قراءات

قفزة إخوانية على “الهبّة المقدسية” في حي الشيخ جراح

منذ مطلع شهر رمضان المبارك، تصدى الفلسطينيون المرابطون في المسجد الأقصى المبارك بكل السبل المتاحة لهم لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي الذي قام بتعليق مكبرات الصوت في المسجد، واشتبك معهم في أكثر من موضع بالحرم القدسي، فضلاً عن صدامات شديدة بين الفلسطينيين من جهة والمستوطنين وقوات الشرطة الإسرائيلية من جهة أخرى، على خلفية قرارات قضائية إسرائيلية تهدف لطرد الفلسطينيين من منازلهم بحي الشيخ جراح لصالح جمعيات استيطانية إسرائيلية.
ووسط غمار ذلك النضال في الأراضي المحتلة، أرادت جماعة الإخوان المسلمين كعادتها القفز على الحدث وتوظيفه من أجل تحقيق مكاسب سياسية ضيقة للجماعة ضاربة عرض الحائط بمصلحة القضية الفلسطينية، وهو ما جرى عبر إطلاق حركة حماس الفلسطينية الإخوانية مئات الصواريخ صوب إسرائيل، بينما ردت الأخيرة بهجوم عنيف على قطاع غزة عبر غارات جوية وقصف مدفعي مكثف، ودخل الجانبان في دوامة من التصعيد وتوارت القضية الأساسية المتعلقة بالشيخ جراح.
صمود فلسطينيّ الداخل وانتصار جزئي على مخطط المستوطنين في حي الشيخ جراح
في السادس من مايو الجاري، تصاعدت التوترات عندما اقتحمت الشرطة الإسرائيلية مجمع المسجد الأقصى، مستخدمة القنابل الصوتية والرصاص المطاطي ضد الفلسطينيين المحتجين على التهجير القسري لأربع عائلات عربية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، حيث اندلعت الاحتجاجات الفلسطينية في مدن مختلفة داخل إسرائيل، عاكسة تغييرًا في الأدوات التي يستخدمها فلسطينيو الداخل للدفاع عن حقوقهم.
وقوبل ذلك الحراك الفلسطيني بزخم ودعم عربي وموقف دولي يؤكد على ضرورة احترام حقوق الفلسطينيين واضطلاع إسرائيل بالتزاماتها كدولة احتلال وفقًا لما تنص عليه أحكام القانون الدولي.
فقد اعتبرت مفوضیة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أن الخطوات التي تقوم بها إسرائيل ضد أهالي حي الشیخ جراح بالقدس المحتلة قد ترقى إلى جرائم حرب، مؤكدة أن القدس الشرقية لا تزال جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة ویسري عليها القانون الدولي الإنساني، ما يفرض على سلطة الاحتلال القائمة احترام الممتلكات الخاصة في الأراضي المحتلة، لا سیما وأنها محمیة من المصادرة.
كما اعتبر الاتحاد الأوروبي أن طرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح ومناطق أخرى في القدس الشرقية “مقلق للغاية”، محذرًا من أن “هذه الأعمال غير قانونية بموجب القانون الإنساني الدولي ولا تؤدي إلا إلى تأجيج التوتر على الأرض”.
وأتت تلك الهبّة المقدسية ثمارها، فقد دفع صمود فلسطينيّ الداخل في الدفاع عن حي الشيخ جراح إلى انتصار جزئي تمثل في إعلان المحكمة العليا الإسرائيلية الموافقة على طلب أفيخاي ماندلبليت المدعي العام الإسرائيلي تأجيل جلستها المقررة للنظر في عمليات تهجير العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح حتى يدرس إمكانية المشاركة في الدعوى التي أقامها المستوطنون من عدمها.
أهداف حماس من إطلاق الصواريخ وعلاقتها بإيران
من جانبها، انتهجت حركة حماس سياسة انتهازية إخوانية إزاء التطورات المتلاحقة في القدس المحتلة لا سيما قمع القوات الإسرائيلية للمتظاهرين الفلسطينيين في باحات المسجد الأقصى، والذي أدى لسقوط أكثر من 900 جريح فلسطيني، حيث سارعت الحركة للإعلان عن مهلة لإسرائيل لسحب قواتها من باحات الأقصى، في بيان استهدفت منه تأجيج المشاعر، واحتكار الدفاع عن المقدسات بوصفه مسؤوليتها، وتصوير نفسها بأنها الذراع الطولى المدافعة عن جميع الفلسطينيين وليس فقط غزة الخاضعة لسلطتها بحكم الأمر الواقع، في افتئات مُتعمد على دور السلطة الوطنية الفلسطينية.
وما إن انتهت هذه المهلة حتى أطلقت الحركة مئات الصواريخ على إسرائيل وصولاً إلى القدس، وسرعان ما ردت إسرائيل ليتحول الأمر لتصعيد عسكري أسفر عن استشهاد 236 فلسطينيًّا من بينهم 61 طفلاً و36 امرأة، فضلًا عن إصابة 6278 آخرين، بجانب إلحاق دمار كبير في منازل وممتلكات المواطنين في القطاع المحاصر الخاضع لحكم حماس.
وقد استهدفت الحركة من وراء ذلك إعادة التموضع، وتحسين صورتها بصبغة المقاومة ضد الاحتلال، وذلك بعدما انكشف دورها التخريبي وإضرارها بمصالح وأمن الدول العربية، لا سيما مصر بعد ثورة 30 يونيو عام 2013 التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، الجماعة الأم لحركة حماس، حيث انخرطت عناصر حمساوية في أعمال إرهابية في سيناء.
وأرادت حماس أيضًا تقوية مركزها السياسي المتداعي في القطاع، إذ أضر الحصار المفروض على القطاع منذ 15 عاما بحياة المواطنين والخدمات الأساسية المقدمة لهم من كهرباء وغذاء ورعاية طبية، وباتت غزة بمثابة سجن مفتوح مزدحم، لذا على الأرجح ارتأت الحركة أنها بحاجة ماسة إلى فرصة لإثبات نفسها، لا سيما بعد إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس نهاية الشهر الماضي تأجيل الانتخابات الفلسطينية التي كانت مقررة الشهر الجاري في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، بسبب رفض إسرائيل تنظيمها في القدس الشرقية أيضًا.
كما جاء توجه حماس نحو إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل، مرتبطًا بعلاقة الحركة مع إيران التي شهدت توطيدًا خلال السنوات الأخيرة والتي تجلت في مشاركة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على رأس وفد من الحركة بجنازة قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني في طهران، بجانب وجود ممثل للحركة في إيران، هو القيادي الحمساوي خالد القدومي، الذي أعلن في تصريحات لموقع “المونيتور” الأمريكي أن طهران ساعدت في نقل المعرفة والخبرات والصواريخ لحماس، واصفا إيران بـ”الشريك والصديق والداعم”، على حد قوله.
ويعني ذلك ضمنيًّا أن حماس انضمت إلى الميليشيات التي تحركها طهران في المنطقة لخدمة أهدافها ومصالحها ومن أبرزها حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي في اليمن، واستخدمت طهران حماس في إطار مخططاتها لتوسيع نفوذها الإقليمي عبر إثارة الاضطرابات وتهديد الاستقرار في المنطقة.
يشار إلى أن إيران تبنت استراتيجية بعد حرب 2006 في لبنان فيما يتعلق بالدعم العسكري لأذرعها المسلحة في الإقليم، تهدف بشكل أساسي إلى جعلها قادرة على إنتاج أكبر عدد ممكن من الصواريخ محليًّا.
وقد برز التعاون بين حماس وإيران بشكل رسمي معلن عبر اتصال هاتفي أجراه قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قاآني مع إسماعيل هنية في 22 مايو الجاري، وعد فيه قاآني بتقديم الدعم غير المحدود لحماس.
تحول بؤرة الاهتمام والتركيز الدولي من القدس المحتلة إلى غزة
وأدى تدخل حماس إلى تحويل مسار أنظار العالم من الانتهاكات الإسرائيلية في القدس المحتلة وأحيائها، إلى غزة حيث التصعيد العسكري الإسرائيلي على القطاع في ظل إطلاق حماس مئات الصواريخ من القطاع تجاه إسرائيل، وبدأ المجتمع الدولي والدول الغربية الكبرى في تركيز خطابهم وجهودهم على وقف التصعيد، مع تأكيدهم على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في مواجهة تلك الهجمات الصاروخية.
فعلى سبيل المثال، اعتبر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، عندما يتم إطلاق آلاف الصواريخ نحوها، كما أدانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل استمرار إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على إسرائيل، معربة عن تضامن برلين مع تل أبيب، ومشددة على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هذه الهجمات.
وأعلن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بعد اجتماع طارئ لوزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد، عزم التكتل الأوروبي إرسال مبعوث جديد إلى الشرق الأوسط، وأدان إطلاق حماس للصواريخ، مشددا على دعم إسرائيل في الدفاع عن نفسها شريطة القيام بذلك في شكل متكافئ ومع احترام القانون الدولي الإنساني.
وتعكس تلك التصريحات كيف انحرفت بوصلة الاهتمام وبؤرة التركيز السياسي والإعلامي الدولي من القدس المحتلة إلى قطاع غزة.
ومن المرجح أن تنتهي الجولة الحالية من التصعيد العسكري – على غرار ما جرى في عام 2014- عندما يشعر كلا الجانبين أنه بإمكانهما إعلان “النصر”، على الرغم من الدمار ومقتل المدنيين، وعندما تنجح الوساطات الحالية في صياغة شروط الهدنة، لكنها لن تكون أكثر من هدنة مؤقتة.
ووفقًا لشبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية، شرعت حماس بعد جولة عام 2014 في إعادة بناء مخزونها من الصواريخ وأنفاقها مع إحكام قبضتها على غزة، ومن الصعب رؤية أي شيء آخر غير هذه العملية التي تعيد نفسها.
ويرى مارتن إنديك، الدبلوماسي الأمريكي الذي لديه عقود من الخبرة في الشرق الأوسط، أن نهج إدارة بايدن حتى الآن يشير إلى أن واشنطن ستكون مرتاحة لقبول هذه النهاية غير السعيدة، على حد تعبيره.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن حركة حماس استغلت أحداث المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح في القدس الشرقية، بطريقة برجماتية لتحقيق مصالحها السياسية الضيقة، وخدمة لإيران التي باتت راعيًا رئيسيًّا للحركة، إذ وجد كل منهما في الطرف الآخر ضالته في ممارسة دوره على الساحة الإقليمية.
ولم تضع حماس في حسبانها رؤية أكثر عمقًا وشمولًا تخدم القضية الفلسطينية، بل جاءت حساباتها مرهونة برغبة جامحة في لعب دور تتصور أنه سيجعلها تسجل نقاطًا سياسية لصالحها، ويكسبها شعبية أمام السلطة الفلسطينية في إطار الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي أضر بقضية وحقوق الشعب الفلسطيني كثيرًا على مدى الأربعة عشر عاما الماضية وحتى الآن.
وتخطئ الحركة في تقديرها الاستراتيجي أن ما يحدث سيجعلها تحظى بدعم رسمي وشعبي في الوطن العربي، فالدعم كان وسيظل موجهًا إلى القضية الفلسطينية بوجه عام وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وليس دعمًا لفصيل دون آخر.
أما حركة حماس فلن تفلح تلك الجولة من الصراع العسكري مع إسرائيل في أن تمحو حقيقة كونها حركة إخوانية خرجت عن لواء الإطار الوطني الفلسطيني وارتبطت بأجندات إيرانية.

زر الذهاب إلى الأعلى