ترجمات

كيف يضخم التعلم الاجتماعي من الغضب الأخلاقي في مواقع التواصل؟

أدى تعاظم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من جانب ملايين الأشخاص حول العالم، إلى تزايد مساحة تأثيرها في سلوك الأفراد وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم، حيث تعمل تلك المنصات على تضخيم تعبيراتهم عن “الغضب الأخلاقي- Moral outrage” كنتاج للحوافز التي يحصلون عليها والمتمثلة في العدد المتزايد من الإعجابات والمشاركات، كما تشجع خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمين على التعبير عن الغضب وتجعله محتوى شائعًا.
ويحمل الغضب في الفضاء الرقمي وجهين، إذ يمكن أن يكون الغضب قوة من أجل صالح المجتمع، حيث يحفز العقاب على التجاوزات الأخلاقية، ويعزز التعاون المجتمعي، ويشجع التغيير الاجتماعي للأفضل، لكنه أيضًا قد يؤدي إلى مظاهر سلبية من خلال المساهمة في انتشار المعلومات المضللة والشائعات وزيادة حدة الاستقطاب السياسي في المجتمع.
هدف وعينة الدراسة
واستهدفت دراسة قام بها باحثون في جامعة “ييل” الأمريكية نشرتها مجلة ” Science Advances” الصادرة عن الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم الإجابة عن تساؤل رئيسي مفاده كيف يمكن أن يؤثر التفاعل بين علم النفس البشري وتصميم المنصة الرقمية على السلوك الأخلاقي في العصر الرقمي؟ وقام فريق البحث بالإجابة عن هذا التساؤل من خلال ما يلي:
• إجراء دراستين قائمتين على الملاحظة لتحليل سجلات التغريدات لــ7331 مستخدمًا لموقع التدوينات القصيرة “تويتر” بواقع 12.7 مليون تغريدة، وحصر التغريدات التي تنطوي على غضب وتحليل التفاعلات معها سواء بالإعجاب أو التعليق
• بالإضافة إلى تجربتين سلوكيتين تشتمل كل منهما على 120 فردًا تم خلال الأولى تعريض العينة إلى تغريدات غاضبة حول موضوعات مثيرة للجدل واستجلاء كيفية تفاعلهم معها سواء بالإعجاب أو التعليق، وفي الثانية تم تعريض العينة إلى تغريدات غاضبة ومحايدة وتحليل تفاعلهم سلوكيًا مع تلك التغريدات.
فرضيات الدراسة
وافترضت الدراسة أن تعبيرات الغضب عبر الإنترنت تتشكل من خلال شكلين متميزين من التعلم الأول هو “التعلم المعزز- reinforcement learning”، وبموجبه يغير الأشخاص سلوكياتهم التعبيرية استجابةً للتعليقات الاجتماعية الإيجابية أو السلبية.
أما الشكل الثاني فهو “التعلم المعياري-norm learning”، الذي يجعل الأشخاص يطابقون تعبيراتهم عن الغضب مع ما يستنتجون من خلال الملاحظة أنه تعبير معياري بين أقرانهم.
وتفترض الدراسة أيضًا أن منصات الوسائط الاجتماعية تتسم بميزات تصميم محددة يمكن أن تؤثر على شكل التعلم، فهي تقدم ملاحظات اجتماعية بارزة للغاية وقابلة للقياس في شكل “إبداء الإعجاب” و”المشاركات”، وهي عنصر مركزي في “التعلم المعزز”، كما تُمكّن المستخدمين من تنظيم أنفسهم في شبكات اجتماعية تتطابق فيها معايير التعبير الخاصة بهم مع تلك المعروضة في ملخصات الأخبار لديهم، والتي يسترشد بها في التعلم المعياري.
وتتبنى الدراسة كذلك فرضية تفيد بأن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ينشرون بشكل أكثر تكرارًا بعد تلقي ردود فعل اجتماعية إيجابية، ويعني ذلك أن تعبيرات الغضب الأخلاقي الحالية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يمكن التنبؤ بها من خلال التعليقات الاجتماعية (الإعجابات والمشاركات) التي تلقوها عندما أعربوا عن غضبهم الأخلاقي في الماضي. علاوة على ذلك، ونظرًا لأن التعبيرات الأخلاقية والعاطفية مثل الغضب تتلقى بشكل خاص مستويات عالية من ردود الفعل الاجتماعية، فمن المرجح أن تزداد تعبيرات الغضب الأخلاقي بمرور الوقت عبر “تعلم التعزيز الاجتماعي- social reinforcement learning”.
وتستبعد الدراسة قدرة التعلم المعزز وحده على تفسير ديناميكيات التعبير عن الغضب الأخلاقي عبر الإنترنت بشكل كامل، إذ يتفاعل مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي مع الآخرين في شبكات اجتماعية كبيرة لكل منها معاييرها الخاصة في التعبير، ففي كل مرة يقوم المستخدم بتسجيل الدخول إلى نظام أساسي، يوفر “موجز الأخبار- News Feed” الخاص به على الفور لمحة سريعة لمعايير الاتصال الموجودة حاليًا في شبكته، لذلك فعلى الأرجح توجه هذه المعلومات التعلم المعياري، حيث يقوم المستخدمون بتعديل سلوكهم باتباع ما يفعله الآخرون، بدلاً من الاستجابة للدعم المقدم منهم.
نتائج الدراسة
كشفت النتائج التي توصل إليها فريق الدراسة عن ثلاثة جوانب تتعلق بالغضب الأخلاقي في العصر الرقمي، وهي كالتالي:
أولًا: التعليقات الاجتماعية الخاصة بالتعبير عن الغضب الأخلاقي تُمكن من التنبؤ بشكل كبير بتعبيرات الغضب المستقبلية، مما يشير إلى أن التعلم المعزز يشكل تعبيرات المستخدمين عن الغضب عبر الإنترنت.
ثانيًا: حساسية تعبيرات الغضب الأخلاقي للمعايير التعبيرية في الشبكات الاجتماعية للمستخدمين، بالإضافة إلى تفضيلات المستخدمين الخاصة، مما يشير إلى أن عمليات التعلم المعيارية توجه التعبيرات الأخلاقية عبر الإنترنت.
ثالثًا، تعمل معايير التعبير على مستوى الشبكة على التخفيف من التعزيز الاجتماعي للغضب: ففي الشبكات الأكثر تطرفًا من الناحية الأيديولوجية، حيث يكون التعبير عن الغضب أكثر شيوعًا، يكون المستخدمون أقل حساسية للتعليقات الاجتماعية عند اتخاذ قرار بشأن التعبير عن الغضب.
وتؤكد هذه النتائج الثلاثة على أهمية النظر في التفاعل بين الميول النفسية البشرية والإمكانيات الجديدة التي أنشأها تصميم منصات التواصل الاجتماعي لشرح السلوك الأخلاقي في العصر الرقمي، كما أنها تتسق مع أبحاث التفاعل بين الإنسان والحاسوب، التي تشير إلى أن ظواهر وسائل الإعلام الاجتماعية الأخلاقية والسياسية -على سبيل المثال انتشار المعلومات المضللة- من الأفضل فهمها على أنها مزيج من التأثير المنسق من أعلى إلى أسفل، ومن القاعدة إلى القمة.
كما وجدت الدراسة أيضًا أنه قد يكون للتعلم المعزز للسلوك الأخلاقي عبر الإنترنت جنبًا إلى جنب مع تصميم منصات التواصل الاجتماعي آثار اجتماعية مهمة، إذ يمكن أن تؤثر خوارزميات “تغذية الأخبار- News feed” لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل مباشر على مقدار التعليقات الاجتماعية التي يتلقاها منشور معين من خلال تحديد عدد المستخدمين الآخرين الذين تعرضوا للمنشور.
ونظرًا لأن الدراسة خلصت إلى أن التعليقات الاجتماعية تؤثر على تعبيرات المستخدمين عن الغضب بمرور الوقت، فإن هذا يشير إلى أن خوارزميات الأخبار يمكن أن تؤثر على السلوك الأخلاقي للمستخدمين من خلال استغلال ميولهم الطبيعية نحو التعلم المعزز.
وبهذه الطريقة، يختلف التعلم المعزز على وسائل التواصل الاجتماعي عن التعلم المعزز في البيئات الأخرى لأن المدخلات الحاسمة لعملية التعلم تتشكل من خلال اهتمامات الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي.
ونظرًا لكون الغضب الأخلاقي يلعب دورًا حاسمًا في العمل الجماعي والتغيير الاجتماعي، تشير الدراسة إلى أن مصممي المنصات لديهم القدرة على التأثير على نجاح أو فشل الحركات الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن الحملات الإعلامية المصممة للتأثير على المستخدمين.
من جهة أخرى، نوهت الدراسة إلى أن جميع استنتاجاتها تتعلق بالتعبير عن الغضب الأخلاقي في نصوص وسائل التواصل الاجتماعي، وليس العاطفة نفسها والتي لم تتمكن من قياسها بشكل مباشر، فعلى الرغم من أنه من الناحية النظرية يجب أن تكون تجربة الغضب الأخلاقي والتعبير عنها مرتبطين ارتباطًا وثيقًا، فإن أحد الاحتمالات المثيرة للاهتمام هو أن تصميم منصات وسائل التواصل الاجتماعي يفصل تعبيرات الغضب عن تجربة المشاعر نفسها، ويكون لهذا الفصل تداعيات على حسابات “إجهاد الغضب – outrage fatigue” (يقصد به أن التعرض للغضب أمر مرهق وبالتالي يتضاءل بمرور الوقت).
وأظهرت الدراسة ضمن نتائجها أيضًا أن المستخدمين يتوافقون مع المعايير التعبيرية لشبكتهم الاجتماعية ويعبرون عن المزيد من الغضب عندما يكونون جزءًا لا يتجزأ من شبكات متطرفة أيديولوجيًا حيث تنتشر تعبيرات الغضب على نطاق أوسع، ولذلك قد تشجع عمليات التعلم المعيارية جنبًا إلى جنب مع تعلم التعزيز الاجتماعي، المستخدمين الأكثر اعتدالًا على أن يصبحوا أقل اعتدالًا بمرور الوقت، إذ يتم دفعهم بشكل متكرر من قبل أقرانهم للتعبير عن الغضب.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن منصات وسائل التواصل الاجتماعي لا توفر قنوات محايدة للتعبير الاجتماعي، نظرًا لأن تصميم المنصات لديه القدرة على تضخيم أو تقليل تعبيرات الغضب الأخلاقي بمرور الوقت، وفي ضوء التأثير المتزايد للخطاب عبر الإنترنت على وعي المستخدمين وتوجيه مسار الأحداث في الواقع مع تلاشي الحدود الفاصلة بين الفضاء الرقمي والعالم الحقيقي المادي، فمن الأهمية بمكان أن تركز الأبحاث المستقبلية على تحديد كيف يمكن أن ينتقل تضخيم الغضب الأخلاقي عبر الإنترنت إلى التفاعلات الاجتماعية غير المتصلة بالإنترنت، سواء تلك التي تتعلق بالمشاركة في الشأن العام أو قرارات المستهلكين إزاء السلع والخدمات.
وفي ظل تركيز الدراسة السابقة على منصة تويتر، ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات لتشمل باقي منصات التواصل الاجتماعي، والفروقات فيما بينهم بخصوص التعبير عن الغضب الأخلاقي، فضلًا عن كيفية تأثير الخصائص الأخرى للشبكات الاجتماعية على التوازن بين التعلم المعياري والتعلم المعزز.

زر الذهاب إلى الأعلى