تُعد ظاهرة “تصدُّع الحقيقة- Truth Decay” إحدى الظواهر المرتبطة بالوتيرة السريعة لتوظيف الإعلام للتقنيات التكنولوجية، وهي تعكس مجموعةً من الأبعاد، تتمثل في الخلاف المتزايد بشأن الحقائق والتفسيرات التحليلية للمعلومات والبيانات، وعدم وضوح الخط الفاصل بين الرأي والحقيقة، والتأثير الناجم لتفضيل الرأي والتجربة الشخصية على حساب الحقيقة، وانخفاض الثقة في مصادر المعلومات الواقعية التي كانت تحظى بالاحترام في السابق.
وقد ركّز العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية على عملية “محو الأُمية الإعلامية- media literacy” كأداة فعّالة للتغلب على تصدُّع الحقيقة، من خلال إكساب الأفراد مجموعة متنوعة من المهارات، أبرزها التدريب على اكتشاف التحيُّز والمعلومات المُضلِّلة في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، أعدَّت مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث والتطوير تقريرًا حددت فيه مجموعة من المعايير التي تُسهم في تجنب السقوط في فخ التضليل، وذلك على النحو التالي:
السعيُ للحصول على فَهم كامل للحقائق
يُعتبر الخلاف المتزايد حول التفسيرات التحليلية للحقائق والبيانات من المظاهر الأساسية لـ”تصدُّع الحقيقة”، ويُمكن التغلب على هذه المشكلة من خلال عدد من الخُطوات؛ أولها التعرُّف على موانع معرفة المرء أو فهمه للحقائق، ثم استخدام استراتيجيات لملء الفجوات في المعرفة، وذلك من خلال التواصل مع الخبراء حول موضوع ما، والبحث عن المعلومات في المكتبات، واستخدام مُحرِّكات البحث للعثور على معلومات إضافية.
مع الوضع في الاعتبار فهم كيف يُمكن لمصادر وأدوات المعلومات الحديثة أن تحدَّ من الحقائق ووجهات النظر المُتاحة، فعلى سبيل المثال، يُمكن أن يؤدي البحث عن أدلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى جمع معلومات من مجموعة مختارة من الأفراد يُمثلون وجهات نظر بعينها، كما أن اللجوء للاستعانة بمُحركات البحث له عيوبه؛ إذ يتم تحديد المعلومات التي تصعد إلى أعلى نتائج البحث عن طريق الخوارزميات، ما قد يؤدي إلى التضليل.
تحديدُ مصادر المعلومات الجديرة بالثقة
يُعتبر فهم مصادر المعلومات ودوافعها مفتاحًا أساسيًّا لحل إشكالية تراجع الثقة في مصادر الحقائق والمعلومات، لا سيما وأن تلك الإشكالية ازدادت تعقيدًا على مدى العقد الماضي، فسادت حالة من الارتباك حول المكان الذي يجب التوجُّه إليه للحصول على معلومات دقيقة وغير متحيزة في ظل تراجع ثقة الجمهور في المنافذ الصحفية والجامعات والمؤسسات البحثية.
ومن هذا المنطلق يجب أن يكون الجمهور قادرًا بشكل عام على القيام بما يلي:
• التعرُّفُ على خلفيات مقدمي المعلومات، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسساتٍ، وفهم دوافعهم لنشر المعلومات أو مشاركتها، مع القدرة على تحديد ما إذا كان هذا نِتاج جهد جاد لنشر الحقائق، أو أنه مدفوع بأبعاد سياسيّة أو آيديولوجية أو اقتصادية.
• تقييمُ ما إذا كانت منتجات المعلومات تُلبي المعايير المعمول بها، على سبيل المثال إذا كانت مادة صحفية، فإن فهم الخطوات التي يجب أن يتخذها الصحفيون قبل نشر قصة إخبارية، أو امتلاك فكرة عن المراحل التي يجب أن تمر بها المقالات قبل النشر، قد يُسهم في إعادة بناء الثقة في المنفذ الإخباري.
• تقييمُ المعلومات لاكتشاف التحيُّز والخداع والتلاعب، وهي مسألة تزداد أهمية؛ نظرًا لتطور التقنيات المُستخدَمة في نشر المعلومات المُضلِّلة.
• النظرُ في السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية لمنتجي المعلومات، وكيفية تأثيرها على المعنى والعبارات المُستخدَمة في عرض المعلومات.
تقييمُ مصداقية المعلومات وصحة الحُجج
تُعد مشكلة عدم وضوح الخط الفاصل بين الآراء والحقائق من المظاهر التي تعكس حالة “تصدُّع الحقائق”، وهنا يلعب عدد من المعايير دورًا في تقييم مصداقية المعلومات وصحة الحُجج وتتمثل في الآتي:
– فهمُ الطرق التي تُمكِّن التكنولوجيا من تقويض الثقة في منتجات المعلومات، ومنها على سبيل المثال “التزييف العميق” للصوت والفيديو من أجل تضليل الجمهور، ورغم أن تلك التكنولوجيا تتطور بسرعة فائقة، لكن لا تزال هناك أدلة مرئية وسمعية يمكنها إرشاد الجمهور بوجود تلاعب بالمعلومات، ومن أبرزها تغير لون وجه الشخص في مقطع الفيديو، أو سوء مزامنة الصوت والفيديو.
– بعيدًا عن الصورة المرئية، يجب أن يتحلى الجمهور بالقدرة على تتبع منطق الحُجّة، أي تحليل ما إذا كانت الأدلة كافية، ويمكن تأكيدها بشكل مستقل، أو ما إذا كانت هناك فجوات.
– مقارنةُ وجهات نظر متعددة حول موضوع ما، واستخدام الأدلة لتحديد كيفية إدارة التناقضات، فعلى سبيل المثال قد تُنكر بعض وجهات النظر ظاهرة تغيُّر المناخ، وهنا تضح ضرورة مقارنة وجهات النظر تلك بالأدلة العلمية التي تشير إلى أنماط المناخ المتغيرة.
– التعرُّفُ على الطرق التي قد تؤدي بها وسائل الإعلام والمنتجات الإعلامية إلى استجابات عاطفية تؤثر على المواقف أو تثير سلوكيات معينة، وهو ما تجسد واقعيًّا في حملات التضليل خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016؛ إذ إنها لم تعتمد على نشر معلومات كاذبة فحسب، بل كانت معلومات تثير عاطفة الجماهير؛ ليتخذوا ردود فعل بعينها.
المشاركةُ المسؤولةُ للمعلومات في العالم الافتراضيّ
ترتكز هذه العملية على مسؤوليات الأفراد المتعلقة بتوقع نوع التأثيرات التي يمكن أن تحدثها المعلومات التي يتم تشاركها في العالمين الافتراضي والواقعي. وتبرز هنا أهمية الحد من تأثير الرأي والخبرة الشخصية لدى مُنشئي المعلومات على الحقائق.
ويتطلب النجاح في تلك المهمة أيضًا التعرف على وجهات النظر الشخصية والثقافية لمقدم المعلومة، وكيف يمكن أن تؤثر على تفسيراته لها.
بالإضافة إلى تحلي الفرد بالانفتاح على تحديث وجهة نظره عند توافر معلومات جديدة، وهي مسألة تُمثل تحديًا كبيرًا عندما تكون وجهات النظر ذات صلة بمعتقدات راسخة أو تعزز الهوية الشخصية.
وعلى الرغم من أن هذا الانفتاح أحد المعايير الأكثر صعوبة، فإن الدراسات تشير إلى أنه من الممكن تعلم كيفية تطوير تفكير الفرد بناءً على معلومات جديدة ومتغيرة.
ونخلُص مما سبق، إلى أن معايير محو الأُمية الإعلامية تُمثل مزيجًا مركَّبًا من مجموعة من العناصر، حيث تشمل محو كل من الأُمية الرقمية والأُمية المعلوماتية والأُمية الإخبارية، والأُمية العاطفية.
ويُسهم تطبيق تلك المعايير في كيفية التفرقة بين الأخبار والدعاية السياسية أو العقائدية، وكشف أساليب التأثير التي تتبع من خلال الأخبار أو أيضًا التضليل- الذي يتم بشكل عمدي أو عن جهل – من خلال الفضاء الرقمي، وتحديدًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي يتم من خلالها تداول المعلومات بلا رقيب.
ومن هذا المُنطلَق، فإنه من الأهمية بمكان أن تولي الجهات المعنية حرصًا بالغًا على استحداث مناهج دراسية تتعلق بمحو الأُمية الإعلامية، أو على الأقل يتم تضمين المعايير سالفة الذكر في المحتوى الأكاديمي بصورة أو أخرى، فهذه المعايير تُسهم في تطوير مهارات الجمهور في التصدي للتضليل والشائعات والمعلومات المغلوطة.