تقارير

تأثير تطور البيئة الإعلامية في مهارات العمل الصحفي

غيّرت وسائل الإعلام الرقمية طبيعة الأخبار تمامًا، وبالقدر ذاته المهارات الصحفية اللازمة لإنتاج الأخبار والمحتوى الصحفي، فقبل عقدين كان الأشخاص يلجؤون إلى وسائل الإعلام التقليدية –التلفاز والراديو والصحف- من أجل الاطلاع على الأخبار، لكن حاليًا تهيمن الوسائط الرقمية، فعلى سبيل المثال يفضل أكثر من نصف البالغين في الولايات المتحدة الحصول على أخبارهم من منصة رقمية مثل البودكاست أو وسائل التواصل الاجتماعي.

ويفرض هذا التحول إلى الإعلام الرقمي على الصحفيين الحاجة إلى إتقان مجموعة متنوعة من مهارات الصحافة، فبجانب أسس العمل الصحفي التقليدية، لا بد من التحلي بمهارات الصحافة الرقمية الأكثر طلبًا في بيئة العمل الإعلامي الراهنة والمستقبلية.

فقد خلق الإنترنت والأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي منصات توزيع جديدة للمحتوى الصحفي، ونتيجة لذلك تمتع الجمهور بإمكانية الوصول إلى الأخبار أكثر من أي وقت مضى، وأدت هذه التقنيات أيضًا إلى اكتساب الصحفيين أدوات جديدة لإعداد تقارير عن الأحداث وقت وقوعها، حيث بات بإمكانهم نشر القصص بشكل أسرع وإلى جمهور أوسع، وأصبح من السهل الحصول على تعليقات فورية والوصول إلى البيانات وتحليلها وسرد القصص من خلال وسائط متعددة.

تفضيل الجمهور للصحافة الرقمية

ووفقًا لجامعة “سانت بونافنتورا” في الولايات المتحدة، تواجه وسائل الإعلام تحديات عديدة من أبرزها القدرة على توليد الإيرادات ومحو الأمية الإعلامية، لكن فكرة أن الصحافة تحتضر هي فكرة خاطئة، إذ جعلت التكنولوجيا المحتوى أكثر سهولة من أي وقت مضى، ونتيجة لذلك فإن استهلاك المحتوى آخذ في الارتفاع. ففي عام 2020 وتحديدًا مع تفشي جائحة كورونا ضاعف الأشخاص في جميع أنحاء العالم كمية المحتوى الذي يستهلكونه يوميًا، وأقبلوا على عمل اشتراكات في الأخبار بشكل متزايد.

وقد باتت وسائل الإعلام الرقمية تهيمن على المشهد الصحفي والإعلامي، وهو ما تؤكده دراسات واستطلاعات الرأي، إذ تشير نتائج استطلاع أجراه مركز بيو الأمريكي للأبحاث في يناير الماضي إلى أن المزيد من البالغين في الولايات المتحدة يفضلون الحصول على أخبارهم من المصادر الرقمية أكثر من المصادر التقليدية، حيث قال 86% ممن شملهم الاستطلاع إنهم يحصلون على أخبارهم من جهاز رقمي “غالبًا” أو “أحيانًا”. وهذا أعلى من نسبة البالغين الذين يعتمدون على التلفزيون (68%) والراديو (50%) والمنشورات المطبوعة (32%).

ويثار هنا تساؤل حول أسباب تفضيل الجمهور للصحافة الرقمية، إذ يعود ذلك إلى جملة من العوامل والأسباب، من بينها إمكانية الوصول إلى محتوى الأخبار من أي مكان وفي أي وقت، وتشارك المحتوى، بالإضافة إلى أن الوسائط الرقمية تعمل على تعميق سرد القصص من خلال دمج الكتابة والمرئيات والصوت، وهو ما يعزز تجربة الجمهور مع القصة الصحفية.

وفي هذا الإطار، تستخدم المؤسسات الإخبارية حاليًا منصات وسائط متعددة لنشر المحتوى عبر الإنترنت، بما في ذلك المواقع والمدونات وتطبيقات الموبايل والمدونة الصوتية ومقاطع الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن صفحات الويب التفاعلية، وتسمح هذه المنصات الرقمية للصحفيين بسرد القصص التي تعزز قدرًا أكبر من التعاطف والاستكشاف والتحقيق.

ونتيجة لذلك، فإن الوضع الحالي للصحافة يتطلب توافر مجموعة من المهارات الرقمية للصحفيين ليواكبوا هذه التحولات الجذرية، فوفقًا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، سيتمتع الصحفيون ذوو الخبرة الرقمية بأفضل فرص العمل. ويتوقع المكتب أن ينخفض ​​إجمالي توظيف الصحفيين والمراسلين و”محللي الأخبار الإذاعية- broadcast news analysts” بنسبة 11% خلال الفترة من عام 2019 إلى عام 2029.

وسيواجه الصحفيون والمراسلون ومحللو الأخبار الإذاعية منافسة قوية على الوظائف، فمن يمتلك مهارات الصحافة متعددة الوسائط، بما في ذلك تسجيل وتحرير مقاطع الفيديو أو الصوت سيحظى بفرص العمل، ونظرًا لأن المحطات والمنافذ الإعلامية تنشر بشكل متزايد المحتوى على منصات وسائط متعددة، سيفضل أصحاب العمل من لديهم خبرة في تصميم مواقع الإنترنت والبرمجة.

مهارات الصحافة المطلوبة في البيئة الإعلامية الجديدة

لقد فتحت وسائل الإعلام الرقمية آفاقًا أوسع للصحفيين لإنتاج قصصهم ومشاركتها، ولكي يتمكن الصحفيون من إنشاء المحتوى الرقمي فهم بحاجة إلى إتقان مجموعة متنوعة من المهارات الصحفية التي تلائم البيئة الإعلامية الجديدة، وهو ما يتمثل فيما يلي:

إجراء المقابلات: لا تزال المقابلة واحدة من أكثر مهارات الصحافة أهمية، لأنها تساعد الصحفيين على رواية قصص جديرة بالثقة، وتتسم بكونها دقيقة وذات تأثير، فالمقابلات هي أداة من أجل جمع المعلومات الموثوقة، والتحقق من المعلومات من مصادر أخرى، والكشف عن وجهات النظر المختلفة واستكشافها.

وتتجاوز المهارات الصحفية للمقابلات مجرد طرح الأسئلة، حيث يحتاج الصحفيون إلى التحضير من خلال تحديد الأهداف والبحث، أما أثناء المقابلات فيحتاجون إلى مهارات استماع نشطة والقدرة على الحفاظ على التدفق والتركيز.

الإخبار: وفقًا لمركز بيو لاستطلاعات الرأي، يقول معظم البالغين في الولايات المتحدة إن المؤسسات الإخبارية بحاجة إلى مزيد من الشفافية، فهم يريدون معرفة كيف يجد الصحفيون المصادر ومعايير اختيارها، وطرق إنتاج قصصهم وتصويبها.

وترتبط هذه المخاوف بالإخبار، وهي واحدة من أكثر المهارات الصحفية أهمية، فهي قلب الصحافة الجديرة بالثقة، حيث يحتاج الصحفيون اليوم إلى المهارات من أجل تحديد ومراقبة وجمع وتقييم وتسجيل وتبادل المعلومات ذات الصلة وفهم البيانات وجعلها ذات معنى.

أخلاقيات الصحافة: أدى تزايد انعدام ثقة الجمهور في وسائل الإعلام إلى جذب الانتباه لمهارات الصحافة الأخلاقية، ففي عام 2000 ، ذكر ما يقرب من نصف البالغين في الولايات المتحدة أن لديهم “قدرًا كبيرًا” أو “قدرًا معقولاً” من الثقة في وسائل الإعلام، وانخفض هذا الرقم إلى 40% بحلول عام 2020، لكن لحسن الحظ يرى 75% من البالغين في الولايات المتحدة أن وسائل الإعلام الإخبارية يمكنها تحسين مستوى ثقتهم، وهو ما يتم من خلال تحلي ممارسي العمل الصحفي بمهارات الصحافة الأخلاقية، وهذا يعني الالتزام بالحقيقة والدقة والإنصاف والتنوع وحرية التعبير. كما يجب أن يفهم الصحفيون كيفية تطبيق أخلاقيات العمل الصحفي على أشكال جديدة من وسائل الإعلام.

الكتابة: تعتبر الكتابة مهارة تأسيسية للصحافة، وفي ظل التطور الراهن بات على الصحفيين إتقان الكتابة لجميع أنواع الوسائط، بدءًا من القصص النصية مرورًا بنصوص البودكاست ووصولًا إلى التعليقات على الصور ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي.

وتشمل مهارات الصحافة المتعلقة بالكتابة فهم القواعد اللغوية وعلامات الترقيم، إضافة إلى طريقة الكتابة الملائمة لكل وسيلة أو منصة إعلامية، ويجب أن يعرف الصحفيون أيضًا كيفية الكتابة بوضوح مع تبسيط المعلومات المعقدة، والالتزام بـ”دليل الأسلوب- Style guide”.

مهارات الصحافة الرقمية: يعني التفضيل المتزايد للجمهور لوسائل الإعلام الرقمية أن مهارات الصحافة الرقمية أصبحت ضرورية الآن، لذا يجب أن يكون الصحفيون قادرين على استخدام أدوات سرد القصص الرقمية بشكل استراتيجي للتواصل مع الجماهير على منصات مختلفة، ويعني هذا التفكير بشكل نقدي وإبداعي في أفضل أشكال الوسائط لخدمة الجمهور المستهدف.

ومن أبرز الأمثلة على مهارات الصحافة الرقمية: البث المباشر للفيديوهات على تويتر من الهواتف الجوالة، وتصوير وتحرير الفيديو في سلسلة من صور GIF.

التقارير الاستقصائية: حيث يعد هذا النمط من العمل الصحفي دائمًا واحدًا من مهارات الصحافة الأساسية حتى في العصر الرقمي، وهو يحتاج إلى احترافية وقدرة على دمج جميع مهارات الصحافة على نطاق أكبر وأكثر تعقيدًا.

صحافة الموبايل: إتقان استخدام الهاتف الجوال في العمل الصحفي يأتي في مقدمة المهارات الصحفية الحديثة، حيث يجب على الصحفيين اليوم استخدام الأجهزة المحمولة للتواصل مع الجمهور، وللقيام بذلك يحتاجون إلى مهارات صحافة الموبايل، وذلك من أجل التقاط الصور وتحريرها، وتسجيل وتحرير الصوت والفيديو، والإبلاغ عن الأخبار وقت حدوثها عبر منصات الأخبار التقليدية أو منصات التواصل الاجتماعي، ونشر القصص أثناء التنقل.

التحرير والانضباط اللغوي: يعد من بين أكثر المهارات الصحفية المرغوبة، حيث يجب أن يعرف الصحفيون تدقيق النص لغويًا فهو خطوة ضرورية في خلق صحافة متميزة، تضمن الوضوح والسلامة النحوية.

مواقع التواصل الاجتماعي: تعد وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الثالث الأكثر شيوعًا للأخبار الرقمية بين البالغين في الولايات المتحدة، ويحصل 53 % على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي، ويعني الاستهلاك واسع النطاق للأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي أن الصحفيين بحاجة إلى مهارات استخدامها من أجل التواصل مع الجماهير على المنصات الأكثر شعبية، فضلًا عن التفكير النقدي والإبداعي حول أنسب الوسائط لكل منصة، وبناء علامة تجارية شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، ويعد تويتر الشبكة الاجتماعية الرائدة بين الصحفيين.

مهارات صحافة الفيديو: يجب أن يعرف الصحفيون كيفية إنشاء محتوى فيديو مؤثر، والتحلي بمهارات صحافة الفيديو وهي مزيج من المهارات التحريرية والتقنية، عبر تطوير سرد مقنع وتصوير الفيديو وتحريره على جهاز محمول.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التقدم التكنولوجي أدى إلى ظهور نمط جديد للصحافة يتمثل في الصحافة الرقمية التي باتت تتسيد المشهد الإعلامي، فبين عامي 2000 و2020 انتشرت الأخبار على مواقع الإنترنت وتطبيقات الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، كما ظهرت المؤسسات الإخبارية التي تقدم محتوى رقميًا حصريًا، ومع هذا التطور تغيرت المهارات الواجب توافرها في الصحفي، إذ لم تعد تقتصر على المهارات الصحفية التقليدية، بل أصبح البعد التكنولوجي مكونًا رئيسيًا فيها، فإجادة فنون التحرير الملائم لطبيعة المنصات الرقمية وثقافة الجمهور ورغباتهم المتصلة باستهلاك المحتوى الإخباري، واختزال مراحل إنتاج ونشر المحتوى لتتم عبر الصحفي مباشرة، أصبحت من أهم المهارات المطلوبة في ظل تحولات البيئة الإعلامية الراهنة والآفاق المستقبلية لتطورها.

زر الذهاب إلى الأعلى