على الرغم من أن شـبكة الإنترنـت أزالـت حـواجز الزمـان والمكـان في التفـاعلات البشـرية، فإن التحدي الأكبر يكمن في الإشكاليات الأخلاقية والمهنية التي نتجت عن ذلك، فقد أوجدت البيئة الرقمية عددًا من المعضلات الأخلاقية الجديدة بجانب المعضلات الأخلاقية التي تواجه الصحافة التقليدية؛ إذ شهدت الصحافة تغيـرات كبيـرة في العصـر الرقمـي، حيث أتاحـت التكنولوجيـا لكـل فـرد القيـام بالنشـر والبـث المباشـر، فتميزت الصحافة الرقمية بالعديد من السمات أهمها التفاعلية، بجانب الفورية والنص الفائق واستخدام الوسائط المتعددة.
وعلى الرغم من أن المبادئ العامة للقيم والأخلاقيات المهنية تكاد تكون واحدة في كل الوسائل بغض النظر عن تغير طبيعة البيئة التي تعمل بها، فإن البيئة الرقمية أضافت قيمًا وأخلاقيات جديدة لهذه المنظومة؛ مما ولّد معها إشكاليات أخلاقية إضافية. إذ تُثير الصحافة الرقمية تساؤلات عدة تتعلق بالضوابط الأخلاقية تتمثل فيما يأتي: إلى أي مدى تم امتلاك الموقع بشكل قانوني؟ والمسؤولية الأخلاقية عما ينشر مثل التعليقات مجهولة الهوية، ومسؤولية الموقع حول الروابط التي تقود إلى محتوى عدواني، وهناك قضايا أخرى جديدة مرتبطة بالملكية الفكرية والتلاعب الرقمي، سواء في الصور والفيديوهات أو في الضوابط الأخلاقية للذكاء الصناعي والصحافة الآلية، كما أوجدت البيئة الرقمية إشكاليات أخلاقية تتعلق بمدى التزام الصحفيين بمدونات السلوك والتنظيم الذاتي ومواثيق الشرف والخصوصية الرقمية.
رصد لدراسات تطبيق الضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية
ورصدت دراسة نشرتها مجلة البحوث الإعلامية بعنوان “الاتجاهات الحديثة في بحوث تطبيق الضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية.. رؤية تحليلية نقدية”، البحوث العلمية (رسائل الدكتوراه وبحوث علمية منشورة في دوريات محكمة) العربية والأجنبية المرتبطة ببحوث تطبيق الضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية، وذلك خلال الفترة من 2015 حتى 2020 مع مراعاة التنوع في المدارس العربية والأوروبية والأمريكية والآسيوية والإفريقية.
واعتمدت الدراسة على منهج المسح بأسلوب تحليل البيانات من المستوى الثاني لبحوث تطبيق الضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية، المنشورة في دوريات أجنبية وعربية محكمة، وكذلك رسائل الدكتوراه العربية والأجنبية، عبر إجراء تحليل كمي من خلال رصد النظريات التي اعتمدت عليها الدراسات وأنواع المناهج وأدوات جمع البيانات وأنواع العينات، بالإضافة إلى تحليل كيفي للقضايا البحثية التي تناولتها الدراسات واستخلاص أهم الإضافات المعرفية، ومن ثم تقديم رؤية نقدية مقارنة بين المدارس الأوروبية والأمريكية والعربية والآسيوية والإفريقية، وصولاً إلى تقديم أجندة بحثية مستقبلية للبحث في مجال تطبيق الضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية.
محاور عامة لدراسات الضـوابط الأخلاقيـة للصـحافة الرقمية
وتمثلت عينة الدراسة في 58 دراسة بواقع 11 دراسة باللغة العربية و47 دراسة باللغة الإنجليزية تناولت الضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية، وقد جرى تصنيفها إلى عدد من المحاور أبرزها:
أولًا: دراسات اهتمت بتناول مواثيق الشـرف للضـوابط الأخلاقيـة للصـحافة الرقمية، وتصورات الصحفيين لدورها في الممارسة المهنية، إذ أوضحت أن هناك مواثيق شرف عديدة تم تحديثها في بعض دول العالم، إلا أنها لم تحتو على قواعد لممارسة النشاط الرقمي، فمن بين 99 ميثاقًا تم تحليلها من دول العالم المختلفة هناك 9 فقط تضمنت الإشارة للإنترنت وتكنولوجيا المعلومات وهي في (البوسنة والهرسك، كندا، المجر، لوكسمبرج، هولندا، النرويج، رومانيا، بريطانيا)، كما أنه من بين 18 مدونة أخلاقية تم تحليلها في دول أمريكا اللاتينية، هناك 3 مدونات فقط تناولت المبادئ الأخلاقية للصحافة الآلية.
ولفتت تلك الدراسات إلى أنه على الرغم من ظهور تقنيات جديدة وأدوات تستفيد من إمكانيات الإنترنت في تطبيق المحاسبة والمساءلة، فإن الصحفيين لا يزالون يثقون في الأدوات التقليدية ويعدون القواعد الأخلاقية العامة أكثر أدوات المحاسبة والمساءلة قيمة لوسائل الإعلام.
ثانيًا: تطبيق الضوابط الأخلاقية في أنـواع الصـحافة الرقميـة وينقسـم إلـى ثلاثـة اتجاهــات بحثيــة:
بحــوث الضــوابط الأخلاقيــة لصــحافة المــواطن، والتي خلصت إلى عدم وجود ضوابط محددة، إذ تحكمها الدوافع الشخصية، فضلا عن تجاهل الأخلاقيات في مواقع التواصل الاجتماعي. وبينما رأى البعض أهمية لمواثيق الشرف لصحافة المواطن فإن تيارًا آخر رأى أن تلك المواثيق لا تضمن السلوك الجيد، وقد كشفت الدراسات عن زيادة حجم تجاوزات القراء في التعليقات ووجود علاقة بين زيادة حجم التجاوزات على المواقع والسماح للقراء بالتعليق المباشر دون رقابة سابقة، وتمثلت أشكال التجاوزات الأخلاقية للتعليقات في استخدام ألفاظ غير لائقة وإلقاء الاتهامات والشائعات والتشهير والخوض في الأعراض واحتقار الآخرين.
أما بحوث الضــوابط الأخلاقيــة لصـحافة البيانــات، فتركز على وجوب التحلي بالدقة والإنصاف وعدم التحيز والوصول لأصل البيانات وتصحيح الأخطاء وإضافة السياق والخلفيات التاريخية للبيانات، وتنوه بأن انتهاك الخصوصية والتفسير الخاطئ للنتائج يعتبر من أهم المشكلات الأخلاقية التي تواجه صحافة البيانات.
وفيما يتعلق بالضوابط الأخلاقية للصحافة الآلية والـذكاء الاصـطناعي، اتفقت معظم الدراسات على أنه رغم أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار وأنه أعاد تشكيل غرفة الأخبار، ووفر الوقت والجهد والتكاليف، وحقق السرعة وغيرها من المميزات فإن استخدام هذه التكنولوجيا نتج عنه عدة تحديات ومشكلات أخلاقية، وهي الشفافية والتحقق من الحقائق والإنصاف، والتحيز وعدم التوازن في جمع البيانات. بالإضافة إلى إشكالية المسؤولية الجنائية عن المحتوى المنتج بواسطة الخوارزميات، فضلاً عن تحد أخلاقي يتمثل في تطوير وتقنين المبادئ التوجيهية الأخلاقية للجهات الفاعلة غير الصحفية (من المبرمجين). كما اختلفت نتائج الدراسات حول التحيز في الصحافة الآلية، فبينما رأى بعض الصحفيين أن عمليات الخوارزميات لديها القدرة على الحد من التحيز في إعداد التقارير، وأنه يمكن التقليل من التحيز عن طريق الخوارزميات المشفرة، حذرت دراسات أخرى من أنواع التحيز التي يمكن أن تحدث داخل أنظمة الذكاء الاصطناعي وأهمها التحيز حسب الجنس وحسب العرق.
ثالثًا: تعليم الطلاب الضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية في الجامعات، إذ توصلت نتائج دراسات تعليم الضوابط الأخلاقية الخاصة بالصحافة الرقمية إلى مجموعة من النتائج من بينها أن فاعلية البرنامج التدريبي تنبع مما يتضمنه من معلومات وأنشطة إثرائية في تنمية الوعي لدى طلاب الإعلام التربوي بالضوابط الأخلاقية لوسائل الإعلام الجديدة وتطبيقهم لها، وأن أبرز المعضلات الأخلاقية التي تواجه الطلاب في إنتاج الأخبار هي كتابة العناوين الدقيقة ومحاكاة غرفة الأخبار على الإنترنت في بيئة تعليمية تكسب الطلاب خبرة عملية في مواجهة المعضلات الأخلاقية المتعلقة بالممارسة الصحفية، وتشير كذلك إلى نقص كبير في تعليم أخلاقيات صحافة البيانات، فمن بين 113 مؤسسة لتعليم الصحافة تمتلك 59 فقط مقررًا في صحافة البيانات.
كما يوجد أيضًا ضعف في دور مقررات الأخلاقيات الإعلامية في مساعدة الصحفيين في الإلمام بقواعد السلوك المهني، بجانب الاختلاف بين الدراسة والممارسة الفعلية، فهناك موضوعات مهمة في أخلاقيات الصحافة لا يتم دراستها وأهمها التعرض للحياة الخاصة للأفراد والحفاظ على المصادر.
رابعًا: إشـكاليات وتحـديات تطبيـق الضـوابط الأخلاقيـة في الصـحافة الرقميـة، وتتمثل في 3 عناصر على النحو التالي:
الخصوصية الرقمية: طرحت الدراسات عدة آليات لمواجهة تهديدات الخصوصية تتمثل في المقاومة التقنية مثل استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة، والمقاومة التشريعية مثل قانون حماية الخصوصية في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وحوكمة البيانات.
بحوث الانتحال: رصدت دراسات اتجاهات غير أخلاقية نحو الانتحال بين طلاب الصحافة والصحفيين المبتدئين، مشيرة إلى أن ظهور أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات -لا سيما الإنترنت- زاد من ممارسة الانتحال، ولم تسجل اختلافات كبيرة بين الصحفيين في الولايات المتحدة والصين في اتجاهاتهم نحو الانتحال، وذلك على الرغم من الاختلاف في الثقافات والسياسات.
وتوصلت الدراسات إلى أن الانتحال يتم تشجيعه عبر مجموعة من الآليات أهمها توزيع المحتوى الجاهز للنشر للصحافة بواسطة الجهات الحكومية (أي البيانات الصحفية)، وتشجيع الصحفيين على إضافة أسمائهم على هذه المواد، فهذه الممارسة غير الأخلاقية أنشأت جودة غير حقيقية (نماذج مزيفة) وجعلت الطلاب والصحفيين المبتدئين ينظرون إلى الانتحال بأنه عرف صحفي.
التلاعب بالصورة في الصـحافة الرقمية: يعتبر معرفة واستخدام الفوتوشوب من أهم العوامل المؤثرة على قبول الشباب للتغيير في الصورة، فالتكنولوجيا الرقمية أوجدت عدة تحديات في إنتاج الصورة تمثلت في تغيير تفاصيلها عن طريق الحذفCropping أو الخداع dodging.
اهتمام أوروبي بالبحوث الكيفية لدراسة الضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية
أظهرت الدراسة تفوق المدرسة الأوروبية في الاهتمام بدراسة الضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية، حيث قدمت 23 دراسة من أصل عينة البحث (58 دراسة خضعت للرصد والتحليل) وذلك بنسبة 39.6% تليها المدرستان الأمريكية والعربية حيث قدمت كل منهما 11 دراسة بنسبة 18% ثم المدرسة الآسيوية التي قدمت 7 دراسات بنسبة 12% وأخيرًا المدرسة الإفريقية التي قدمت 6 دراسات بنسبة 10.3%، وفسرت الدراسة تفوق المدرسة الأوروبية في الاهتمام بدراسة الضوابط الأخلاقية في ضوء ما يلي:
– البعد التاريخي والتراث الحضاري واهتمام الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين بالفكر الأخلاقي والنظريات الأخلاقية، لا سيما في عصر النهضة والتنوير والاهتمام بحقوق الإنسان.
– الاهتمام بحرية الإعلام باعتبارها المدخل لتنمية وتطوير صناعة المضمون الإعلامي.
– إدراك أن النصوص القانونية غير كافية لحماية حقوق المواطن العادي.
وأشارت الدراسة إلى انتشار الدراسات الوصفية في بحوث الضوابط الأخلاقية، فمعظم البحوث استهدفت وصف الظاهرة المدروسة وتحديد عناصرها وعلاقاتها في وضعها الراهن، مثل وصف القائم بالاتصال (من الصحفيين المهنيين، الصحفي المواطن، وطلاب الصحافة) أو وصف المحتوى.
كما لم تتوقف هذه البحوث عند حدود الوصف المجرد للظاهرة في إطارها المستقل، وإنما تجاوزت ذلك إلى البحث في علاقة الظاهرة بالظواهر الاجتماعية الأخرى مثل اختلاف الثقافات، وتأثير ذلك على الالتزام بالضوابط الأخلاقية والاتجاهات نحو الانتحال.
كشفت الدراسة عن اهتمام الدراسات الأجنبية بالدراسات الكيفية من خلال المقابلة المتعمقة مع الصحفيين لمعرفة مدى التزامهم بالضوابط الأخلاقية، والعوامل المؤثرة في اتخاذ القرار الأخلاقي، وقد استخدمت بعض الدراسات الأجنبية التحليل الكمي للبيانات الضخمة باستخدام الكمبيوتر، بينما لم تستخدم الدراسات العربية هذه الأداة.
وأظهرت النتائج أن كلا من البحوث العربية والأجنبية استخدمت أداة تحليل الوثائق، بوصفها الأنسب لتحليل مواثيق الشرف الأخلاقية والمقارنة بينها في الدول المختلفة، كما استخدمت كل من الدراسات العربية والأجنبية تحليل المضمون بنوعيه الكمي والكيفي، وهي أداة مناسبة لتحليل مدى التزام القصص الإخبارية بالمعايير الأخلاقية. وبينما اعتمدت الدراسات الأجنبية على تطبيق الاستبيان (الاستبيان الإلكتروني)؛ لم تستخدمه الدراسات العربية.
رؤية مستقبلية لتدريس أخلاقيات الصحافة الرقمية
خلصت الدراسة إلى أنه مع تطور الدراسات في مجال أخلاقيات الصحافة الرقمية؛ توجد حاجة ماسة إلى إدخال مقرر جديد ضمن لوائح أقسام وكليات الإعلام تحت اسم (أخلاقيات الصحافة الرقمية)، بحيث يتضمن الأخلاقيات الواجب على الصحفي في المواقع الإلكترونية وفي غرف تحرير الأخبار الإلتزام بها، ويشمل مقدمة للضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية (تعريف الضوابط الأخلاقية وخصائص البيئة الرقمية)، والنظريات المفسرة للضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية، ومواثيق الشرف والتنظيم الذاتي في الصحافة الرقمية.
بالإضافة إلى الضوابط الأخلاقية للصحافة الآلية والذكاء الاصطناعي والخوارزميات، والضوابط الأخلاقية لصحافة البيانات، والضوابط الأخلاقية لصحافة المواطن وتعليقات القراء، بجانب إشكاليات تطبيق الضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية: (الانتحال- التلاعب في الصورة- الملكية الفكرية- الخصوصية الرقمية).
ويتضمن المقرر المقترح أيضًا استعراضًا لواقع التزام الصحفيين بالضوابط الأخلاقية للصحافة الرقمية، والضوابط الأخلاقية للتعامل مع المصادر في الصحافة الرقمية، والمساءلة والمحاسبة في الصحافة الرقمية، وأمثلة تطبيقية للممارسات غير الأخلاقية في الصحافة الرقمية.
كما اقترحت الدراسة إصدار دورية علمية جديدة باسم “أخلاقيات الإعلام” تهتم بنشر الدراسات في مجال الإعلام الرقمي، وذلك على غرار المجلات الأجنبية المتخصصة في هذا المجال. وكذلك الاهتمام بالصحافة الرقمية وإعادة النظر في لوائح أقسام وكليات الإعلام وتطويرها، بحيث تلائم العصر الرقمي واشتمالها على مقررات ترتبط بالذكاء الاصطناعي وصحافة الإنفوجرافيك وصحافة الفيديو على أن يتضمن ذلك تدريبات عملية للطلاب على إنتاج الصحافة الرقمية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الالتزام بالضوابط الأخلاقية في الصحافة الرقمية مسألة يجب أن تكون على رأس أولويات المجتمع الأكاديمي والمؤسسات الصحفية والإعلامية والجهات التتظيمية كنقابات وروابط الصحفيين من أجل تأهيل وتدريب الصحفيين على ممارسة العمل الصحفي بشكل يتفق مع مواثيق الشرف الإعلامية التي يجب أن تواكب بدورها التطور التكنولوجي وما يثيره من تحديات أخلاقية؛ إذ يبقى التحلي بالصدق والموضوعية والدقة والأمانة أهم سمات العمل الصحفي القادر على جذب الجمهور وكسب احترامه.