تقارير

قراءة استشرافية لقمة بايدن وبوتين في جنيف

تستضيف العاصمة السويسرية جنيف في السادس عشر من الشهر الجاري، قمة تجمع بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، ستكون الأولى التي تجمع بين الزعيمين منذ تنصيب بايدن رئيسًا للولايات المتحدة في 21 يناير الماضي، وتتزاحم الملفات على طاولة جدول أعمال القمة وفي مقدمتها العلاقات الروسية الأمريكية المشحونة، وقضايا الاستقرار الاستراتيجي والحد من التسلح، والصراعات الإقليمية لا سيما في منطقتي الشرق الأوسط وشرق أوروبا، بالإضافة إلى التعاون في مكافحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19”.

وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، أجرى كبار الدبلوماسيين وقادة الأمن في البلدين اجتماعات للإعداد لقمة جنيف التي سترسم على نحو كبير معالم العلاقة بين واشنطن وموسكو خلال سنوات ولاية بايدن أي حتى 2024، ويأمل البعض في أن تمهد تلك القمة الطريق أمام صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين.

خصوصية اللقاء وطبيعة العلاقة الشخصية بين الزعيمين

تلعب سمات الشخصيات دورًا مهمًّا في التوافق أو التنافر بين القادة والمسؤولين في مختلف دول العالم، ويظهر الشق السلبي بوضوح فيما يتعلق بالعلاقة بين بايدن وبوتين، فخبرات لقاءاتهما السابقة لا تبشر بوجود انسجام بين الرجلين، فقد التقيا لأول مرة في عام 2011، وحينها كانا في مواقع متغيرة من السلطة؛ إذ كان بايدن نائبًا للرئيس الأمريكي باراك أوباما، بينما بوتين كان رئيسًا لوزراء روسيا، ويروي بايدن أنه خلال ذلك اللقاء الأول نظر إلى عين بوتين قائلا: “لا أعتقد أن لديك روحًا”، فرد عليه بابتسامة قائلا: “نحن نفهم بعضنا البعض”. ثم اشتبكا مرة أخرى في عام 2014، عندما تم تكليف نائب الرئيس الأمريكي بالضغط على روسيا للتراجع عن تدخلها العسكري في شرق أوكرانيا، وفقا لمجلة “فورين آفيرز” الأمريكية.

ويرجح مراقبون أن لروسيا دورًا في المعلومات التي تم تداولها عن عمل هانتر نجل بايدن في أوكرانيا والاتهامات بشأن استغلاله لنفوذ والده حينما كان بايدن نائبا لأوباما، وكان هذا الملف أحد محاور تركيز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، لذلك سيكون الاجتماع المرتقب بين بايدن وبوتين محرجًا على المستوى الشخصي.

بالإضافة إلى ذلك، اتخذ بايدن منذ توليه السلطة في يناير الماضي، موقفًا صارمًا ضد روسيا بل إنه ذهب إلى حد وصف بوتين بأنه “قاتل”، وذلك في تناقض حاد مع سلفه الرئيس ترامب، الذي اتهم بالتهاون تجاه الرئيس الروسي.

وسيحضر بايدن قبل لقائه مع بوتين، قمة مجموعة السبع في إنجلترا ويلتقي بقادة حلف شمال الأطلسي “الناتو” في بروكسل، وهذا من شأنه أن يمكّنه من التحدث باسم الغرب عندما يجلس على مائدة المباحثات في جنيف مع الرئيس الروسي.

ووفقًا للمجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن)، فإن التطورات الجيوسياسية الأخيرة بشأن التحضير للقمة الأمريكية الروسية ليست واعدة، فقد تعرض بايدن لانتقادات بسبب عدد من التنازلات تجاه بوتين والتي يبدو أنها تتناقض مع الحديث القاسي للرئيس الأمريكي عن إعادة تأسيس دور القيادة العالمية لأمريكا بعد مرحلة رئاسة ترامب، وأبرز مؤشرات ذلك التراجع عن فرض عقوبات على الشركة الرئيسية المشاركة في مشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” بين روسيا وألمانيا، حيث فاجأت هذه الخطوة الكثيرين وبدت وكأنها تقوض المعارضة الأمريكية طويلة المدى لمشروع البنية التحتية للطاقة الذي يُعرف على نطاق واسع بأنه من بين أولويات الكرملين الاستراتيجية.

وقد مثل إعلان البيت الأبيض أنه لن يعاقب الشركة الرئيسية المشاركة في المشروع إزالة لعقبة رئيسية أمام مواصلة المضي قدمًا، وإن رأى محللون أن هذه الخطوة تشير إلى رغبة واشنطن تجنب استعداء برلين.

5 قضايا رئيسية على مائدة قمة جنيف

وتوجد ثمة مجموعة من الملفات الرئيسية التي تفرض نفسها على طاولة القمة الأمريكية الروسية، يمكن إجمالها في خمس قضايا رئيسية على النحو التالي:

الهجمات السيبرانية:

اتهمت الولايات المتحدة روسيا منذ سنوات بالتدخل في الانتخابات الأمريكية وشن هجمات سيبرانية ضد الوكالات الحكومية الأمريكية والشركات الخاصة، وقد فرضت إدارة بايدن في أبريل الماضي عقوبات على روسيا بعدما اتهمتها بالوقوف وراء هجوم “سولارويند” الإلكتروني الذي أصاب مؤسسات فيدرالية وأكثر من 100 شركة أمريكية، وكذلك اتهمت موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وربطت أيضًا بين روسيا وهجوم إلكتروني ضد شركة “جي بي إس”،  أكبر مصنع لحوم في العالم.

الديمقراطية وحقوق الإنسان:

يعتبر ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان من الملفات الأساسية التي تؤكد إدارة بايدن أنها تضعها على قائمة أولوياتها في علاقاتها الخارجية، وقد أعلن بايدن أنه يعتزم التأكيد على التزام واشنطن “بالدفاع عن حقوق الإنسان والكرامة”، وذلك في وقت تقول المعارضة الروسية إن السلطات كثفت حملاتها ضدها منذ يناير عندما عاد المعارض الروسي البارز إليكسي نافالني من ألمانيا بعد خضوعه للعلاج وسط مزاعم عن تعرضه للتسميم، وسرعان ما أودع السجن في فبراير تنفيذًا لعقوبة من عامين ونصف بتهم احتيال قديمة.

وتنظر محكمة في موسكو في مسألة إدراج منظمة نافالني على قائمة المنظمات المتطرفة، وهو قرار من شأنه – في حال صدوره – حظر أنشطتها واحتمال إيداع موظفيها السجن.

وفي هذا الإطار، اتهم بوتين واشنطن “بازدواجية المعايير” والسعي للتدخل في الشؤون الداخلية الروسية، كما دافع عن المتظاهرين الذين اقتحموا مبنى الكابيتول (الكونجرس الأمريكي)، قائلاً إن لديهم مطالب سياسية مشروعة.

التحلل من الاتفاقات الثنائية ذات الطبيعة الاستراتيجية

تبادلت موسكو وواشنطن الاتهامات في السنوات الأخيرة بخرق الاتفاقات الأمنية، وعلى خلفية ذلك تم إنهاء معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى في عام 2019، حيث  أعلنت الولايات المتحدة انسحابها رسميًّا من المعاهدة وكررت اتهامها لروسيا بخرق المعاهدة التي تعود إلى فترة الحرب الباردة، بعد إعلان موسكو انتهاء المعاهدة “بمبادرة من الولايات المتحدة”.

كما وقع بوتين الشهر الجاري، قانونا يقضي بالانسحاب من اتفاقية “الأجواء المفتوحة” لعام 1992 التي كانت تسمح للمشاركين فيها بالقيام بطلعات جوية فوق أراضي بعضهم ومراقبة النشاط العسكري، وجاءت تلك الخطوة بعد خروج الولايات المتحدة من المعاهدة العام الماضي. لكن بوتين وبايدن مددا في فبراير معاهدة “نيو ستارت” النووية، وهي آخر اتفاقية متبقية لخفض الأسلحة بين روسيا والولايات المتحدة.

وقد حذر بوتين من سباق تسلح جديد وصنع الكثير من أسلحة الجيل القادم الروسية التي يقول إنها ستجعل أنظمة الدفاع الصاروخي الغربية عفا عليها الزمن.

تضارب سياسة البلدين تجاه الصراعات الإقليمية

استمرت التوترات بين البلدين بسبب النزاعات في سوريا وليبيا وأوكرانيا، ففي كل صراع من تلك الصراعات تقف موسكو وواشنطن في مواجهة بعضهما البعض، وعلى سبيل المثال حشدت روسيا في أبريل الماضي أكثر من 100 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية وفي شبه جزيرة القرم، مما أدى إلى إطلاق حلف شمال الأطلسي “الناتو” تحذيرات من خطورة الخطوة الروسية.

ارتفاع حدة التوترات الدبلوماسية بين واشنطن وموسكو

تصاعدت التوترات الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن منذ أن تولى بايدن منصبه، فبعد أن وصف الرئيس الأمريكي نظيره الروسي في مارس الماضي بـ “القاتل”، استدعت روسيا في خطوة نادرة سفيرها للتشاور وأوصت نظيره الأمريكي في موسكو بالعودة إلى واشنطن. وعندما أعلنت الولايات المتحدة عقوبات ضد روسيا في أبريل، طردت أيضًا 10 دبلوماسيين روس، وردت موسكو بالمثل ومنعت السفارة الأمريكية في روسيا من توظيف رعايا أجانب، ما اضطر البعثة الأمريكية إلى تعليق معظم الخدمات القنصلية. كما صنفت روسيا رسميًّا الشهر الماضي الولايات المتحدة على أنها دولة “غير صديقة”.

ملف تبادل السجناء

من المتوقع أن يكون مصير عدد من السجناء على جدول أعمال القمة أيضًا، وكان بايدن قد حث على ترتيب تبادل سجناء، متحدثًا عن جندي مشاة البحرية الأمريكية السابق بول ويلان الذي حكم عليه بالسجن 16 عاما من قبل روسيا بتهمة التجسس، معتبرًا أنه ضحية “دبلوماسية الرهائن”، ومن بين السجناء الأمريكيين أيضا مواطن أمريكي يدعى تريفور ريد، محكوم عليه بالسجن تسع سنوات بتهمة الاعتداء على ضباط شرطة في روسيا وهو في حالة سكر.

في المقابل، قد تتطلع موسكو إلى عودة تاجر الأسلحة الروسي فيكتور بوت المسجون في الولايات المتحدة، كما طالبت عائلة كونستانتين ياروشنكو الطيار الروسي المسجون في أمريكا بتهمة تهريب مخدرات، الرئيس بوتين بالتفاوض على إطلاق سراحه.

سيناريوهات لمستقبل العلاقات الأمريكية الروسية بعد القمة

وباستعراض الملفات التي ستكون مطروحة على طاولة اللقاء، يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات الأمريكية- الروسية وذلك على النحو التالي:

السيناريو الأول: استمرار التوتر في العلاقات بين البلدين على منسوبه الراهن، – وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا- بالنظر إلى التصريحات الصادرة عن الجانبين الأمريكي والروسي، إذ أكد البيت الأبيض أنه لا يتوقع نتائج ملموسة للقمة، فيما صرح وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف أن موسكو ليس لديها “توقعات مفرطة” بحدوث انفراجة مفاجئة، مشيرا إلى رغبة موسكو في إجراء حوار واسع النطاق حول الاستقرار الاستراتيجي مع واشنطن، محذرا من تمسك السياسة الأمريكية بعقلية الهيمنة، التي لن تقود إلى نتيجة.

أما عن السيناريو الثاني: فيتمثل في انفراجة جزئية تقوم على التوصل إلى تفاهمات من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين وخفض منسوب التوتر الدبلوماسي، واتخاذ خطوات عملية متزامنة لتعزيز التعاون بين البلدين بخصوص بعض القضايا ذات الطابع الاستراتيجي في مقدمتها ملفات الحد من التسلح ومكافحة فيروس كورونا المستجد لتكون مرحلة أولى يعقبها التطرق إلى ملفات أكثر سخونة، كالوضع في شرق أوكرانيا ودفع جهود التسوية السياسية للأزمة السورية.

بينما يتمثل السيناريو الثالث: في تصاعد التوترات بين موسكو وواشنطن- وهو سيناريو مستبعد- وسيتخذ أكثر من بعد، حيث يتمثل البعد العسكري في اندلاع سباق تسلح بين البلدين، والبعد السياسي في حرب باردة تفرط فيها موسكو وواشنطن في استخدام حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن في مواجهة بعضهما البعض مما يؤدي إلى شل عمل المجلس وبالتبعية القدرة على التعامل مع الملفات المطروحة على طاولته، كما قد تلجأ روسيا إلى التحالف مع الصين لتشكيل جبهة مضادة لواشنطن ومقاومة سلاح العقوبات الذي تستخدمه الولايات المتحدة بشكل مكثف.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن القمة بين بايدن وبوتين ستحمل نتائج مهمة لن تقتصر على طبيعة العلاقات الثنائية، نظرًا للمكانة المحورية والمهمة للبلدين في النظام الدولي، ووقوع العديد من النزاعات في المناطق الاستراتيجية بالعالم – لا سيما منطقة الشرق الأوسط وما تشهده من أزمات في مقدمتها الأزمة السورية والليبية- في دائرة التجاذبات والمساومات بين واشنطن وموسكو.

زر الذهاب إلى الأعلى