تقارير

هل تتغير السياسة الإيرانية في عهد إبراهيم رئيسي؟

أسدلت إيران الستار على الانتخابات الرئاسية في التاسع عشر من الشهر الجاري، بإعلان فوز متوقع للمرشح المحافظ المتشدد إبراهيم رئيسي بالرئاسة خلفًا للرئيس حسن روحاني، بعد سباق انتخابي غابت عنه المنافسة إثر استبعاد مجلس صيانة الدستور أبرز المرشحين بقبوله أوراق 7 مرشحين فقط- انسحب ثلاثة منهم لاحقًا- من أصل نحو 600 مرشح.
وغلب على المشهد الانتخابي عزوف كبير من المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم؛ إذ بلغت نسبة المشاركة بحسب الأرقام الرسمية 48.2%، ما يعكس مقاطعة ملايين الناخبين في رسالة احتجاج واضحة على الانهيار الاقتصادي وقمع الحريات، وتجاهل لنداءات المرشد الإيراني علي خامنئي للإيرانيين بالتصويت بكثافة.
وبعد إعلان النتيجة تتطلع أنظار المراقبين والساسة في المنطقة والغرب إلى ما ستحمله حقبة رئاسة إبراهيم رئيسي بالنسبة إلى العديد من الملفات الإيرانية المفتوحة وفي مقدمتها المحادثات التي تجري في فيينا مع القوى الغربية والولايات المتحدة بشأن فرص إحياء الاتفاق النووي الإيراني، فضلًا عن حدود التأثير على السياسة الإيرانية في الإقليم، ودور طهران التخريبي في العراق واليمن وسوريا ولبنان.
أيديولوجية رئيسي وعلاقته مع المرشد علي خامنئي
يتطلب الوقوف على أي ملامح للتغيير في السياسة الإيرانية، فهمًا لمكانة الرئيس في النظام السياسي الإيراني وعلاقته بالمرشد الأعلى علي خامنئي، والتوجه الأيديولوجي الذي يتبناه الرئيس المنتخب. فوفقًا لنص الدستور الإيراني الصادر عام 1979، يتولى الرئيس السلطة التنفيذية ويشكل الحكومة، إلا أن الكلمة الفصل في السياسات العامة تعود إلى المرشد الأعلى، إذ تنص المادة 113 من الدستور على أن رئيس الجمهورية يعتبر أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد مقام القيادة (المرشد)، وهو المسؤول عن تنفيذ الدستور، كما أنه رئيس السلطة التنفيذية باستثناء المجالات التي ترتبط مباشرة بالقيادة. أما المرشد الأعلى فوفقًا للمادة 110 من الدستور فيتمتع بسلطة واسعة من بينها إقالة رئيس الحكومة وتعيين القائد العام للقوات المسلحة، وإعلان الحرب، وعزل رئيس الجمهورية مع أخذ مصالح البلاد بعين الاعتبار، بعد صدور حكم المحكمة العليا أو تصويت مجلس الشورى بعدم كفاءته.
ومن هنا يتضح أن ثمة قيدًا واضحًا على حركة الرئيس من جانب المرشد الأعلى، ما يجعل سلطته مغلولة فهي لا تكافئ سلطة الرئيس في أي نظام رئاسي، فنظام الملالي الثيوقراطي يحصر كافة السلطات في يد المرشد، ويجعل القول الفصل له في السياسة الخارجية والنووية.
وبالنظر إلى تلك الطبيعة الدستورية، تحتل علاقة أي رئيس لإيران بالمرشد مكانة محورية في رسم مسارات تحركه وسياساته على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويعرف إبراهيم رئيسي بقربه من علي خامنئي، حيث يعمل رئيسي الذي يفتقر إلى الكاريزما، بوحي الدروس الدينية والفقهية لخامنئي، كما أن والد زوجة رئيسي، آية الله أحمد علم الهدى، هو ممثل المرشد الأعلى وخطيب الجمعة في مدينة مشهد، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”.
ويعد التوجه الأيديولوجي أحد المحددات التي تؤثر بلا شك في مواقف الرئيس الإيراني وعلاقته مع باقي الدوائر والأقطاب المهمة في نظام الملالي ومن أبرزها ميليشيا الحرس الثوري.
ويمتلك إبراهيم رئيسي تاريخًا طويلًا من التشدد وسجلًا سيئًا في مجال حقوق الإنسان، فضلًا عن كونه مدرجًا على لائحة العقوبات الأمريكية منذ توليه رئاسة السلطة القضائية في إيران عام 2019، فقد ارتبط اسمه بإعدامات طالت سجناء ماركسيين ويساريين عام 1988 حين كان يشغل منصب معاون المدعي العام لما تسمى بـ”المحكمة الثورية في طهران”، لذلك اعتبرت منظمة العفو الدولية أن فوز إبراهيم رئيسي بالرئاسة يعد تذكيرًا قاتمًا بأن الإفلات من العقاب يسود في إيران.
ويرجح مراقبون للشأن الإيراني أن تتعزز فرص تولي رئيسي منصب المرشد الأعلى خلفًا لخامنئي الذي قضى فترتين في الرئاسة قبل أن يصبح مرشدًا أعلى عام 1989، علمًا بأن المرشد عقب انتخابه من قِبل ما يسمى بـ”مجلس خبراء القيادة” يظل في منصبه مدى الحياة.
محادثات نووية في فيينا أكثر صعوبة وذات نتائج محدودة
تشكل مباحثات فيينا الخاصة بإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 إحدى المحطات الجوهرية والرئيسية في مستهل رئاسة إبراهيم رئيسي، حيث ستكون مؤشرًا كاشفًا عن نمط العلاقة التفاوضية التي ستربط طهران بالغرب خلال السنوات الأربع القادمة في ملفات أشمل من القضية النووية، ومن أبرزها السلوك الإيراني التخريبي في المنطقة والبرنامج الصاروخي.
ويشير محللون إلى أن فوز رئيسي لن يعطل جهود إيران لإحياء الاتفاق والتحرر من العقوبات المالية والنفطية الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة، في ظل رغبة جامحة لدى طهران لمعالجة الصعوبات الاقتصادية المتفاقمة التي باتت تهدد بقاء النظام، فأسعار السلع الأساسية مثل الخبز والأرز ترتفع يوميًّا، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر الكيلوجرام من اللحم نحو 40 دولارًا، ويبلغ الحد الأدنى للأجور الشهرية حوالي 215 دولارًا.
وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يرتفع التضخم إلى 39% هذا العام بعدما كان 36.5% العام الماضي، بينما سترتفع البطالة إلى 11.2% هذا العام بعدما كانت 10.8%.
وهكذا مع البؤس الاقتصادي الواضح في الداخل، لا يستطيع قادة إيران المخاطرة ببدء المحادثات من الصفر بعد الانتخابات الرئاسية، إذ توجد مخاوف من تجدد الاحتجاجات التي اندلعت في جميع أنحاء البلاد في عام 2017، ويقر المسؤولون الإيرانيون أن السلطات عرضة للغضب من تفاقم الفقر.
وفي هذا الإطار، يرى المجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن) أن أقصى ما يمكن توقعه في ملف العلاقات الخارجية هو انفراجة بسيطة عبر العودة لاستئناف تطبيق الاتفاق النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات، ومن المرجح أن تتلاشى الآمال في التوصل إلى اتفاق “أطول وأقوى” مع إيران.
وعلى الرغم من أن البعض يرى أن توطيد سلطة التيار المحافظ المتشدد في إيران من شأنه أن يسهل طريق التفاوض باعتبار أن التيار الإصلاحي تكون حركته أكثر تقييدًا ولا يملك تفويضًا كبيرًا، إلا أن توجه رئيسي وطاقم إدارته المرتقبة سيكون عنصرًا مؤثرًا في جعل المفاوضات أكثر صعوبة، فقليلون -إن وجدوا – سيكونون حاصلين على درجات أكاديمية غربية أو تربطهم الكثير من العلاقات الودية مع الغرب، على العكس من فريق روحاني.
واللافت أن المفاوضات الإيرانية مع الغرب والولايات المتحدة لم تحرز تقدما إلا في بداية عهد روحاني الذي انتخب رئيسًا في عام 2013، إذ بدأت العملية التفاوضية تؤتي ثمارها جزئيًا، بسبب العلاقات التي جمعت بين وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف الحاصل على درجة الدكتوراه من مدرسة جوزيف كوربل للدراسات الدولية التابعة لجامعة دنفر الأمريكية، وكذلك بين وزير الطاقة الأمريكي في حينها إرني مونيز وزميله خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، علي أكبر صالحي، رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية. وعلى الأرجح ستتلاشى هذه الوجوه وستسيطر مجموعة من عناصر الحرس الثوري وأصدقائهم من رجال الدين على إدارة إبراهيم رئيسي، وسيسعون بدورهم إلى توطيد العلاقات مع روسيا والصين من أجل التعاون الاستراتيجي والتجارة والاستثمار، باعتبارهما حليفين لن يتدخلا في الشؤون الداخلية لإيران.
استمرار النشاط الإيراني التخريبي في المنطقة
في حين يبدو من المستبعد أن يؤدي فوز رئيسي بالانتخابات إلى انهيار المفاوضات في فيينا، إلا أن تأثير سيطرة التيار المحافظ المتشدد على الرئاسة ومجلس الشورى (البرلمان)، وتحالف الأخير مع ميليشيا الحرس الثوري، فضلًا عن تغلغل الحرس الثوري في مؤسسات الدولة المختلفة يشير إلى أن السياسات التخريبية في المنطقة عبر دعم الأذرع العسكرية لن تشهد تراجعًا، فالحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، وحزب الله في لبنان يظلون أوراقًا مهمة في يد طهران لممارسة لعبة المساومات مع الغرب، وزعزعة استقرار المنطقة.
ووفقًا لمجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر، فإن السياسة الإقليمية تخضع بقوة لسيطرة خامنئي والحرس الثوري، ويعني ذلك أن النشاط الإيراني التخريبي لن يتأثر بمجيء رئيس جديد لإيران.
ويرى ماثيو كرونيغ، نائب مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن أن إيران لا تزال تشكل “تهديدًا كبيرًا” للولايات المتحدة وحلفائها، بصرف النظر عن برنامجها النووي، حيث تمتلك طهران برنامجًا متطورًا للصواريخ الباليستية، وتعتبر أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم، لذا لن تتوقف عن زعزعة استقرار المنطقة من خلال نشاط الميليشيات الموالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التغير في الرئاسة بإيران لا يمثل في واقع الأمر عاملًا مؤثرًا على السياسة الخارجية التي يتحكم في خيوطها المرشد الأعلى علي خامنئي، وتعتبر ميليشيا الحرس الثوري أداة تنفيذية رئيسية لها في ظل أهدافها الرامية لزعزعة أمن واستقرار المنطقة، وتهديد دول الجوار عبر أذرع مسلحة تدين بالولاء لإيران ومنسلخة تمامًا عن الحاضنة العربية.
أما ملف المحادثات النووية، فتوجد ثمة قناعة لدى خامنئي وإجماع بين مختلف الساسة الإيرانيين بفعل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها طهران على أن التوصل إلى انفراجة في فيينا هي ضرورة لبقاء النظام الحاكم.

زر الذهاب إلى الأعلى