قراءات

التوظيف السياسي للألعاب الإلكترونية.. قراءة تحليلية

تعتبر الألعاب الإلكترونية وسيطًا إعلاميًّا قويًّا تنقل من خلاله إشارات ورسائل سياسية وأخلاقية ودينية، كما أنها تحظى بتأثير مباشر وقوي على الشباب لتوفِّر ميزة التفاعلية، حيث إنها تعمل على إدماج ممارسي الألعاب في ذلك الواقع الافتراضي.
وتخلق تلك الألعاب حالة من الانغماس الجسدي والعقلي والوجداني تجعل مَن يمارسها مهيئًا لتلقِّي الرسائل التي تتضمَّنها بكل سهولة، وقد أصبحت تلك الألعاب واسعة الانتشار لسهولة توافرها عبر الوسائط الإعلامية الجديدة وانخفاض تكلفتها.
ومع التطور التقني بات بالإمكان ممارسة الألعاب الإلكترونية عبر الهواتف الجوالة، وصار لها جمهور عريض من المستخدمين المتعطشين لممارستها، حيث باتت تشكل أحد طقوس حياتهم اليومية.
وتشير التجارب المختلفة إلى أن الألعاب الإلكترونية كغيرها من الوسائط الإعلامية قد تستخدم بشكل إيجابي أو سلبي، والفيصل في ذلك طبيعة الرسالة وتفاعل المستقبلين وهم ممارسو تلك الألعاب وانعكاسها على سلوكهم وتفكيرهم.
دور الألعاب الإلكترونية في تعزيز التضامن والسِّلْم المجتمعي
ووفقًا لتقرير نشره موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، يمكن للألعاب الإلكترونية، على عكس معظم منصات الترفيه الأخرى، أن تحقق ترابطًا بين الأشخاص من جميع الخلفيات والمعتقدات.
وتوفر ألعاب الفيديو الآن منصة للتعاون بين الأفراد وتوسيع وجهات النظر وبناء مجتمعات جديدة من خلال ربط الأشخاص الذين ربما لم يلتقوا أبدًا، فممارسو تلك الألعاب يلعبون بانتظام مع (وضد) أشخاص من بلدان أخرى قد لا يتحدثون لغتهم الأم.
وتسمح هذه الروابط الجديدة بتعزيز التضامن فيما بين اللاعبين، فهذه الألعاب تضع بمهارة إطارًا للاعبين لإدراك أنه حتى لو كان الأشخاص على بعد أميال على النطاق السياسي أو الجغرافي، فإن لديهم قواسم مشتركة مع بعضهم وبعض أكثر ممَّا هو واضح.
ولذلك باتت الألعاب الإلكترونية تمتلك حاليًّا أكثر من مجرد القدرة على ربط الأشخاص وجدانيًّا، فاليوم يلعب نحو 63% من اللاعبين البالغين مع بعضهم غالبًا في فرق تجتمع معًا عبر الإنترنت أو بشكل شخصي، ويتعلم هؤلاء الغرباء، الذين تم تجميعهم معًا بواسطة الخوادم وخوارزميات التوفيق كيفية العمل معًا لتحقيق هدف مشترك.
بالإضافة إلى ذلك، يساعد اجتماع اللاعبين في فرق من جميع الأجناس والأعمار والجنسيات والقدرات للتنافس لتحقيق نصر مشترك، على توليد التعاطف مع زملائهم في الفريق، مع تنمية مهارات الاتصال والتواصل، ما يعني ببساطة أن الألعاب الإلكترونية لديها القدرة على تحقيق الاتصال بين الأفراد تمكنها من أن تلعب دورًا رائدًا في المجتمع.
وفي هذا الإطار، تجسد تجربة “لوال ماين”، وهو لاجئ من جنوب السودان نشأ في الأجزاء التي مزَّقتها الحرب، نموذجًا للدور الذي يمكن أن تقوم به الألعاب الإلكترونية في تحقيق وتعزيز السلام داخل المجتمع.
ويعمل ماين حاليًّا مطور ألعاب فيديو والرئيس التنفيذي لشركة “Junub Games” في الولايات المتحدة، وقد استخدم خبراته الحياتية لصنع ألعاب تركز على بناء السلام وحل النزاعات، فعلى سبيل المثال جاءت أحدث لعبة قام بإصدارها بعنوان “السلام”، وفيها يعيش اللاعبون حياة اللاجئين الذين يسعون لتجنب ويلات القصف ويبحثون عن توفير احتياجاتهم الأساسية من المياه والطعام ومصادر الطاقة، ويخوضون رحلة محفوفة بالمخاطر للهرب من مناطق الصراع إلى ملاذ آمن.
وفي خطوة عملية تجسد دعم اللعبة لجهود السلام، فإن أي أموال ينفقها اللاعبون في اللعبة تعود بالفائدة على لاجئين حقيقيين بفضل الشراكة بين “Junub” والمنظمات الخيرية.
كما تهتم أيضًا منظمات غير ربحية بدور الألعاب الرقمية في تغيير المجتمع للأفضل، ومنها منظمة “Games for Change” (منظمة غير ربحية) التي تتبنَّى فرضية مفادها أن الألعاب كوسيط يمكن أن تكون محركًا قويًّا للتغيير الاجتماعي، ومن هذا المنطلق تدعم المنظمة صانعي الألعاب والمبتكرين لتحسين مجتمعاتهم والتعلم.
وبذلك تعد الألعاب الإلكترونية واحدة من أكثر وسائل رواية القصص تأثيرًا في الشباب، حيث تساعد هذه المهارات المعرفية الناعمة على إعداد هؤلاء اللاعبين الشباب بشكل أفضل لمعالجة الانقسامات والصراعات والحروب التي يشهدها العالم.
الألعاب الإلكترونية التركية أداة للتضليل وتزييف التاريخ والحاضر
وفي المقابل، توجد نماذج تستخدم الألعاب الإلكترونية كأداة لاستهداف النشء بروايات مضللة وتزييف الحقائق التاريخية وصناعة البطولة الوهمية، فعلى سبيل المثال برزت الألعاب الإلكترونية كإحدى أدوات القوة الناعمة التي تستخدمها تركيا لاختراق عقول الشباب في المنطقة، إذ يوجد على متجر “جوجل بلاي” نماذج عديدة من تلك الألعاب، ومنها الحروب العثمانية، والإمبراطورية العثمانية وأرطغرل غازي، وحروب الإمبراطورية العثمانية.
وتهدف تلك الألعاب إلى صناعة انطباعات إيجابية لدى ممارسيها عن تركيا عبر تزييف تاريخ العثمانيين الدموي وتصوير غزوهم واحتلالهم لأراضي الغير على أنه فتوحات، والإمبراطورية العثمانية الاستعمارية بأنها تمثل دولة الخلافة الإسلامية، ويأتي ذلك ضمن خطة ممنهجة تدعم تحقیق أطماع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التوسعية ورغبته في السيطرة على ثروات المنطقة والاستيلاء على مقدرات شعوبها.
فهذه الألعاب جزء من مخطط العثمانيين الجدد لصناعة صورة ذهنية إيجابية لدى الشباب عن الحقبة العثمانية البائدة وتمرير رسائل خبيثة تخدم مشروع أردوغان.
ثمة جانب آخر تسعى إليه تركيا من وراء الألعاب الإلكترونية وهو الترويج والدعاية إلى الأسلحة والذخائر التركية الصنع، وذلك رغم الفشل الذريع للصناعات العسكرية التركية واقتصارها على الأسلحة البسيطة التي لا تُغني عن مواصلة الاستيراد من الخارج.
ومن أمثلة ذلك لعبة “Arma 3” ضمن مجموعة ألعاب “FPS” الإلكترونية، حيث تتضمن اللعبة مجموعة من الأسلحة والآليات الحربية التركية مثل الطائرات المسيرة والمدرعة كوبرا ومروحيات أتاك ودبابة ألطاي، وفقًا لصحيفة أحوال التركية.
فلدى اختيار الراغب في ممارسة اللعبة، جنديًّا أو شرطيًّا تركيًّا، بوسعه أن يستخدم كل الأسلحة التركية المحلية الصنع، وبإمكانه أن يشارك عبر الأسلحة والذخائر بشكل افتراضي، في الهجمات التركية على شمال سوريا تحت مسميات تجسد شعارات إنسانية زائفة مثل غصن الزيتون ونبع السلام، علمًا بأن تلك العمليات العسكرية التركية تسببت بقتل المئات من المدنيين السوريين، خاصة من الأكراد، ونَجَمَ عنها احتلال مناطق واسعة في الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا، فضلًا عن تهجير وطرد مئات الآلاف من سكان وأهالي تلك المناطق العربية والكردية، وإحلال إرهابيين وعائلاتهم في بيوتهم من تنظيمات داعش وجبهة النصرة وجيش الشام وفرقة السلطان مراد وغيرها من الفصائل الإرهابية.
وفي ذات الإطار، لم يقتصر اللجوء إلى استخدام الألعاب الإلكترونية على الدول، بل إن العديد من التنظيمات استعانت بها كأداة لإيصال رسائلها، ومن أبرز الأمثلة جماعة حزب الله اللبنانية التي أطلقت في مارس 2019 لعبة إلكترونية ثلاثية الأبعاد تحت مسمى “الدفاع المقدّس- حماية الوطن والمقدسات”.
وبحسب الحزب، تهدف اللعبة إلى توثيق مشاركة مقاتليه في الحرب الدائرة في سوريا ضد ما سمَّاهم بـ”التكفيريين”، وهي تجسد مجموعة من المعارك التي شارك فيها الحزب منذ عام ٢٠١٣، وتبدأ بمعركة في دمشق، وتنتهي بمعارك الحدود اللبنانية السورية في منطقة رأس بعلبك.
علمًا بأن حزب الله سبق أن أطلق لعبة إلكترونية حربية، عقب الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، سعى من خلالها لتضخيم وتمجيد الدور العسكري لمقاتلي الحزب.
وسار في ذات الاتجاه، تنظيم “داعش” الإرهابي الذي وظَّف الألعاب الإلكترونية ضمن استراتيجيته الاتصالية لتجنيد الشباب، حيث أصدر لعبة تسمى “صليل الصوارم”، وفيها تمارس الشخصيات الإلكترونية الشبيهة بمقاتلي التنظيم بتفجير مركبات العسكرية، ومجموعة أخرى متخصصة في القنص، وثالثة بمهاجمة المنشآت العسكرية.
ويسعى التنظيم الإرهابي من وراء تلك اللعبة إلى التأثير في الشباب وتنمية رغبتهم في اختبار تلك المشاعر في الواقع، ما يحفزهم على الانضمام إلى التنظيم والانخراط في معارك ميدانية حقيقية.
وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول إن الألعاب الإلكترونية كوسيط اتصال تعتبر سلاحًا ذا حدين، فقد يتم توظيفها بشكل إيجابي يعمل على تحقيق الاستقرار وتعزيز التماسك داخل المجتمع ونشر الوعي بخطورة الحروب والصراعات، أو يتم استغلالها سياسيًّا من قِبَل الدول والتنظيمات الإرهابية لخدمة أهدافهم، وتختلف آلية التوظيف وفقًا للهدف النهائي، ففي حالة تركيا باتت أداة أساسية في إطار حلم أردوغان بإحياء الدولة العثمانية، حيث يستخدمها في محاولة لغسيل السمعة السيئة للحقبة العثمانية، ومساعيه المتواصلة لاختراق العالم العربي، سواء فكريًّا أو عسكريًّا.
ويبقى القول بأن تلك الألعاب الإلكترونية وما تتضمَّنه من رسائل مسمومة تشكل خطرًا بالغًا بالنظر إلى اندفاع الشباب بشراهة نحو ممارسة تلك الألعاب التي أدت التطورات التقنية إلى جعلها أكثر إبهارًا وجاذبية.

زر الذهاب إلى الأعلى