تقارير

إشكالية مفهوم الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية العربية

أحدثت ثورة تكنولوجيا الاتصال الرقمي تغييرات جوهرية في بنية وسائل الإعلام، انعكست آثارها على كل من أداء القائمين بالاتصال، والجمهور، ورسائل وسائل الإعلام، إذ أسهمت شبكة الإنترنت في ظهور وسائل إعلام جديدة تعتمد على الوسائط المتعددة في عرض المضمون، والتفاعلية في أساليب الاتصال بالجمهور، مما أدى إلى زيادة قدرة وسائل الإعلام وفاعلية تأثيرها على الجمهور.

وارتباطًا بهذا المناخ، برزت إشكالية في المصطلحات والمفاهيم ذات الصلة بذلك الوسيط الاتصالي الجديد، الأمر الذي تطلب إيجاد مقاربة جامعة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار هذه المتغيرات في ظل الواقع الجديد لوسائل الإعلام الرقمي التي أنتجت إشكالية في تعريف مفهوم الإعلام الرقمي وتحديد وسائله.

وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “دراسات: العلوم الإنسانية والاجتماعية” بالجامعة الأردنية دراسة بعنوان “الإعلام الرقمي: إشكالية المفهوم وتحديد الوسائل في الدراسات الإعلامية”، تناولت إشكالية مفهوم الإعلام الرقمي، وتحديد وسائله في الدراسات الإعلامية، وبيان الفرق في دلالة مفهوم الإعلام الرقمي، بجانب صياغة مفهوم علمي واضح ودقيق للإعلام الرقمي ووسائله يميزه عن المفاهيم  الأخرى المستخدمة مثل الإعلام الإلكتروني، والإعلام الجديد، والإعلام البديل.

مشكلة الدراسة وأهدافها

تعددت المصطلحات التي يطلقها الباحثون العرب والأجانب على الإعلام الرقمي في البحوث والدراسات الإعلامية ومنها الإعلام الإلكتروني، الإعلام الجديد، الإعلام التفاعلي، الإعلام الشبكي، الإعلام البديل، إذ لم يتحدد مفهوم واضح ودقيق لمصطلح الإعلام الرقمي، وأصبح تعدد المفاهيم والمصطلحات التي تطلق على وسائل الإعلام التي تستخدم شبكة الإنترنت كوسيط اتصالي أمرًا شائعًا تحت مسوغ أن العلوم الإنسانية تتسم بالمرونة والتطور، وتحتمل الكثير من التفسيرات مقارنة بالعلوم الطبيعية، فضلًا عن غياب توحيد المصطلحات الإعلامية في مناهج أقسام وكليات الإعلام العربية، وقد أفرزت هذه المعطيات بعض الإشكاليات التي تكمن في الاختلافين العلمي والعملي بين مفهوم الإعلام الرقمي والمفاهيم الأخرى، وكذلك الاختلاف في تحديد وسائل الإعلام الرقمي.

وعلى هذا النحو، تتلخص مشكلة الدراسة في الإجابة على السؤال التالي: ما هو مفهوم الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية؟ وما هي وسائله؟

واعتمدت الدراسة على منهج المسح الإعلامي الذي يسمح بدراسة عدة متغيرات في وقت واحد، ووظفت منهج المسح لجمع البيانات والمعلومات من عينة الدراسة وتحليلها وتفسيرها لتحديد طبيعة المشكلة وصياغة الحلول المناسبة لها.

واعتمدت الدراسة على عينة عمدية من 80 أستاذًا من أساتذة أقسام وكليات الاتصال والإعلام في الجامعات العربية، استجاب منهم 57  جاء توزيعهم على النحو التالي: لبنان (7)، الأردن (7)، العراق (7)، الجزائر(6)، السودان(5)، مصر(4)، تونس (4)، المغرب (3)، اليمن (3)، الإمارات (2)، سوريا (2)، فلسطين (2)، وأستاذ واحد من كل من ليبيا وعمان والكويت وقطر والبحرين.

وكانت نسبة الذكور هي الأعلى حيث بلغت 67%، أما فيما يتعلق بالعمر فكانت الفئة العمرية 40 فأكثر هي الأعلى بنسبة 54%، ومثل حملة شهادة الدكتوراه الأغلبية بنسبة بلغت 81%، بينما حملة شهادة الماجستير 19 .

وجاءت نسبة المبحوثين الذين تراوحت خبرتهم من 1 إلى 5 سنوات 26% وهي الأقل، ما يعني أن النسبة الأعلى من المبحوثين هم من ذوي الخبرة والاختصاص في العمل الأكاديمي المؤهلين لتشخيص إشكالية مفهوم الإعلام الرقمي وتحديد وسائله.

نتائج الدراسة والضبط المفاهيمي لمصطلح الإعلام الرقمي ووسائله

خلصت الدراسة إلى أن أكثر من ثلثي أفراد العينة، يرون أن هناك إشكالية في تحديد مفهوم الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية، مما يتطلب معالجتها عبر صياغة مفهوم دقيق يكون بديلا عن المصطلحات الأخرى الشائعة خطأً مثل الإعلام الإلكتروني، والإعلام البديل، والإعلام الجديد.

كما أكدت نتائج الدراسة أن أغلبية أفراد العينة يرون أن إطلاق مصطلح الإعلام الإلكتروني على وسائل الإعلام التي تتخذ من شبكة الإنترنت وسيطًا في النشر غير دقيق، ويدل ذلك على رؤية مشتركة بأهمية تصحيح المفاهيم غير الدقيقة في الدراسات الإعلامية، ما يعني التباس مفهوم الإعلام الرقمي وتعدد مسمياته.

كما أفادت نتائج الدراسة بأن 44% من أفراد العينة يرون أن مفهوم الإعلام الجديد هو المفهوم السائد في الدراسات الإعلامية، بينما يرى 26% أن مفهوم الإعلام الرقمي هو السائد، ويرى 19% أن مفهوم الإعلام الإلكتروني هو السائد، فيما يرى 11% أن مفهوم الإعلام البديل هو السائد، ويستنتج من ذلك أن هناك تباينًا واضحًا في استخدامات المصطلحات، والمفاهيم المتعلقة بالإعلام الرقمي مما يستلزم اعتماد مفهوم واضح ودقيق.

ولذلك قدمت الدراسة تعريفًا للإعلام الرقمي يتمثل في أنه النشاط الاتصالي التفاعلي الهادف إلى نشر الأخبار والمعلومات المتنوعة بالنص والصوت والصورة من خلال النظم الرقمية ووسائلها وأبرزها شبكة الإنترنت للتأثير على سلوك الجمهور المستقبل.

وأظهرت النتائج أن أكثر من ثلثي أفراد العينة يرون من الخطأ تحديد وسائل الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية بشبكات التواصل الاجتماعي والمدونات وهو مؤشر إيجابي على رؤية علمية سليمة لدى أفراد العينة في تحديد طبيعة التحديات في تدريس مادة الإعلام الرقمي، بينما يرى ثلثهم أنها ليست خطأ، ويُعزى ذلك إلى المفاهيم السائدة خطأً في بعض الدراسات الإعلامية.

ووفقًا للنتائج فإن النسبة الأعلى من أفراد العينة (63%) يرون أنه ليس هناك تحديد واضح وشامل لمفهوم وسائل الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية، ولذلك استخلصت الدراسة من النتائج وتحليل المفاهيم الواردة في الدراسات السابقة، صياغة تعريف شامل لكل وسيلة من وسائل الإعلام الرقمي، وذلك على النحو التالي:

الصحيفة الرقمية: هي وسيلة الإعلام الرقمي التي تستخدم شبكة الإنترنت وسيطًا اتصاليًّا في نشر الأخبار والمعلومات، ولا تختلف عن الصحيفة المطبوعة من حيث دورية الصدور، وتعدد الأشكال الصحفية مثل الأخبار والتقارير والتحقيقات والمقالات والمقابلات والكاريكاتير، ومن حيث تنوع المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية وغيرها، لكنها تتفوق على الصحيفة المطبوعة بمزايا سرعة نشر السبق الصحفي، وتحديث إصداراتها، واحتواء تصاميمها على أدوات التفاعل التي تتيح للمستقبل خيارات متعددة للتفاعل مع المحتوى المرسل، فضلًا عن استخدام “الوسائط المتعددة- mediaMulti” في نشر المحتوى.

راديو الإنترنت الرقمي: وسيلة الإعلام الرقمي التي تقدم الخدمات الإذاعية المتنوعة باستخدام شبكة الإنترنت وسيطًا اتصاليًّا للبث، وبمزايا تفاعلية تتيح للمستمع التحكم في زمن الاستماع، واختيار المحتوى المذاع من موقع الراديو الرقمي على شبكة الإنترنت.

التلفزيون الرقمي التفاعلي: تكامل بين التكنولوجيا الذكية للحاسوب، وشبكة الإنترنت، والتلفزيون التقليدي يتيح مزايا تفاعلية متعددة للمشاهد في متابعة الأخبار والبرامج، والموسيقى، والفيديو، وتصفح مواقع الإنترنت، وإجراء الاتصالات والحوارات، ومؤتمرات الفيديو، والتسوق، والتحكم في وقت العرض، والمشاهدة.

شبكات الإعلام الاجتماعي الرقمية: هي مجموعة هويات اجتماعية ينشئها أفراد أو منظمات أو مؤسسات إعلامية بهدف تعزيز العلاقات الشخصية، أو تفعيل العلاقات المهنية، ونشر الأخبار، والمعلومات إلى جمهور كبير، باستخدام شبكة الإنترنت وسيطًا اتصاليًّا للنشر.

توصيات الدراسة

قدمت تلك الدراسة التي أعدها الدكتور عبدالكريم الدبيسي الأستاذ بكلية الإعلام في جامعة الشرق الأوسط بالأردن، والدكتور  إبراهيم فؤاد الخصاونة الأستاذ بكلية الإعلام جامعة البتراء، 3 توصيات تستهدف التغلب على إشكالية مفهوم الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية العربية، تمثلت فيما يلي:

  • أهمية توحيد مفهوم الإعلام الرقمي في الدراسات الإعلامية العربية، بدلا من المفاهيم المتعددة التي لا تدل على التوصيف الدقيق للمفهوم.
  • اعتماد المفاهيم العلمية الدالة على وسائل الإعلام الرقمي مثل الصحافة الرقمية وراديو الإنترنت، والتلفزيون الرقمي التفاعلي، وشبكات الإعلام الاجتماعي، وتضمينها في منهاج أقسام وكليات الاتصال والإعلام في الجامعات العربية.
  • تنظيم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “إليسكو” مؤتمرًا علميًّا لصياغة رؤى مشتركة تساهم في إعادة النظر في مناهج أقسام وكليات الاتصال والإعلام في الجامعات العربية بما يواكب التطورات السريعة في الإعلام الرقمي ووسائله.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تلك الدراسة أظهرت الحاجة الماسة إلى وجود ضبط مفاهيمي للمصطلحات المستخدمة في الدراسات الإعلامية العربية، وهو شرط أساسي من أجل بناء عملية تراكم علمي وتكامل بين الدراسات في الحقل المعرفي الخاص بالإعلام الرقمي، فشيوع مفاهيم غير دقيقة عن الإعلام الرقمي يؤثر بالتبعية على نمط من الدراسات المعمقة في هذا المجال مثل تحليل اقتصادات الإعلام الرقمي وقياس تفاعلية الجمهور، فلا يمكن بناء أي جهد بحثي رصين دون أساس مفاهيمي واضح ومحدد.

زر الذهاب إلى الأعلى