ترجمات

حروب المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي

تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي أحد أهم الأسلحة المستخدمة في حروب المعلومات في العصر الحديث، نظرًا لكونها تخترق الحياة اليومية لمئات الملايين من البشر حول العالم، فلم يعد هناك مجال لعمل حراس البوابة التقليديين، فلدى الجميع- سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو مؤسسات- الفرصة لنشر المعلومات والمحتوى بطريقتهم وتأطيرهم الخاص.

ورغم العديد من الآثار الإيجابية والفرص التي يوفرها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الطريقة التي تعمل بها تلك المنصات تشكل أيضًا مخاطر عديدة، فالوصول لقطاعات واسعة من الجماهير وإمكانية إخفاء الهوية، تجعل من السهل بشكل كبير التلاعب بالرأي العام ونشر محتوى مُضلل، ولذلك يمكن للإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي أن تصبح سلاحًا وساحة لحرب افتراضية، تقاتل فيها الجهات الفاعلة لتأكيد مصالحها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.

حرب وسائل التواصل الاجتماعي كتطور لمفهوم حرب الشبكة

ووفقا لموقع “ prevency” الإلكتروني المتخصص في إدارة الأزمات الرقمية، تم وصف هذه الظاهرة لأول مرة منذ أكثر من 20 عامًا، حين توقع العلماء تطور “حرب الشبكة-netwar” في القرن الحادي والعشرين، وهي على عكس الحرب الإلكترونية لا تهدف إلى مهاجمة أنظمة تكنولوجيا المعلومات أو الاتصالات، بل إن الهدف منها هو التلاعب في تصور مجموعة معينة بطريقة متعمدة وبالتالي إلحاق الضرر بالهدف من الهجوم.

ولذلك فإن مفهوم الحرب الشبكية متأصل في عملية إدارة النزاعات في عصر المعلومات، حيث لم تعد هناك حاجة لإراقة الدماء للقضاء على المنافس وكسب الحرب، لأن المعلومات نفسها تصبح أقوى سلاح قادر على ذلك، وهنا يتم استخدامها من قبل الدول والشركات والمجموعات الصغيرة والأفراد على حد سواء.

وباتت وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا جزءًا من “الحرب الهجينة – hybrid warfare”، فلم تعد هذه الفكرة خيالية بل أصبحت حقيقة واقعة، إذ استوعبت العديد من الجهات الفاعلة المفهوم الأساسي لحرب الشبكة وأضحت تعتمد بشكل متزايد على استخدام تكتيكات التلاعب بدلًا من الهجمات المادية لدفع أجندتها.

ويقصد بحرب وسائل التواصل الاجتماعي، استخدام المنصات كنوع من الأسلحة بهدف إحداث ضرر دائم لبعض الجهات الفاعلة مثل الحكومات أو الشركات، حيث يتم استخدام استراتيجيات وتكتيكات مختلفة وكذلك الوسائل التكنولوجية من أجل الدفع من خلال أجندة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية.

وتهدف حرب وسائل التواصل الاجتماعي عادةً إلى التلاعب بالتصورات وآراء وعواطف وسلوك مجموعة مستهدفة معينة، ومن ثمّ الإضرار بالهدف الفعلي للهجوم، وتتضمن أمثلة الوسائل المستخدمة في حرب وسائل التواصل الاجتماعي نشر معلومات مضللة في شبكات التواصل الاجتماعي، واستخدام الروبوتات الاجتماعية والتأثير على مجموعات محددة عن طريق الاستهداف الدقيق.

فحرب وسائل التواصل الاجتماعي تدور حول “معركة جذب الانتباه- a battle for attention”، والتي يتم كسبها من خلال توليد “محتوى فيروسي- viral content” واستغلال آليات اقتصاد الانتباه السائد على الإنترنت. وبالتالي يقوم المهاجمون بإنشاء روايات ومحتوى يهدف إلى مخاطبة المستخدمين عبر الإنترنت واستقطابهم عاطفيًا وتحقيق أكبر تأثير ممكن.

أطراف حروب وسائل التواصل الاجتماعي

في حين اقتصرت المعركة في شبكات التواصل الاجتماعي في البداية على الساحة السياسية، إلا أنها باتت تستخدم من قبل جهات فاعلة مختلفة كسلاح استراتيجي، وبالتالي يمكن العثور على كل من المهاجمين والأهداف في العديد من جوانب المجتمع، حيث يمكن تقسيمهم إلى أربع فئات، على النحو التالي:

“الفاعلون السياسيون- Political actors“: الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لدفع أجندة سياسية معينة، فعلى سبيل المثال، قد تهدف حرب وسائل التواصل الاجتماعي إلى التأثير على نتائج انتخابات أو زعزعة استقرار الأنظمة السياسية أو تفكيك ثقة المجتمع في الحكومة.

وتشمل الجهات الفاعلة السياسية تحالفات تضم عددًا من الدول أو الدول بشكل فردي أو جماعات.

“الفاعلون الاقتصاديون- Economic actors“: عادة ما يكون الدافع وراء حرب وسائل التواصل الاجتماعي في القطاع الاقتصادي ذا طبيعة مالية، حيث تريد المجموعات أو القطاعات الصناعية تأكيد مصالحها من أجل الحصول على ميزة أو إلحاق الضرر بالآخرين. كما تستخدم بعض الجهات أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة منافسيها، واكتساب ميزة تنافسية، بما يكفل في النهاية تأكيد وجودهم في السوق.

“الفاعلون ذوو الاهتمامات الخاصة- Actors with special interests“: إلى جانب المصالح السياسية والاقتصادية، هناك دوافع أخرى للمشاركة في حرب وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحاول مجموعات الضغط، على سبيل المثال، التأثير على الرأي العام، بينما تسعى الجماعات الدينية أو السياسية إلى تجنيد المزيد من الأتباع.

“الفاعلون ذوو الاهتمامات المختلطة- Actors with mixed interests“: بعض الفاعلين يسعون لتحقيق عدة أهداف في نفس الوقت، ومن أشهر الأمثلة على ذلك وكالة أبحاث الإنترنت الروسية التي شاركت في عمليات معلوماتية مختلفة في الماضي لفرض مصالح كل من الحكومة الروسية وأيضًا الشركات الروسية.

الاستراتيجيات والوسائل المستخدمة في حروب وسائل التواصل الاجتماعي

يعتبر التلاعب بالمجتمعات استراتيجية مركزية في حرب وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، تستهدف الدعاية الرقمية التأثير على رأي وقيم وعواطف وتفكير مجموعة مستهدفة معينة بطريقة يتم فيها إنشاء تأثيرات تضر بالهدف الفعلي للهجوم، وفي هذا الإطار يتم اتباع أساليب مختلفة من أبرزها:

“الخداع- Deception“: من خلال نشر معلومات مُضللة أو إشاعات كاذبة، حيث يحاول المهاجمون خداع المجموعة المستهدفة بطريقة منهجية، ومن الشائع أيضًا إنتاج اهتمام مصطنع بموضوع ما من أجل تحويل الانتباه بعيدًا عن موضوع آخر.

“التشويش-Confusion“: يحاول المهاجمون خلق الارتباك والشعور بعدم الأمان لدى المجموعة المستهدفة من خلال تقديم معلومات متناقضة، ما يجعلها أكثر عُرضةً لتقبل الدعاية المصممة لإلحاق الضرر بالهدف.

“التقسيم-Division“: تقسيم المجتمعات من خلال نشر الآراء المتطرفة وكذلك الكراهية والتحريض على الإنترنت، لإثارة مشاعر سلبية قوية وقابلية أعلى لتصديق روايات معينة.

تشويه السمعة والتشهير: يهاجم المعتدون سمعة الهدف وينشرون محتوى مسيئًا للسمعة وتشهيريًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

نماذج لاستخدام المنصات في المعارك.. حالتا “داعش” في العراق والعدوان على غزة

ويشير بي سينغر وإيمرسون بروكينغ، الخبيران في الأمن القومي في دراسة حول دور وسائل التواصل الاجتماعي في الصراع، أن الإنترنت لم يكن مجرد  وسيلة لربط الأشخاص ببعضهم البعض بل كان أيضًا وسيلة تعيد تشكيل الحرب نفسها.

ويوضح سينغر أننا نعيش في عالم أصبح الاهتمام فيه هو القوة، ليس فقط القوة عبر الإنترنت ، ولكن القوة في العالم الحقيقي، فالمهم ليس فقط القوة للتأثير على نتيجة معركة على الأرض، أو القدرة على التأثير في انتخابات، ولكن حرفيًا القدرة على تحديد الحقيقة، أو على الأقل ما يعتقد الناس أنه حقيقي.

ووفقًا لمجلة “ذا أتلانتيك” الأمريكية، لطالما كانت هناك دعاية، لكن أحد الجوانب المهمة في التغيير الحاصل هو أننا جميعًا أصبحنا نمتلك السلطة، إذ يمكننا بشكل فردي جمع المعلومات ومشاركتها والقتال في ساحة معركة المعلومات.

ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإن الدعاية أو ما يسمى بـ “العمليات النفسية” لتشكيل الآراء والتأثير على النتائج ليست ظاهرة جديدة في الحرب. ومع ذلك، فإن سهولة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واستراتيجيات التلاعب الرقمي في ساحة المعركة تجعل صانعي السياسات والقادة العسكريين يكافحون من أجل مواكبة ذلك التطور والتكيف معه.

حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مضخمًا للأفكار، وصانعًا للمعنى ومولِّدًا للصراعات أيضًا، كما أن الحرب في مجال المعلومات تعتبر جزءًا لا يتجزأ من العمليات العسكرية الحديثة، حيث تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورًا متزايدًا في التنظيم والتعبئة والنشر والاستخبارات.

على سبيل المثال استخدم تنظيم “داعش” الإرهابي موقع التدوينات القصيرة “تويتر” لجذب مجندين جدد ونشر أفكاره المتطرفة. وفي هذا الصدد يقول إيمرسون بروكينغ إن تنظيم داعش عندما بدأ شن هجومه على شمال العراق كان لديه 1500 مسلح تم تجهيزهم بشاحنات صغيرة وبنادق كلاشنيكوف، لكنه على عكس أساليب الغزو التي تقتضي السرية قام ببث هجماته ودشنّ هاشتاقًا بعنوان (#كل العيون على داعش)، وقد أدت عدوى الخوف التي اجتاحت الموصل إلى انسحاب ما يقرب من 30 ألف جندي تاركين معداتهم، وفقًا للإذاعة الوطنية العامة الأمريكية “إن.بي.آر”.

من جهة أخرى، شكّل العدوان الإسرائيلي على غزة وانتهاكات الاحتلال بحق الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية ومخططات تهجيرهم قسريًّا، خلال الأيام القليلة الماضية، نموذجًا بارزًا على انتقال الحروب والمواجهة المباشرة من الواقع إلى العالم الافتراضي، والتي لم تقتصر على الهاشتاقات والهاشتاقات المضادة فقط، بل باتت تتخذ أبعادًا وأشكالًا متنوعة، كالرسوم الكاريكاتورية وتمثيل مقاطع ساخرة على تطبيق “تيك توك”.

وقد مارست بعض منصات التواصل الاجتماعي “تمييزًا رقميًّا” تمثل في فرض عمليات تقييد أو حجب حسابات للعديد من الأشخاص بعد مشاركة منشورات تدعم الفلسطينيين، حيث اعتمدت تلك المواقع وفي مقدمتها فيسبوك على خوارزمياتها لاكتشاف أي محتوي ذي صلة بتلك المسألة، واتخذت تلك الإجراءات بدعوى مخالفة هذه المنشورات لسياسة المنصات المتعلقة بمكافحة الكراهية ونشر العنف، إلا أن المستخدمين لجأوا إلى تكتيكات للتغلب على هذه القيود منها الكتابة دون وضع نقاط على الحروف، أو كتابة الكلمات مجزأة إلى حروف، مما يتعذر على الخوارزميات التقاطها.

واللافت أن الإجراءات التي اتخذها فيسبوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي وضعت مصداقيتها على المحك، لا سيما في ظل حديث المنصات المتكرر عن كفالة حرية التعبير للمستخدمين.

وفي خطوة احتجاجية قام المستخدمون العرب بحملة لتقليل تقييم تطبيق “فيسبوك” على المتاجر الإلكترونية، وقد أعقب تلك التحركات إعلان السفارة الفلسطينية في بريطانيا عن تلقيها رسالة رسمية من إدارة شركة “فيسبوك” و”واتس آب” و”إنستجرام” أعربت فيها الشركة عن اعتذارها لما جاء في الشكوى التي تقدمت بها فلسطين عن تقاعس الشركة عن مسؤولياتها القانونية والأخلاقية في احترام القانون الإنساني الدولي وحق الشعب الفلسطيني في التعبير عن الاضطهاد الذي يتعرض له.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة حرب مفتوحة أمام الجميع، فمجرد القليل من المعرفة بالتقنية والوصول إلى الإنترنت يكفيان لشن حملات تستهدف نشر محتوى مُتلاعب به لتعزيز رواية ما يتم بها استهداف مجتمع أو مجموعة معينة.

وفي الوقت نفسه، لم يعد هناك عدد قليل من المنصات، ولكن تعددها أدى لاتساع الجبهات التي يمكن شن الهجمات عليها، هذا فضلًا عن مشكلة ما يسمى بـ”التطبيقات الاجتماعية المظلمة- dark social applications“، التي لا يمكن تتبع حركة المرور الخاصة بها، وتشمل تطبيقات المراسلة المشفرة مثل “واتس آب” وتليجرام.

وأخيرًا، يتطلب ذلك الوضع وعيًا أكبر بكثير بأهمية السرد على مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل تصورات الجمهور، وكذلك يقظة من قبل جميع الأطراف المعنية لمواجهة تلك الروايات المُضللة، ودمج خطر “حرب وسائل التواصل الاجتماعي” ضمن جهود إعداد استراتيجيات دفاعية مضادة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات والدول.

زر الذهاب إلى الأعلى