تشكِّل نظرية الغرس الثقافي للعالم الأمريكي الشهير جورج جيربنر، التي هدفت إلى معرفة تأثير التليفزيون على الجمهور وتصوره للواقع، مدخلًا نظريًّا مهمًّا يمكن استخدامه في تحليل تأثيرات منصات التواصل الاجتماعي على مستخدميهم وكيف تكون رؤيتهم للعالم.
ووفقًا للمنطلقات والأسس التي تقوم عليها تلك النظرية الكلاسيكية، يمكن اعتبار كل ما يتم مشاركته على منصات التواصل الاجتماعي يشكل رأيًا وقد يؤدي إلى حكم في الواقع الحقيقي، مما قد يترتب عليه أخطار طويلة المدى، خصوصًا في ظل الاستخدام الكثيف للشباب وصغار السن لتلك المنصات التي أضحت المصدر الرئيسي وشبه الوحيد الذي يستمدون منه المعلومات ويتفاعلون من خلاله مع القضايا في مجال عام افتراضي.
نظرية الغرس الثقافي والإعلام الجديد
تُشير دراسة نشرتها جامعة “Eastern Mediterranean University” إلي أن شبكة الإنترنت أحدثت ثورة كبرى غيَّرت نماذج الاتصال، فقد بات الأشخاص يقضون وقتًا طويلًا على الإنترنت، ويتشكل تصورهم للعالم من خلال ما يرونه على تلك الشبكة، وأدى هذا التغيير السريع إلى إنشاء مجتمعات شبكية استحوذت على جمهور التليفزيون الذي كان المنصة الأهم التي يتابعها مستهلكو وسائل الإعلام.
وقد شكلت نظرية الغرس الثقافي للعالم الأمريكي جورج جيربنر في ستينيات القرن الماضي اختراقًا في مجال الدراسات الإعلامية، وتقوم على دراسة دور التليفزيون في تشكيل رؤية العالم لدى المشاهدين.
وتمثل التركيز الأساسي للنظرية على قياس آثار التعرض للتليفزيون وتحليل الرسائل الموجهة للجماهير والمعاني المستمدة من هذه الرسائل، إذ ركزت النظرية على عملية البناء طويلة المدى التي تتم لرؤية الجمهور للعالم.
وفي الوقت الذي تظل فيه نظرية الغرس الثقافي محل نقاش في إطار التليفزيون، كشفت دراسة نشرتها مجلة “Mass Communication and Society” مؤخرًا عن أهمية التفكير في تطبيق النظرية على وسائل الإعلام الجديد، لأن تلك الوسائل جعلت البث أكثر ملاءمة وانتشارًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تُمكن الجمهور من أن يكونوا مشاركين فاعلين ومساهمين في وسائل الإعلام وهذا التفاعل يخلق تبادلًا بين منتج الوسائط والموزع والمستهلك.
وفي سياق متصل، يوضح لاري جروس، أستاذ الاتصال بجامعة جنوب كاليفورنيا في دراسة نشرها بمجلة “Television & New Media” عام 2009، أنه قبل الإنترنت كان التليفزيون راويًا للقصص، ومع ذلك، فإن ما فعله التليفزيون في ذلك الوقت فيما يتعلق ببناء الافتراضات، يتم تنفيذه من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
وتشير دراسة جروس، الذي قام بالمساهمة في تطوير نظرية الغرس الثقافي مع جيربنر إلى أنه من أجل النظر في الكيفية التي يسكن بها الإنترنت عالمنا، لا بد من التدقيق في دور الشبكات الاجتماعية في عملية إنشاء رؤية عالمية موازية لواقع الشخص، لأن دور وسائل التواصل الاجتماعي يتجاوز تحميل الصور والمعلومات الخاصة بكل فرد على الإنترنت.
وتركز هذه الدراسة على كيفية حدوث البناء الاجتماعي للواقع على مواقع شبكات التواصل، أي أنها تعيد تفسير نظرية الغرس الثقافي في ظل هذا النظام المتطور.
وتلفت الدراسة إلى أن إعادة تقييم طرق الاتصال يجب أن تشكل أولوية في الدراسات الإعلامية المعاصرة بسبب الطبيعة المتغيرة لتقنيات الاتصال.
الاتصال الجماهيري بين الصحافة الصفراء في القرن الـ19 ومواقع التواصل الاجتماعي
وقام كل من ستانلي باران ودينيس ديفيز في كتابهما “نظرية الاتصال الجماهيري” بعمل مراجعة لنظريات الاتصال، حيث أكدا أن الأنظمة الاجتماعية والثقافات حول العالم تتغير بسبب تأثير الإنترنت على الاتصال.
وأشارا إلى أن تكنولوجيا الاتصالات تقدِّم أشكالًا مختلفة من أنظمة الوسائط وهي مقبولة بحماس من قبل العديد من الأشخاص، كما أن تأثير وسائل الإعلام وتكنولوجيا الوسائط الجديدة يؤدي إلى التغيير الاجتماعي، مما يستلزم البحث في كيفية حدوث هذا التغيير الاجتماعي في أوقات وأنظمة اجتماعية مختلفة.
ووفقًا لنظرية الاتصال الجماهيري، يكون للإعلام أحيانًا تأثير مباشر وسلبي على الناس، وارتبط ذلك تاريخيًّا بإطار الصحافة الصفراء التي انتشرت في القرن التاسع عشر، وغالبًا ما يتم توجيه نفس الانتقادات إلى العديد من وسائل التواصل الاجتماعي حاليًّا، بسبب ميلها نحو التفاهة والإثارة والنشر السريع للأخبار التي لا يتم التحقق منها.
ويرى باران وديفيز أن نظرية المجتمع الجماهيري لم تركز بعد على الإنترنت، فالمجتمع حاليًّا لم يعد يمثل المجتمعات الكبيرة المتشابهة التفكير في المدن أو المناطق الحضرية، ولكنه مجتمع يحيا في بيئات الوسائط عبر الإنترنت، حيث الواقع الموضوعي المشوّه، والتفسير المتحيز للأخبار، فالفرد في مجتمعات وسائل التواصل الاجتماعي يكون محاطًا بشكل حصري تقريبًا بأفراد متشابهين في التفكير.
ومع استمرار زيادة استهلاك وسائل التواصل الاجتماعي، تزداد قدرتها على تعزيز الواقع أو النظام الاجتماعي فالصور (المقالات والأفكار) التي يستهلكها مستخدمو تلك المواقع تؤدي إلى بناء المعنى.
ووفقًا لموقع “استاتيستا- Statista” المتخصص في الإحصاءات العالمية، فقد بلغ متوسط الاستخدام اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم 144 دقيقة في 2019 بعدما كانت 142 دقيقة في 2018.
وهنا يثور تساؤل حول مدى إمكانية الاستعانة بنظرية الغرس الثقافي في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. والإجابة أنه أمر ممكن بالعودة إلى جذور النظرية التي شكلت مدخلا رئيسيا لتحليل عملية صنع المعنى مع دخول التليفزيون في حياة الناس.
وقد اهتمت النظرية بتحليل كيفية مساهمة التليفزيون بنشاط في تصور الواقع الاجتماعي من قِبَل الجمهور، أو المشاهدين، وفى هذا الإطار عرف جيربنر تحليل الغرس الثقافي بأنه “دراسة العلاقات بين العمليات المؤسسية وأنظمة الرسائل والافتراضات العامة والصور والسياسات التي تعمل على تنميتها، ويفترض أن نظام الرسائل النابع من التليفزيون أنتج رؤية للعالم ستصبح فيما بعد حقيقة واقعة وتشوِّه حكم الناس”.
المصالح المؤسسية والواقع السائد على منصات التواصل الاجتماعي
وفي محاولة لاستطلاع إمكانات تطبيق النظرية، رأت رازيا نيفزات، الخبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، أن تطبيق نظرية الغرس الثقافي من المحتمل أن يكشف عن ثلاث سمات أساسية على النحو التالي:
وسائل التواصل الاجتماعي تطمس النقص وتصور القضايا والأشخاص على أنهم مثاليون.
تمزج وسائل التواصل الاجتماعي حياة الناس مع صورهم الرمزية، حيث يتم دمج كلا الواقعين في ملف تعريف اجتماعي.
تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على تحويل “الحقائق السائدة- mainstream realities” على وسائل التواصل الاجتماعي لخدمة مصلحة المؤسسات والشركات الكبرى.
ولعل قضية شركة “كامبريدج أناليتكا -Cambridge Analytica ” للاستشارات مثال مهم على دور منصات التواصل الاجتماعي المتعلق بالتحكم في الواقع السائد لخدمة مصالح المعلنين. ففي أوائل عام 2018 تم اتهام “كامبريدج أناليتكا” بإساءة استخدام البيانات التي حصلت عليها من فيسبوك للتلاعب بالحملات السياسية، مما تسبب في أزمة كبرى لفيسبوك وأدى أيضا إلى إغلاق كامبريدج أناليتكا.
وتؤكد تلك الحالة أنه في الوقت الذي أصبح فيه التليفزيون بعيدًا عن أنظار العديد من المشاهدين، لا تزال العلاقة الوثيقة بين تحقيق مصالح المؤسسات والواقع السائد، قائمة ولكن على منصات إعلامية جديدة هي مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعيش المليارات من الأشخاص في عالم بديل على تلك المنصات ويتعرضون للعديد من التغييرات السياسية والشخصية والاجتماعية التي تتكون ببطء.
وختامًا، تعد وسائل التواصل الاجتماعي حاليًّا أكثر منصات الاتصال جاذبية، ممَّا يستلزم تقديم قراءتها من منظور نظري على غرار تطبيق نظرية الغرس الثقافي على التليفزيون، حيث ساعدت النظرية على قراءة تأثير التصورات التليفزيونية على الجماهير، لكن اللافت أنه حتى الآن لم يتم بذل جهود أكاديمية لتأسيس منظور لتحليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، علمًا بأن ذلك التأثير أكبر من حيث النطاق وأطول من حيث المدى من تأثير التليفزيون.
لذا يمكن القول إن مستقبل نظرية الغرس الثقافي يتعلق بتطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعي التي حلت محل التليفزيون إلى حد كبير بفعل التطور التكنولوجي، ومن الضروري أن يتم تحليل مجتمعات الشبكات على هذه المنصات من أجل فهم أفضل لما يتم غرسه في عقل مستخدمي تلك المنصات.
إن الواقع والثقافة البديلين اللذين توفرهما وسائل التواصل الاجتماعي يشوهان تصورات الأشخاص للواقع ويعملان على إخماد أي وجهة نظر ناقدة عبر تعريض المستخدمين فقط لأفراد متشابهين معهم في التفكير، لذا لا بد من تشجيع قدرة المستخدمين على الوصول إلى مختلف الرسائل وتحليلها وتقييمها ونقلها.