ترجمات

الصحافة البطيئة.. قراءة في المفهوم والخصائص

فرضت التطورات التقنية والسمة السريعة للحياة في العصر الراهن، العديد من التحولات في مجال الإعلام والصحافة، ففي ظل تلك السرعة ووفرة المعلومات باتت هناك حالة اكتظاظ للأخبار التي يتم توزيعها بشكل فوري عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فيتعرض إليها مئات الملايين من المستخدمين النشطين لتلك المنصات.
ومع بروز العديد من المخاوف بشأن نمط الصحافة السريعة نتيجة لأضرار تلك السرعة على جودة المحتوى ودقته، ظهر خطاب مضاد لتلك الممارسات في السنوات الأخيرة من قبل الصحفيين والناشرين الذين نادوا بإبطاء الصحافة. وكان هناك القليل من العمل الأكاديمي حول “الصحافة البطيئة- slow journalism”، لذا فإن الهدف الرئيسي من هذا التقرير التعريف بذلك النمط الصحفي ووصف بعض الخصائص الرئيسية المميزة له، خاصة وأن الصحافة البطيئة وجدت مكانة لدى فئة من الجمهور تشعر بأنها وسيلة لاستثمار وقتهم بحكمة والخروج من ضغط التعرض لتحديثات الأخبار التي لا تتوقف.
ما مدى محورية العنصر الزمني في الصحافة البطيئة؟
ووفقًا لمجلة “Journalism Practice” المتخصصة في الممارسات المهنية للصحافة، لطالما عملت أنواع مختلفة من الصحافة بسرعات متفاوتة فيما يخص ثلاثة أبعاد، وهي إبداع وإنتاج القصص الصحفية، وتداول المطبوعات، والوقت الذي يقضيه الجمهور في استهلاك محتوى الصحيفة، وإذا ما قمنا بفهم “البطء” بمعناه الزمني البحت والذي يعني السماح للصحفيين بأخذ وقت طويل في إنتاج العمل، فهذا يعني أن الصحافة البطيئة موجودة منذ ظهور الصحافة وهو ما يتضح في العديد من القوالب الصحفية ومنها المقال، مثل مقالات الفرنسي ميشيل دي مونتين التي نشرت في ثلاثة مجلدات على مدى 22 عامًا (1570-1592) وصنعت أُسسًا لقواعد فن المقال، وكذلك الصحافة الاستقصائية ومن أبرز نماذجها قصص “نيلي بيللي- Nellie Bly” التي تظاهرت بالجنون عام 1887 ودخلت مصحة نسائية للأمراض العقلية في نيويورك بهدف الكشف عن حالات الإساءة داخل المصحة ونُشرت لاحقًا القصص في شكل كتاب بعنوان 10 أيام في مستشفى المجانين، وأيضًا الصحافة السردية الطويلة مثل مقال جون هيرسي بعنوان “هيروشيما” (يتألف من 31 ألف كلمة) الذي نشرته صحيفة نيويوركر في عام 1946.
وبالطبع فإن المجلات الأسبوعية والشهرية يتسم العمل فيها ببطء كبير مقارنة بالصحافة اليومية أو الصحافة الرقمية الآنية، ويرجع ذلك البطء أيضًا في جانب منه إلى سمات تتعلق بالمجلات، فهي تستغرق وقتًا أطول في التداول، ويميل الجمهور إلى قراءتها بوتيرة أكثر راحة، ولذلك إذا ما تم الانطلاق من هذا المنظور فلن تبدو الصحافة البطيئة شيئًا جديدًا، لكن واقع الأمر أن الصحافة البطيئة تُستخدم للإشارة إلى ما هو أكثر بكثير من الطابع الزمني لعملية الإنتاج.
ماالمكون الفلسفي للصحافة البطيئة وأبرز خصائصها؟
كانت الدكتورة سوزان جرينبيرغ المحاضرة في الصحافة بجامعة روهامبتون البريطانية من أوائل الأكاديميين الذين استخدموا مصطلح “الصحافة البطيئة”، وذلك حينما تطرقت في مقال نشرته بمجلة ” Prospect” البريطانية إلى هيمنة الثقافة الإخبارية “السريعة” وفقدان الصحافة المطبوعة التقليدية للقراء، مشيرة إلى وجوب أن تكون هناك سوق متنامية للمقالات والتقارير الصحفية وغيرها من الكتابات التي تستغرق وقتًا لاكتشاف الأشياء، وأيضًا ملاحظة القصص التي يفتقدها الجمهور وتقديمها إليهم بأفضل الطرق، حيث أطلقت على تلك العملية “الصحافة البطيئة”.
واستعرضت جرينبيرغ بعض الخصائص الأساسية للصحافة البطيئة، إذ إنها تمنح وقتًا للبحث والكتابة بشكل مطول بهدف الجودة، وتعتبر بديلاً للتقارير التقليدية التي يُنظر إليها على أنها تترك فجوة في فهم العالم في وقت أصبحت الحاجة إلى فهمه أكبر من أي وقت مضى.
كما نوهت أن الصحافة البطيئة تظهر للقارئ مصدر المعلومات وكيف تم جمعها، أي أنها تعزز الشفافية، وهو ما يُظهر الفارق بين الصحافة الأصلية وإعادة إنتاج بيانات العلاقات العامة، ويظهر تطبيق الصحافة البطيئة في العصر الرقمي من خلال إتاحة وثائق مرجعية والبحوث الأساسية والقصص الأخرى ذات الصلة لجمهور القراء كي يطلعوا عليها.
وقدمت ميغان لو ماسورييه أستاذة الإعلام بجامعة سيدني الأسترالية، تفسيرًا فلسفيًا لحاجة المجتمعات إلى الصحافة البطيئة، ينطلق من فكرة طرحها الروائي الفرنسي ذو الأصول التشيكية ميلان كونديرا في روايته المعنونة “البطء”، والتي أوضح فيها أن درجة البطء تتناسب طرديًا مع شدة الذاكرة، وأن درجة السرعة تتناسب طرديًا مع شدة النسيان، مع إسقاط تلك الفكرة على العمل الصحفي، في ظل بروز الأخبار السريعة بدعوى جعل الأفراد أكثر اطلاعًاـ لكن تأثير تلك الأخبار تمثل في جعل الأشخاص منغمسين في اللحظية وغير قادرين على الإلمام بأبعاد المشهد برؤية تحليلية.
من جهته، استخلص البروفيسور الأمريكي مارك بيركي جيرارد، أستاذ الإعلام بجامعة روان البحثية في نيوجيرسي في مدونته “Campfire Journalism” عددًا من السمات العامة للصحافة البطيئة، من خلال قراءة للكتابات الحديثة والخطاب العام حول الصحافة البطيئة، وتمثلت فيما يلي:
• التخلي عن صنم التغلب على المنافسين.
• قيم الدقة والجودة وليس فقط التركيز على السرعة والسبق.
• تجنب المشاهير والإثارة والأحداث التي يغطيها المراسلون.
• استغراق وقت لمعرفة الأشياء.
• البحث عن قصص غير مروية.
• الاعتماد على قوة السرد.
• النظر إلى الجمهور كمتعاونين.
وتعتبر هذه الخصائص ليست غريبة عن نمط الصحافة الطويلة، لكن ما يميز الصحافة البطيئة وجوب أن تكون المصادر قابلة للتحقق والتتبع من قبل المستهلكين (جمهور القراء) عبر ربط أو تضمين مصدر المعلومات وطريقة الحصول عليها في النص الصحفي نفسه، كما أن العمل لا بد أن يكون وثيق الصلة بالمجتمع مع الميل إلى التركيز على القصص المحلية. كما توفر بعض ممارسات الصحافة البطيئة فرصة للإنتاج المشترك النشط، بجانب أن تباطؤ وتيرتها يزيد من متعة الإنتاج لدى الصحفي والاستهلاك لدى القارئ.
وفي ذات الإطار، قدم إريك نيفيو، الخبير في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي مجموعة من الخصائص العامة للصحافة البطيئة، وهي كالتالي:
• البطء: تستغرق وقتًا لجمع المعلومات والبيانات ومعالجتها.
• التدقيق: الصحافة البطيئة تعمل على التحقق من المعلومات وليس إعادة تدويرها أو التعليق عليها.
• الانتقائية: فهذا النمط من الصحافة يبتعد عما هو تافه، ويدعو إلى صحافة “انتقائية وتفسيرية”.
• الطول والجودة السردية: غالبًا ما تكون الكتابة ذات الشكل الأطول لتزويد القراء بمادة أكثر عُمقًا وحرفية.
• النزاهة وتعزيز الشفافية.
• التعايش: فالصحافة البطيئة تخدم المجتمع.
• المشاركة: تحوّل الصحافة البطيئة الجمهور إلى شركاء، مما يُشجع القراء على التجاوب مع الأخبار والمساهمة في إنتاجها.
• سرد القصص غير المروية: تُركز الصحافة البطيئة على “العمق” و “غير المروي” وما وراء الكواليس.
ماذا عن العلاقة بين الصحافة البطيئة وإرهاق الأخبار؟
تسير الصحافة البطيئة جنبًا إلى جنب مع مصطلح يسمى “إرهاق الأخبار- news fatigue”، ويسمى أيضًا أحيانًا “تجنب الأخبار- news avoidance” تم تطويره استجابةً لشعور المستهلكين بالإرهاق بسبب التدفقات اللانهائية للأخبار أينما ذهبوا سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو منصات التواصل الاجتماعي.
وعلاوة على ذلك، هناك أيضًا تدفقات من الأخبار الكاذبة، مما يجعل من الصعب رؤية ما هو حقيقي وما هو زائف، لذلك فلا عجب أن الأفراد يفضلون تجنب الأخبار تمامًا، وهنا يأتي دور الأخبار البطيئة. وتتمثل إحدى فوائد الأخبار البطيئة في أنها تزود القرّاء بمحتوى سهل الهضم يريدون قراءته بالفعل عندما يحتاجون إلى أخذ قسط من الراحة، وهذا هو سبب أهمية التحول نحو هذا النوع من الصحافة التي يتلقى من خلالها القرّاء محتوى إخباريًا جيدًا، مع إعطاء الأولوية للمعرفة بشكل أساسي على السرعة التي تصل بها الأخبار إلى المستهلكين.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن الصحافة البطيئة هي رؤية نقدية تشجع الصحفيين العاملين في جميع المجالات وعلى جميع النطاقات الزمنية سواء في إصدارات صحفية يومية أو أسبوعية أو شهرية على بذل المزيد من الجهد في تقديم قصص صحفية أكثر عُمقًا تعتمد على مصادر واضحة ومتعددة، وتتناول موضوعات غير مطروقة أو مستهلكة، بما يُلبي حاجة القرّاء لإشباع رغباتهم في فهم العالم المحيط بهم والقضايا التي تشغلهم بشكل مختلف عن المعالجة التي يتم بها التعامل مع الأخبار لا سيما العاجلة، والتي لا توفر سوى تغطية سطحية دون الغوص في جذور القضايا.
ويبقى التأكيد أيضًا على أنه ستكون هناك دائمًا حاجة إلى نشر المعلومات بسرعة لنقل الأخبار، ومنها على سبيل المثال تلك المتعلقة بالكوارث الطبيعية أو الأسواق المالية، فلا يمكن للصحافة البطيئة أن تقلل من وتيرة إنتاج هذه النوعية من الأخبار وهي لا تسعى إلى القيام بذلك.
من جهة أخرى، تعتبر الصحافة البطيئة النهج الأكثر ملاءمة لنمط من القوالب الصحفية مثل التحقيقات الاستقصائية الطويلة، وهو نمط أخذ في النمو حيث يسعى إليه القرّاء للحصول على قسط من الراحة من إشعارات الأخبار العاجلة المستمرة.
وأخيرًا يمكن القول بأن القارئ في حاجة إلى متابعة الأحداث أولاً بأول، ولكنه في الوقت ذاته سيكون من المفيد والضروري تناول تلك الأحداث بعد ذلك بشكل مطول أكثر عمقاً وشفافية، وبذلك يتحقق البقاء على إطلاع على مستجدات الأحداث وأيضًا التعرض لها بشكل أكثر عمقاً وتفصيلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى