تقارير

“آيا صوفيا” و”شورا” بين انتهاكات أردوغان والحراك الدولي

يمثل التوظيف السياسي للدين أبرز أدوات السياسة التركية في عهد رجب طيب أردوغان، سواء علي الصعيد الداخلي أو الخارجي، فالمتاجرة بالدين هي وسيلة يلجأ إليها أردوغان لتخفيف الضغوط التى تواجهه في ظل شعبية متراجعة وأزمة اقتصادية تزداد حدة يوما بعد الأخر.

وفي القلب من تلك السياسة تأتي عملية تحويل المتاحف والمزارات السياحية والمبان التاريخية في تركيا إلي مساجد، سعيا منه لخطب ود المحافظون والتيار القومى وتأمين مكاسب خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، لاسيما فى أعقاب الزلزال الانتخابي العنيف الذى هز أركان نظام أردوغان العام الماضى حينما تلقي حزبه العدالة والتنمية هزيمة نكراء تمثلت في ثلاث صفعات مدوية في الانتخابات المحلية فى أنقرة وإسطنبول وإزمير.

وأثار قرار أردوغان تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد ولاحقا تحويل متحف “دير شورا” إلي مسجد، غضب مؤسسات ومنظمات دولية وقيادات دينية مسيحية حول العالم من المساس بالصرح التاريخي الذي يجمع بين أصحاب الديانات المختلفة وانتهاك أنقرة لالتزاماتها الدولية، مما أدى إلى موجة إدانات وحراك دولي بشأن السلوك التركي، كما عكس القرار حالة من حالات القطيعة الرسمية بين النظام التركي الحالي ومبادئ الجمهورية التركية الحديثة.

تحويل المواقع الأثرية إلي مساجد أداة لدغدغة مشاعر الجماهير التركية

في ثمانينات القرن المنصرم أُدرج متحف آيا صوفيا على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، ليصبح واحداً من أهم الوجهات السياحية في إسطنبول، إذ استقبل العام الماضي فقط  نحو 4 مليون زائر.

وقد تعالت مطالبات تيار الإسلام السياسي في تركيا علي مدى سنوات بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وهو ما اتخذ منحي عمليا في 12 يوليو الماضي، حينما ألغت المحكمة الإدارية العليا في تركيا المرسوم الحكومي الصادر عام 1934 القاضي بتحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف، استنادا إلى ما وصف بوثائق تاريخية تؤكد شراء السلطان العثماني محمد الفاتح مبنى كنيسة آيا صوفيا من القساوسة قبل تحويله إلى مسجد، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية.

وأعقب ذلك الحكم، إصدار أردوغان مرسوما رئاسيا بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وإقامة أول صلاة فيها في الرابع والعشرين من يونيو الماضى، وهو تاريخ ذو دلالة كبيرة بالنسبة للعثمانيون الجدد حيث يوافق يوم توقيع اتفاقية لوزان عام 1923، والتى شكلت شهادة وفاة الدولة العثمانية، وبداية للجمهورية التركية العلمانية التى انفصلت تماما عن الماضى العثماني وأقامت دولة قومية علمانية.

وفي نفس اليوم الذى اقيمت فيه أول صلاة جمعة بحضور أردوغان تم إغلاق ضريح أتاتورك في أنقرة بدعوى تعقيمة بسبب انتشار وباء كورونا، فيما قام الرئيس التركي بزيارة ضريح السلطان العثماني محمد الفاتح، وسمحت السلطات التركية بتوافد الألاف إلي آيا صوفيا ما يعكس  إزدراء أردوغان للتاريخ العلماني للجمهورية التركية، وفقا لموقع “International Policy Digest“.

ولم يمض شهرين حتى قام أردوغان بخطوة مماثلة، حيث أمر بتحويل متحف “دير شورا” إلى مسجد، حيث تقام في 30 أكتوبر الجاري شعائر أول صلاة جمعة فيه بعد انقطاع دام 75 عام. وكانت محكمة تركية قد ألغت العام الماضى، قرارا حكوميا كان قد صدر عام 1945 بتحويل كنيسة شورا الأرثوذكسية القديمة المعروفة في اللغة التركية باسم كاريه إلى متحف تديره وزارة التعليم.

ووفقا لمحطة “فرانس 24” الفرنسية، تعد تلك الكنيسة واحدة من أشهر مباني العصر البيزنطي في إسطنبول وحتى القرون الوسطى، وقد بُنيت قرب أسوار مدينة القسطنطينية القديمة.

وتم تحويل الكنيسة إلى مسجد كاريه بعد نصف قرن على سقوط القسطنطينية عام 1453 على أيدي العثمانيين، الذين قاموا بإخفاء معالم الكنيسة تحت طبقة من الجير، لكن تم الكشف عنها مرة أخرى على غرار ما حدث في آيا صوفيا، عندما حولها الرئيس التركي مصطفي كمال أتاتورك إلى متحف قبل أكثر من 70 عاما.

ورقة أردوغان لانقاذ شعبيته المتراجعة وإدارة صراعه مع الغرب

وتأتي قرارات أردوغان المتتالية بتحويل تلك المبانى التاريخية إلي مساجد كورقة يوظفها في خضم صراعه الذى يزداد سخونة مع الغرب الرافض للسياسات التركية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، لاسيما ضد اليونان وقبرص في منطقة شرق المتوسط، فضلا عن محاولته لاحتواء غضب الداخل نتيجة الانهيار الاقتصادي بسبب مغامراته السياسية والعسكرية، ويبقي اللعب علي وتر العاطفة الدينية الملاذ الوحيد لأردوغان من أجل تلميع صورته، إذ يشير مركز “أوراسيا” التركي لاستطلاعات الرأي إلي أن نتائج 57 استطلاع رأي في تركيا، أجريت خلال الـ15 شهرًا الأخيرة من قبل 19 شركة، لقياس مدى شعبية أردوغان، والأحزاب السياسية في تركيا، حصل من خلالها أردوغان على 39.9% من متوسط الأصوات.

كما أن حزب العدالة والتنمية ليس لديه فرصة للوصول إلى السلطة، إذ أن متوسط عدد الأصوات التي حصل عليها حزب أردوغان وحليفه حزب الحركة القومية في المجموع هو 40.62 %، وفقا لموقع “تركيا الآن” الإخباري.

قلق دولي حول التعايش بين الأديان ووضع الأقليات الدينية في تركيا

وأثارت خطوات أردوغان حالة من الرفض الدولي والقلق بشأن حقوق الأشخاص في الوصول إلى التراث الثقافي والتمتع به، والتعايش بين الأديان وكذلك مساواة وسلامة الأقليات الدينية بما في ذلك المسيحيون في تركيا، وأدت لحراك دولي لمواجهة انتهاكات تركيا لالتزاماتها الدولية، فأعربت منظمة اليونسكو عن أسفها لما أقدمت عليه الحكومة التركية دون إجراء حوار مسبق، ومن المقرر أن تُقيّم لجنة التراث العالمي حالة صون آيا صوفيا في أثناء انعقاد دورتها المقبلة.

ويشير مساعد المديرة العامة لليونسكو للشؤون الثقافية، إرنستو أوتوني راميريز، إلي أن الإجراء التركي يشكل انتهاكاً للقواعد التي وضعتها اتفاقية التراث العالمي لعام 1972، التى تحتم تجنب اتخاذ أي تدبير تنفيذي لم يناقش مسبقاً مع اليونسكو، قد يؤثر في عملية الدخول إلى المبنى وفي هيكليته وفي أثاثه وأسلوب إدارته.

وعبرت الولايات المتحدة عن خيبة أملها من خطوة أنقرة، ووصفت اليونان القرار بأنه “استفزاز مفتوح” للعالم المتحضر، وشككت فرنسا في “علمانية تركيا”، فيما حث الاتحاد الأوروبي أنقرة على العمل من أجل الحفاظ على التعايش السلمي بين الأديان والطوائف على أراضيها، وفقاً لالتزاماتها الدولية.

كما أعربت روسيا مؤخرا علي لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف عن أملها بأن تفي تركيا بالتزاماتها المتعلقة بوضع كاتدرائية آيا صوفيا كموقع تراث عالمي لليونسكو، مشيرة إلي أن آيا صوفيا تتمتع بقيمة خاصة جدا من وجهة النظر الروحية بالنسبة للروس، وأن الجانب الروسي ينقل بانتظام موقفه بشأن هذه القضية إلى الشركاء الأتراك وعلى أعلى المستويات.

كما لاقي القرار التركي رفضا من جانب القادة الروحيون للعالم المسيحي، إذ عبر بابا الفاتيكان البابا فرانسيس عن حزنه الشديد، قائلا في مراسم دينية إنه يفكر في آيا صوفيا ويشعر بالحزن الشديد، بينما أعرب مجلس الكنائس العالمي عن “الحزن والفزع.

وقامت أبرشية الروم الأرثوذكس الأمريكية بتقديم التماس إلي الأمم المتحدة، حيث اتهمت السلطات التركية، بانتهاك القانون الدولي من خلال تحويل الكاتدرائية التي تعود إلى العصر البيزنطي إلى مسجد، وطلبت الكنيسة من المقررين الخاصين للأمم المتحدة في مجالات الحقوق الثقافية وحقوق الأقليات وحرية الدين والمعتقدات محاسبة تركيا على سياساتها المتعمدة لمحو التراث الثقافي للمسيحيين الأرثوذكس.

وانتقد خبراء دوليون أيضا قرارات أردوغان، إذ رأت كريمة بنون، المقررة الخاصة المعنية بالحقوق الثقافية في الأمم المتحدة، وأحمد شهيد، المقرر الخاص المعني بحرية الدين والمعتقد، أنه من الخطأ التاريخي في هذه اللحظة العالمية الصعبة اتخاذ إجراءات تقسم الجماعات الدينية والثقافية في تركيا وخارجها، بدلاً من توحيدها.

ودعا الخبيران إلي ضرورة الامتناع عن تحويل التراث الثقافي إلى وسيلة للتجاذب، وبدلا من ذلك يجب الاستفادة من التراث في تنوعه بطريقة تسمح بازدهار الحقوق الثقافية للجميع.

وتأسيسا علي ما سبق، يمكن القول إن خطوات أردوغان المتسارعة نحو تحويل المتاحف إلي مساجد تشكل إنقلابا أيديولوجيا علي علمانية الدولة التركية، ويمكن تأطيرها ضمن مشروع العثمانيون الجدد الطامح لإحياء إمبراطورية بائدة تحت عنوان “الخلافة الإسلامية” من أجل دغدغة المشاعر واستمالة الجماهير لدعم نظام أردوغان المتهاوى الذي ألحق بالدولة التركية خسائر لا تعد ولا تحصي، إذ باتت تركيا في حالة عداء مع جوارها المباشر ومحيطها الإقليمي، ويصارع اقتصادها ركودا وانهيارا غير مسبوقا من مؤشراته النزيف المستمر لليرة التركية.

إن أردوغان يحاول دمج الإسلام والقومية التركية بطريقة تُنَشط هاتين القاعدتين الانتخابيتين لصالحه، إلا أن تلك اللعبة تحمل تداعيات خطيرة على الحرية الدينية، والمساواة في المعاملة أمام القانون بالنسبة للأقليات الدينية، وتشير لعدم احترام الدولة التركية للتراث الثقافي ولتعهداتها أمام المجتمع الدولي، حيث ينتهك تغيير وضع متحف آيا صوفيا إلي مسجد إلتزامات أنقرة بموجب القواعد المستمدة من اتفاقية التراث العالمي لليونسكو لعام 1972،

كما تعكس خطوات أردوغان بروز وجهة نظر عنصرية للتاريخ والثقافة بدلا من التقاء الثقافات، وهي الروح التي أدت إلى وضع هذا المعلم على قائمة التراث العالمي، الامر الذي يتطلب وقفة حاسمة أمام سلوك أردوغان المتهور الذى يحول التراث الثقافي إلى وسيلة للتجاذب بدلا من التعايش الحضاري وأن يكون ذلك التراث رمزا يوحد لا يفرق، كما أن النهج الأردوغاني المرتبط بتيار الإسلام السياسي يُسهم في تعزيز مشاعر الكراهية ضد المسلمين ويضر بحقوقهم في المجتمعات التى يشكلون فيها أقلية، ويفتح مجالاً واسعاً لاضطهادهم.

زر الذهاب إلى الأعلى