة إلى احتمال أن يؤدي التجانس في وجهات النظر الأخلاقية تجاه العالم داخل الشبكات الاجتماعية إلى التحقق من صحة المواقف المشتركة وتعزيزها، حتى وإن أدت إلى سلوكيات متطرفة.
ونوه فريق البحث أنه لا يمكن استنتاج أي اتجاه للسببية في الدراسات الخاصة بمنصات التواصل الاجتماعي، القائمة على الملاحظة، لذلك لجؤوا إلى دراسات تتبعية لفهم أفضل للآليات التي تشرح الرابط بين التقارب الأخلاقي والتطرف في البيئات التجريبية الخاضعة للرقابة.
ومن هذا المنطلق ركزت الدراسة الثالثة على عينة شملت 333 شخصًا نشطين على فيسبوك في مجموعات، وقامت بتوجيه أسئلة لهم من بينها مدى إمكانية الالتحاق أو الانتماء إلى منظمة تناضل من أجل المعتقدات الأخلاقية للمجموعة. وأفادت نتائجها بأنه عندما تم توجيه الأشخاص إلى الاعتقاد بأن مجموعتهم كانت متجانسة أخلاقيًّا، أصبحوا أكثر ميلاً للتصرف لصالح المجموعة، بل باتوا حتى على استعداد لارتكاب أعمال متطرفة لحماية المجموعة.
وفي الدراسة الرابعة، تم تكرار نفس المنهج على عينة من البالغين الأمريكيين تتألف من 510 (254 ذكرًا و256 أنثى) تتراوح أعمارهم من 18 إلى 70 عامًا، يشكل الجمهوريون (50.3%) من العينة والديمقراطيون (49.7%).
وأظهرت النتائج حالة من اندماج الهوية، فعندما يدرك الأفراد تجانس الآراء الأخلاقية في مجموعتهم، فإنهم يطورون إحساسًا عميقًا بالتوحد مع مجموعتهم، والذي بدوره يمكن أن يجعلهم متطرفين ليصبحوا مستعدين لارتكاب أي فعل لحماية مجموعتهم والحفاظ عليها.
وقدمت الدراسة الخامسة دليلًا تجريبيًا على أن التقارب الأخلاقي له تأثير فريد على التطرف والاستعداد للقتال والموت من أجل مجموعة حقيقية.
وتأسيسًا على ما سبق، تتضح أهمية التنوع الأخلاقي في الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت لتجنب الاستقطاب العاطفي، وخلق غرف “الصدى الأخلاقية” التي يؤدي ارتباط الأفراد الشديد بها إلى الدفع نحو التطرف. فدعمًا لجهود التخلص من التطرف لا بد من تنويع النظم الإيكولوجية للمعلومات المتجانسة أخلاقيًّا.
وتجدر الإشارة إلى أن النتائج التي توصلت إليها الدراسة السابقة غير قابلة للتعميم على الثقافات الأخرى؛ كونها اشتملت على تجارب لمشاركين غربيين فقط وتدور حول السياسة الأمريكية، وباستخدام اللغة الإنجليزية، لذلك من الأهمية بمكان إجراء دراسات مماثلة في مناطق مختلفة حول العالم للخروج بنتائج عامة.
وأخيرًا، يبقى القول إن الالتزام الأخلاقي مثلما يربط بين الأفراد، ويعطي المجتمع شكلًا هيكليًّا متماسكًا، ويوفر رؤية لمستقبل عادل ومزدهر، فإن له أيضًا جانبًا مُظلمًا، حيث يمكن أن تؤدي الأشكال المتطرفة منه إلى عكس الكثير من هذه المبادئ الإيجابية، وهو ما ظهرت ملامحه في دور بعض منصات التواصل الاجتماعي في توفير بيئة حاضنة تسهل تواصل المتطرفين مع بعضهم البعض وتجمعهم في إطار مجموعات.