يعتبر استهلاك الجمهور لوسائل الإعلام بشقيها التقليدية والجديدة مؤشرًا مهمًا لصناعة الإعلام، حيث إن ذلك يعكس تفضيلات المستهلكين للوسيلة الإعلامية وطبيعة المحتوى الذي تقدمه، بما ينعكس على كيفية صياغة الأجندة الإعلامية وتحديد أولوياتها، وبالقدر ذاته تنطوي المسألة على أهمية من الناحية التسويقية والإعلانية، فهي بوصلة توجه القائمين على تصميم الاستراتيجيات التسويقية نحو المنصة التي تجعل وصولهم للجمهور أكبر وتجعل الإعلان أكثر رواجًا.
وفي هذا الإطار، أصدرت منصة ” Attest ” لأبحاث المستهلك، التقرير السنوي الثالث لاستهلاك وسائل الإعلام الأمريكية والذي استند إلى عينة تتألف من 2000 أمريكي على المستوى الوطني، وقد أظهر تحولات كبيرة في المشهد الإعلامي مع تداعيات على كل من موفري المحتوى والمنصات والمعلنين، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
تفوق وسائل الإعلام التي تبث عبر الإنترنت على التغطية التلفزيونية الحية
أظهرت الدراسة أن 82.8% من الأمريكيين يستهلكون وسائل الإعلام التي تبث عبر الإنترنت مقابل 81% من مشاهدة البث التلفزيوني المباشر، كما تراجعت نسبة مشاهدة الأمريكيين للبث التلفزيوني المباشر لأكثر من ست ساعات بنحو 10 درجات مئوية، من 18.8% في عام 2020 إلى 8.7% في عام 2021.
وفي الوقت نفسه، ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين لا يشاهدون البث التلفزيوني المباشر من 14% في عام 2020 إلى 19% خلال العام الحالي، وهو ما يتوافق مع النتائج الأخرى التي تظهر تحولًا هائلاً إلى منصات البث لكل من محتوى الصوت والفيديو.
ارتفاع معدلات استهلاك البودكاست
ووفقًا لنتائج الدراسة، أفاد 55.9% من المشاركين في الاستطلاع بأنهم استمعوا إلى البودكاست، مقارنة بـ48.7% في عام 2020. ويتخذ هذا المنحى اتجاهًا تصاعديًا، ويشير إلى أن بعض الاستثمارات المالية الكبيرة في مجال البث الصوتي على مدار السنوات القليلة الماضية من المرجح أن تؤتي ثمارها إذا كان بإمكان موفري المحتوى تحقيق الدخل من جماهيرهم.
وبالتوازي مع الانخفاض في الإفراط في مشاهدة المحتوى التلفزيوني، اتجه مزيد من الأمريكيين إلى الراديو، حيث قال 10.9% فقط إنهم لم يستمعوا أبدًا إلى الراديو مقارنة بـ 20% في عام 2020.
العزوف عن متابعة الأخبار والهروب من الواقع
سلطت الدراسة أيضًا الضوء على التراجع الكبير في اهتمام الجمهور بالأخبار التلفزيونية، والذي يعود على الأرجح إلى الملل من أخبار الوباء وانتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إذ ذكر 31.8% من الأمريكيين أنهم يتابعون بانتظام المحتوى الإخباري في عام 2021، مقارنة بـ 46.3% في عام 2020.
وقد أكد المبحوثون هذا الهروب من الواقع، من خلال سردهم لنوعية البرامج المفضلة لديهم والتي جاءت على النحو التالي: برامج الكوميديا بنسبة 51.1%، والدراما بنسبة 49.8%، والجريمة بنسبة 42.3%.
لا تزال نيتفلكس وأمازون من قنوات البث المفضلة في أمريكا
تواصل منصة نيتفلكس صدارة خدمات بث الفيديو، حيث يمتلك 69.4% من الأفراد الذين شملهم الاستطلاع اشتراكًا نشطًا على المنصة، وفي المركز الثاني خدمة أمازون برايم فيديو بنسبة 52%، وديزني بلس بنسبة 37%. وجاءت منصة HBO Max، التي صنفتها الدراسة على أنها “فيديو عند الطلب” في المرتبة الرابعة بنسبة 31.4 %.
كما اتضح أن الأسر التي لديها ابن واحد على الأقل تحت سن 18 عامًا لديها معدلات أعلى من اشتراكات البث في جميع المجالات.
الإكثار من مشاهدة اليوتيوب.. وتفحص فيسبوك بانتظام
يُعد يوتيوب النظام الأساسي المفضل حيث يستخدمه 87% من الأمريكيين مرة واحدة على الأقل شهريًا، مقارنة بحوالي 82% يستخدمون فيسبوك، ومع ذلك فإن المزيد من الجمهور يتفقدون حساباتهم على فيسبوك يوميًا (54.1%) مقارنة بـ (45.3%) ليوتيوب.
وفي الوقت نفسه، شهد تطبيق “تيك توك” نموًا كبيرًا عما كان عليه في تقرير عام 2020، حيث استخدم 48.3% من الأمريكيين المنصة مرة واحدة على الأقل كل شهر، في حين أن 82.9% من المستهلكين قالوا إنهم لم يستخدموا تطبيق “كلوب هاوس-Clubhouse” مطلقًا رغم الشهرة الواسعة والإقبال العالمي على التطبيق.
من جهة أخرى، لم يكن من المستغرب أن يستخدم الجيل Z (الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا) وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي أكثر من جميع الذين شملهم الاستطلاع (بنسبة 96%)، ولكن اللافت للنظر أن جيل الطفرة السكانية (الذين تتراوح أعمارهم بين 55 و 66 عامًا) جاء بعد ذلك (بنسبة 87%).
تقدم طفيف للاشتراكات في وسائل الإعلام الرقمية عن المطبوعة
ووفقًا للدراسة، أكد 67.2% من المستهلكين أنهم لا يملكون أي اشتراكات مدفوعة مقابل المحتوى في أي من وسائل الإعلام، وقد رصدت الدراسة كذلك فوارق بسيطة في طبيعة الوسيلة الإعلامية موضع الاشتراك، حيث ذكر 19.5% من عينة الدراسة أن لديهم اشتراكات رقمية، بينما أفاد 18% بأن لديهم اشتراكات في مطبوعات.
ونوهت الدراسة إلى أن بعض هذه النتائج شكّلت تطورًا طبيعيًا لاتجاهات جديدة في الاستهلاك مدفوعة بالتطور التكنولوجي والتقنيات، والبعض الآخر يمثل انحرافات كبيرة عن اتجاهات كانت سائدة لفترات طويلة. كما لفتت الدراسة إلى أن الأمريكيين من كبار السن يتفاعلون تقريبًا مع وسائل التواصل الاجتماعي مثل الجيل Z، حيث يبتعدون عن المصادر التقليدية للحصول على الأخبار والمعلومات، والتحول في المشاهدة من البث التلفزيوني المباشر إلى خدمات البث عبر الإنترنت.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن الخروج بمجموعة من الدروس المستفادة على رأسها ضرورة إجراء بحوث وتقارير تعنى بتحليل استهلاك الجمهور لوسائل الإعلام على المستوى الوطني في المملكة أو على المستوى العربي، فهذه التقارير تشكل خارطة مهمة لصناع ومنتجي المحتوى وكل الأطراف المنخرطة في صناعة الإعلام من أجل إنتاج محتوى يُخاطب احتياجات الجمهور، ويُشبع رغباتهم ويحفزهم على مزيد من الاستهلاك للوسائط الإعلامية المختلفة.
كما تُشكّل تلك التقارير أيضًا أهمية كبرى للمسوقين والمعلنين فهي توضح حجم الإقبال على الوسيلة الإعلامية؛ أخذًا في الاعتبار الخصائص الديموغرافية للجمهور بما تتضمنه من الشريحة العمرية والمؤهلات التعليمية والنوع، وكل هذه العوامل من المطلوب فهم دورها كمحددات في التفاعل مع المنصات الإعلامية، ومن ثمَّ رسم الاستراتيجيات الخاصة بالتسويق والحملات الإعلانية والترويجية، وتحديد حجم الإنفاق الإعلاني وبنوده.
بالإضافة إلى ذلك فإن فهم تأثير المحددات سالفة الذكر يحظى بأهمية أيضًا بالنسبة للجهات الحكومية المسؤولة عن تدشين الحملات التوعوية من أجل ضمان وصول الرسائل إلى الفئات المستهدفة، وتحقيق الفاعلية وبلوغ الأهداف المتوخاة.
ويرتبط فهم التغير في طبيعة وأنماط استهلاك الجمهور لوسائل الإعلام بتوقع الاتجاهات الإعلامية المستقبلية، والتكيف مع التحديات التي تطرأ على صناعة الإعلام ومن أبرزها الأزمات المالية التي تضرب وسائل الإعلام التقليدية والناجمة عن التراجع الحاد في الإيرادات، وفي حجم الإعلانات مع اتجاه المعلنين نحو توجيه ميزانيات الإعلان نحو المنصات الإعلامية الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، هذا فضلًا عن تلاشي الحدود الفاصلة بين الوسيلة الإعلامية والجمهور، حيث أصبح التفاعل المباشر واللحظي سمة مميزة لبيئة الإعلام الجديد، كما تظهر فيه ازدواجية الأدوار فمستهلك المحتوى أصبح أحد صانعيه.