تقارير

المحتوى الساخر على منصات التواصل الاجتماعي

تجذب السخرية في التواصل اللفظي وغير اللفظي انتباهًا أكبر وتخلق تأثيرًا أعمق من الاستجابات السلبية الأخرى، ويتمتع الكثير من الأشخاص بمهارة في تضمين السخرية في التواصل الكتابي، ما جعل للتعليقات الساخرة القدرة على تحفيز انتشار محتوى الوسائط الاجتماعية.
ويعد اكتشاف السخرية في الاتصالات عبر منصات التواصل الاجتماعية أمرًا بالغ الأهمية للتنقيب عن الآراء وتحليل المشاعر، وتحديد المتنمرين والمتصيدين على تلك الشبكات، وبالتالي فإن تطوير نماذج حسابية للكشف التلقائي عن السخرية قد تسارعت في الآونة الأخيرة.
وعادةً ما ترتبط العبارات الساخرة بالإشارات غير اللفظية، ولذلك فإن فهم المحتوى الساخر يستلزم من الشخص الفهم والإلمام بكل من الإشارات اللفظية وغير اللفظية المرتبطة بالمحتوى الذي يقوم بمطالعته في مواقع التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من أن السخرية قد تم بحثها جيدًا من قبل الأكاديميين المتخصصين في علم النفس اللغوي، فإن معظم الدراسات أجريت قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ما يعني أنها لا تراعي اختلاف ذلك النمط من أنماط السخرية عن ذلك الذي يحدث في ظل التواصل الشخصي.
ماهية السخرية وأنواعها وأدوارها على مواقع التواصل الاجتماعي
ووفقًا لـجمعية اللغويات الحاسوبية (ACL)، فإن السخرية هي طريقة بلاغية للتعبير عن الكراهية أو المشاعر السلبية باستخدام تراكيب لغوية مختلفة، وبينما في المحادثة وجهاً لوجه، توفر تعابير الوجه والإيماءات ونبرة المتحدث إشارات تساعد في تحديد السخرية، فإن التعرف على السخرية في الاتصال النصي ليس مهمة سهلة، حيث لا يتوفر أي من هذه الإشارات بسهولة.
وبعبارة أخرى، إن السخرية هي نوع من المشاعر التي يتشاركها الأشخاص مع بعضهم البعض، يختلف معناها الحرفي عن المعنى الحقيقي، وإذا أدلى الأفراد بالتعليقات الساخرة علانية أمام بعضهم البعض، فيمكن فهمها وتقييمها بسهولة، لكن التعرف رقميًّا على المعنى الفعلي للسياق مهمة صعبة للغاية.
وتستند أنواع السخرية التي يدرسها الباحثون إلى سمات وهيكلية مميزة للنص، ففي اللغة الإنجليزية توجد فئات مختلفة من التعليقات الساخرة، ومنها:
“المبالغة- Exaggeration”: وهي تضخيم أو إبراز أو تصوير شيء ما لإبراز العيوب، كالقول على سبيل المثال “أنا مبتهج للغاية اليوم!! لدرجة أنني سأقتل نفسي”.
“التناقص- Reversal”: يعني تقديم أشياء منافية للعقل من أجل الالتفاف على الحقيقة القائمة.
“المحاكاة الساخرة- Parody”: ويقصد بها تقليد السلوك أو الأسلوب لشخص ما أو مكان أو شيء ما.
وتشير دراسة نشرتها جامعة “Integral University” في الهند إلى أدوار للسخرية على منصات التواصل الاجتماعي تتمثل في كونها وسيلة للتعبير عن المشاعر، وطريقة لصنع محتوى يسهل انتشاره، وأنها شكل من أشكال التظاهر الكتابي، وهو ما يتضح على النحو التالي:
أولاً: السخرية كوسيلة للتعبير عن المشاعر: فهي ترتبط بالحالة المزاجية للفرد لا سيما حينما يكون في حالة مزاجية سيئة، إذ يمكنه التعبير عن تلك الحالة في شكل تغريدة ساخرة، وبالتالي يمكن الحكم على الحالة المزاجية للمغرد من خلال مقارنة التغريد الساخرة بالمشاعر التي عبر عنها في تغريداته السابقة.
ثانيًا: السخرية كطريقة لصنع محتوى يسهل انتشاره تتطلب توافر عنصرين رئيسيين وهما الإلمام باللغة، فبطبيعة الحال، يتوقع أن يكون لدى الشخص الذي يلجأ إلى السخرية تمكن جيد من اللغة وإجادة في انتقاء العبارات، أما عن العنصر الثاني فيتمثل في الإلمام بالبيئة، وتعني توافر دراية جيدة بطبيعة المنصة التي ينشر المحتوى من خلالها.
ثالثًا: السخرية كنمط من أنماط التظاهر الكتابي: يظهر ذلك في اللحن اللغوي حينما يكرر مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي الأحرف بالكلمات للتأكيد عليها، ولإبراز مكونات معينة للتغريدة على سبيل المثال كتابة كلمة awesome أي الرهيب على هذا النحو (awesomeeee) للإشارة إلى أنها تعني تمامًا ما هو محدد.
كما يُلاحظ أن التغريدات أو المنشورات اللاذعة أحيانًا يكون لها بناء معين، بحيث يتم التعبير عن آراء المغرد في الكلمات القليلة الأولى من التغريدة، بينما في باقي تركيبة الجملة اللاحقة، يتم شرح سيناريو معين.
وفي ذات السياق، تشير دراسة نشرتها مجلة “Organizational Behavior and Human Decision Processes ” المتخصصة في علم النفس والسلوك إلى أنه قد تكون هناك بعض الفوائد غير المتوقعة للسخرية، مثل تحقيق قدر أكبر من الإبداع، مشيرة إلى أن استخدام السخرية يشجع على الإبداع لدى أولئك الذين يقومون بتبادل السخرية، فبدلاً من تجنب السخرية تمامًا توضح الدراسة أن استخدام السخرية بحذر واعتدال، يمكن أن يؤدي إلى إثارة بعض الشرر الإبداعي.
كما شارك آدم جالينسكي، عالم النفس الاجتماعي في كلية كولومبيا للأعمال، في تأليف ورقة بحثية بعنوان “أعلى شكل من أشكال الذكاء: السخرية تزيد من الإبداع لكل من المعبر والمتلقي”، إذ  صورت السخرية على أنها “سلاح ذو حدين”، وخلصت إلى أن استخدام السخرية يسهم في تعزيز إبداع الأشخاص القائمين على صناعة المحتوى الساخر، ولكنه أيضًا يقلل من حسن النية لدى الآخر الذي يتعاملون معه، ويُستثنى من ذلك التأثير السلبي الأشخاص الذين تجمعهم علاقة قوية.
كيف غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ممارسة السخرية؟
أدت منصات التواصل الاجتماعي إلى إحداث تغييرات كبيرة في ما يتعلق بنطاق وكيفية ممارسة الأشخاص للسخرية، إذ خلص أستاذ الاتصالات في جامعة ستانفورد الأمريكية، جيف هانكوك، في دراسة نشرها في مجلة علم النفس اللغوي والاجتماعي إلى أن الأشخاص قد يستخدمون السخرية بشكل متكرر عبر الإنترنت أكثر مما يفعلون في ظل التفاعل المباشر، مشيرا إلى أن السخرية ما زالت نابضة لكن طرق التعبير عنها تغيرت، إذ  قفزت من المحادثة المنطوقة إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك تواجه السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي تحديات، ففي حين يتفق معظم خبراء علم النفس اللغوي على أن النص الساخر له هدف في العادة، فإن الطبيعة غير المهيكلة والفقيرة في السياق لتلك المنصات ومن أبرزها موقع تويتر، تجعل من الصعب تحديد الأهداف التي تتوخاها التعليقات الساخرة. ولذلك من المحتمل أن يكون المحتوى النصي الساخر الذي ينشئه مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صعب الاكتشاف على الأقل مقارنة بأنماط الاتصال الساخر الأخرى مثل الفيديو أو اللغة المنطوقة، حيث تساعد الإشارات المرئية والصوتية بشكل كبير في التمييز بين الجدية والسخرية.
وفي هذا الإطار، ازدهر “قانون بو -Poe’s Law”‏ وهو نظرية فلسفية منتشرة عبر الإنترنت تقول إنه من الصعب أو حتى المستحيل أن تفرق بين التطرف الحقيقي والسخرية من التطرف، إن لم يبد المؤلف نيته.
حيث توجد صعوبة في اكتشاف السخرية من السياق على مواقع التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال إذا ما أطلق مستخدم تغريدة تتضمن توصيفًا يشيد بلاعب في فريق ما كالقول إنه “ليس طبيعيًّا” كيف يمكن لمتابعي التغريدة الحكم على ما إذا كانت على محمل الإشادة بأدائه أم سخرية ضمنية من هذا الأداء، لذلك يرى عدد من الباحثين أن هناك استحالة في تحديد الموقف دون معرفة نوايا المغرد.
ومن جانبها، ترى إليني كابوجياني، عالمة اللغويات في جامعة كنت البريطانية، أن هناك أدوات مثل الهاشتاق أو الرموز التعبيرية يمكنها إيضاح طبيعة التغريدة الساخرة، وهو ما يتعارض مع الفكرة العامة لـ”قانون بو -Poe’s Law”‏ القائلة إن السخرية دائمًا ضمنية. ما يعني أن تلك الأدوات تعادل الإيماءات أو تعابير الوجه الموحية بالسخرية في اللغة الطبيعية للجسد.
كما توجد طرق أخرى -وإن كانت أقل وضوحًا- للدلالة على السخرية عبر الإنترنت ومنها استخدام  علامات “الترقيم غير التقليدية-funky punctuation” مثل وضع الكلمة بين  علامتي تنصيص كالتالي: (” “) أو بين الأقواس المعقوفة والعلامات النجمية على هذا النحو: (~*~ الكلمة ~*~).
إلى ذلك، يمثل السؤال المتعلق بأهداف استخدام السخرية على الإنترنت أحد التساؤلات الملحة، ففي بعض السياقات، يمكن استخدام السخرية كأداة للترابط أو لإنشاء ما يسمى بـ”الانتماء الجماعي” فتشارك الأشخاص في  المحتوى الساخر يُشكل دائرة انتماء تشملهم، كما قد تكون وسيلة للتعارف وهو ما يتم على سبيل المثال من خلال عضوية في مجموعات ساخرة أو صفحات تنشر محتوى ساخرًا على موقع فيسبوك.
وتوجد محفزات تدفع الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي إلي صناعة المحتوى الساخر أو تداولها من أبرزها كون الإنترنت بيئة منخفضة المخاطر، لذا يمكن للأشخاص اختيار العمل خلف غطاء إخفاء الهوية، بل حتى عندما يستخدمون أسماءهم الحقيقية، فلا يزال هناك تصور لديهم بوجود فارق كبير بين كتابة الكلمات أو قولها، فالمغرد بالمحتوى الساخر لا يرى كيف يستجيب الآخرون، وربما لو رأى أنهم لم يفهموا الأمر، أو انزعجوا منه فسيغير المسار فورًا ويتحدث بطريقة مختلفة، ولكن في العديد من أشكال الاتصال عبر الإنترنت، لا يتم الحصول على ردود فعل فورية.
أنظمة لاكتشاف المحتوى الساخر في وسائل التواصل الاجتماعي
ارتبط المحتوى الساخر على مواقع التواصل الاجتماعي بحقل بحثي آخذ في التنامي لفهم جمهور تلك المواقع ألا وهو تحليل المشاعر، فقد أدى ظهور  تلك المنصات إلى إنشاء المستخدمين لمجموعة كبيرة من البيانات غير المهيكلة التي تلتقط المشاعر والعواطف.
وقد ركز الباحثون بشكل مكثف على تحليل المشاعر لاستنباط رؤى لديها القدرة على دعم صنع القرار في المؤسسات ما دفع إلى زيادة التركيز على تطوير تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) القادرة على التقاط وتحليل مشاعر وعواطف وسلوكيات المستخدم المضمنة في مصادر البيانات النصية ودمج هذه التقنيات في “التنقيب عن النصوص- text mining” .
ويقصد بمصطلح تحليل المشاعر، العملية الآلية لتحديد المشاعر – سواء كانت إيجابية أو سلبية أو محايدة – المرتبطة بالنص، وبينما يشير الذكاء الاصطناعي إلى تحليل البيانات المنطقية والاستجابة لها، فإن تحليل المشاعر يشبه تحديد التواصل العاطفي بشكل صحيح.
وبينما تركز غالبية الدراسات على المشاعر مثل الملاحظات الإيجابية والسلبية، فإن دور جوانب “الاتصال المُقنعة- persuasive communication” مثل السخرية يتم تجاهله إلى حد كبير في التنقيب عن النص، ولما كانت السخرية تجذب درجة عالية من الاهتمام، أصبح من الضروري فهم كيف يمكن لهذه الطبيعة الجذابة للسخرية أن تسهم في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أثناء أزمة ما على سبيل المثال.
وعلى الرغم من وجود نماذج حسابية لاكتشاف التعبيرات الساخرة وتصنيفها، فإن الدراسات المتعلقة بالاستكشاف المتعمق لتأثيرها وانتشارها محدودة، وقد عالجت دراسة نشرتها مجلة “wires data mining and knowledge discovery” هذه الفجوة باستخدام مجموعة من النمذجة الإحصائية وتقنيات معالجة اللغة الطبيعية لاستكشاف الطبيعة المؤثرة للسخرية خلال حدث مهم متداول بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي.
واختارت تلك الدراسة سلسلة من الأحداث المتعلقة بإحدى مؤسسات الاتصالات الأسترالية التي واجهت مجموعة من الاضطرابات في الخدمة، الأمر الذي تسبب في أجواء سلبية بين المستهلكين تردد صداها وتعاقب بمرور الوقت في منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعد وسيلة لنشر المعلومات بشكل أسرع ومحفز لجعل المحتوى فيروسيًّا، ومما لا شك فيه فإن استكشاف دور السخرية في وسائل التواصل الاجتماعي عنصر مهم للحفاظ على سمعة المؤسسات ومعرفة طبيعة التناول الجماهيري لها وصورتها لديهم.
وطور الباحثون خلال تلك الدراسة إطار عمل للتنقيب عن النص لجمع البيانات من موقع تويتر واستخراج المعلومات المتعلقة بتأثير السخرية، بالاعتماد على تقنيات البرمجة اللغوية العصبية, ونمذجة الموضوع واستخراج كلمات رئيسية لاستكشاف محتوى التغريدات الساخرة.
وفي ظل توالي الجهود البحثية في مجال استكشاف المحتوى الساخر، طور باحثو علوم الكمبيوتر في جامعة سنترال فلوريدا تقنية تكشف بدقة عن السخرية في نصوص وسائل التواصل الاجتماعي. ونُشرت نتائج الدراسة التي أجراها الفريق البحثي في مجلة “Entropy” العلمية، حيث قام الفريق بتدريب نموذج حاسوبي على العثور على الأنماط التي تشير غالبًا إلى السخرية ودمجها مع برنامج لانتقاء الكلمات الرئيسية التي من المرجح أن تشير إلى السخرية، وتم ذلك بعد تزويد النموذج بمجموعات كبيرة من البيانات ثم التحقق من دقته.
ورأى رئيس الفريق البحثي، إيفان جاريباي أستاذ الهندسة المساعد في جامعة سنترال فلوريدا أن وجود السخرية في النص هو العائق الرئيسي في أداء تحليل المشاعر،  فليس من السهل دائمًا التعرف على السخرية، معتبرًا أن تمكن برنامج حاسوبي من القيام بذلك بشكل جيد يعد خطوة مهمة على صعيد تحليل المشاعر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن المحتوى الساخر بات يلقى رواجًا كبيرًا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فهو قناة للتعبير عن الحالة المزاجية، إلا أن فهم المحتوى النصي الساخر مسألة ليست سهلة في ظل غياب عناصر اتصالية مثل الإشارات المرئية والصوتية وعدم وضوح السياقات. كما أن استكشاف وتحليل المحتوى الساخر يشكل أهمية كبرى لفهم انطباعات الجمهور وتوجهاته إزاء بعض القضايا أو الشخصيات أو المؤسسات، الأمر الذي يستدعي تعزيز الجهود البحثية ذات الصلة بتطوير آليات لتحليل المشاعر تلائم مختلف منصات التواصل الاجتماعي سواء التي تعتمد على النص أو الصورة أو الفيديو.

زر الذهاب إلى الأعلى