تقارير

نظرية المسؤولية الاجتماعية.. بين الإعلام التقليدي والجديد

تعد وسائل الإعلام سلاحًا ذا حدَّين، فيمكن أن تقود أمة إلى التقدم والازدهار، وقد تؤدي إلى إحداث فوضى مدمرة، لذلك فإن للإعلام التزامات معينة تجاه المجتمع، وهو ما تجسده نظرية المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام تلك النظرية التي ظهرت في أواخر أربعينيات القرن الماضي. كما قدمت لجنة هتشينز المعنية بحرية الصحافة، التي تشكلت خلال الحرب العالمية الثانية، نموذجًا يتعين على وسائل الإعلام فيه أداء بعض الالتزامات المحددة تجاه المجتمع مثل الحقيقة والدقة والموضوعية والتوازن.

وتعتبر مصادر المعلومات الموثوقة مكونًا مهمًّا لأي مجتمع، فهذه هي المنطقة التي يظهر فيها تأثير وسائل الإعلام، علمًا بأن الأخيرة أثرت بأشكالها المختلفة المطبوعة والمسموعة والمرئية في حياة الإنسان.

وهناك أيضًا وسائل الإعلام الجديدة المعتمدة على الإنترنت، التي أتاحت نشر المعلومات والأفكار وقت حدوثها حول العالم، وهذا التطور كان مصدرًا للقلق حول مدى وفاء وسائل الإعلام الجديد بالمسؤولية الاجتماعية.

أبعاد نظرية المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام

تعد الفلسفة الأساسية وراء نظرية المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام أن تدرك وسائل الإعلام مسؤوليتها في حل المشكلات وتعزيز الرأي العام والمصالح الاجتماعية، وأن تكون مسؤولة أمام الجمهور، وقد أدت هذه النظرية إلى إنشاء مجالس وروابط للصحافة، ووضع مدونات لقواعد السلوك وقوانين مكافحة الاحتكار في العديد من البلدان.

وقد لخص دينيس ماكويل، أحد أبرز علماء الاتصال، المبادئ الأساسية لنظرية المسؤولية الاجتماعية على النحو التالي:

  • يجب أن تقبل وسائل الإعلام ببعض الالتزامات تجاه المجتمع.
  • ضرورة الوفاء بهذه الالتزامات بشكل أساسي من خلال وضع معايير مهنية لجمع المعلومات ومراعاة الدقة والموضوعية والتوازن.
  • عند قبول وتطبيق هذه الالتزامات، يجب أن تكون وسائل الإعلام ذاتية التنظيم في إطار القانون والمؤسسات القائمة.
  • تجنب المحتوى المسيء الذي يؤدي إلى الجريمة أو العنف أو الاضطراب أو الإضرار بالأقليات.
  • أن تكون وسائل الإعلام ككل تعددية وأن تعكس تنوع مجتمعها، ممَّا يتيح الوصول إلى مختلف وجهات النظر مع كفالة حق الرد.
  • للمجتمع الحق في توقع مستويات عالية من الأداء، ويمكن تبرير التدخل لتأمين هذا الحق.
  • خضوع الصحفيين والإعلاميين للمساءلة أمام المجتمع وكذلك أمام مؤسساتهم.

المسؤولية الاجتماعية والإعلام والتنمية

وفي ذات الإطار، قام الباحث نومان أوينز إيبي، بمحاولة مثيرة للاهتمام لصياغة تعريف موجز للمسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، من منظور بلد نامٍ، وتحديدًا نيجيريا، مشيرًا إلى أنه كجزء من مسؤوليتها لخدمة المصلحة العامة من المتوقع أن تقوم وسائل الإعلام بإبلاغ المواطنين بما يتخذ من قرارات وسياسات حكومية، ممَّا يعني أنها تجعل المسؤولين بطريقةٍ ما تحت المراقبة.

وتجدر الإشارة هنا إلى التمييز بين المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، ودور الأخيرة في دعم التنمية، وهي قضية تجسدها نظرية الإعلام التنموي، التي تدعو وسائل الإعلام لدعم جهود الأنظمة السياسية القائمة لتحقيق التنمية الاقتصادية الوطنية، وتجادل بأنه حتى يتم ترسيخ أركان الدولة ويتم تحقيق التنمية الاقتصادية بشكل جيد، يجب أن تكون وسائل الإعلام داعمة للحكومة بدلًا من انتقادها.

وتقوم تلك النظرية على عدة مبادئ، من أبرزها تركيز الإعلام  على الأولويات الاقتصادية واحتياجات التنمية للمجتمع.

ويشير موقع “Businesstopia، إلى أنه يمكن اعتبار أن تقارير الأخبار الصحية في وسائل الإعلام تندرج في إطار المسؤولية الاجتماعية، حيث تقدم وسائل الإعلام المعلومات وتبث الوعي حول المشكلات الصحية والأوبئة وغيرها من المخاطر الصحية، والتصرف بمسؤولية فيما يتعلق بتلك التقارير هو عدم نشر الأخبار الخاطئة وبث الذعر.

ومن جهة أخرى، تعد الإعلانات عن المواد الضارة مثل السجائر والكحول خاطئة بحسب نظرية المسؤولية الاجتماعية.

في المقابل، تتمثل نقطة الضعف في نظرية المسؤولية الاجتماعية في أنه دائمًا ما تكون الأخلاقيات غامضة ومبهمة وتختلف من حالة إلى أخرى، ومن الصعب تحديد مبادئ ومعايير واضحة لتلك المسألة.

نظرية المسؤولية الاجتماعية ومنصات التواصل الاجتماعي

يثير التقدم التكنولوجي الراهن وظهور منصات التواصل الاجتماعي التي باتت ساحة يتم من خلالها القيام بأدوار إعلامية وإعلانية، تساؤلات حول مدى انطباق نظرية المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام على تلك المنصات، حيث تطرح منصة triplepundit تساؤلًا رئيسيًّا مفاده: هل يقع على عاتق الشركات الرقمية واجب رعاية المحتوى الذي يعتبره البعض مقلقًا؟ مشيرة إلى أن هذه هي المعضلة الحالية لمنصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام، وغيرها من المنصات، التي يتم تعريفها ذاتيًّا على أنها «موزعون محايدون» غير مسؤولين عن المحتوى المنشور عبر قنواتهم أو شبكاتهم.

وهذه العلامات التجارية الشهيرة، التي تعتبر صورًا رمزية لتعزيز ممارسة حرية التعبير على نطاق لم يكن من الممكن تخيُّله سابقًا في تاريخ الاتصالات، تجد نفسها الآن أهدافًا لانتقادات متزايدة لوجود محتوى على منصاتها يعتبره مجتمع المستخدمين العالمي ضارًّا،  بل خطيرًا أيضًا.

وهو ما يدفع لطرح تساؤل مباشر ألا وهو: ما المسؤولية الاجتماعية لوسائل التواصل الاجتماعي؟ حيث تشير منصة triplepundit إلى صراع مستمر بين التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي يضمن حرية التعبير، وثقافة معاصرة تسمح، بل أحيانًا تكافئ تعليقات شديدة التحريض من خلال عدد النقرات التي يحصدها المحتوى، ممَّا يؤدي إلى تضخيمه ليشمل جمهورًا عريضًا غير مسبوق عبر الإنترنت.

ويجادل البعض بأن هؤلاء “الموزعون”، مثلهم مثل الناشرين، مسؤولون عن المحتوى الذي يحملونه ويقدمونه حتى لو لم ينشئوه، بينما ترى الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي أنه ليس من حقها أو من واجبها فرض رقابة على محتوى الطرف الثالث.

وبالطبع مثل جميع الشركات، مواقع التواصل الاجتماعي لديها معايير يمكن الرجوع إليها، ويتم الاحتجاج بهذه “المعايير المجتمعية” بشكل متزايد بعدما باتت حرية التعبير بلا أي ضابط، مصدرًا للعديد من المشكلات.

وفي هذا الإطار، انضم موقع التدوينات القصيرة “تويتر” أخيرًا إلى نظرائه في مجال التكنولوجيا في حذف بعض المحتوى الذي أنتجه موقع أنفورز، وهو موقع متخصص في نظريات المؤامرة وخطاب الكراهية ومضايقة أعدائه المتصورين. كما استدعى كل من “يوتيوب” و”فيسبوك” و”أبل” و”سبوتيفاي” (معايير المجتمع) كسبب لحذف تعليقات هذا الموقع.

كما حذفت شركة أمازون، عملاق التسوق الإلكتروني، منتجات موجودة على موقعها ظهرت فيها رموز النازية والتفوق الأبيض بعد بلاغات تلقتها من مجموعات نشطة لمكافحة ذلك المحتوى، وقالت الشركة إنها أزالت المنتجات التي “انتهكت سياستها ضد قوائم المنتجات التي تروِّج للكراهية أو العنف أو التمييز”.

ويمكن القول إن ما هو على المحك هنا هو سمعة العلامة التجارية لشركات التكنولوجيا، حيث أدت الأسئلة المتعلقة بخصوصية البيانات، وقضايا مثل الانتقام الإباحي، والمعلومات المضللة الصارخة، والتهديدات الصريحة إلى تحفيز مجموعة متنوعة من القواعد والقوانين للحد من حرية التعبير غير المحدودة من خلال المنصات الرقمية.

ولا شك أن الإجابات عن هذه الأسئلة لها عواقب حقيقية في أسعار الأسهم، ونشاط الموظفين، وتوظيف القوى العاملة في المستقبل، بالإضافة إلى الدعاوى القضائية واللوائح الحكومية غير المرغوب فيها التي قد تواجهها المنصات، فضلًا عن إلغاء اشتراكات المستخدمين.

وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول بأن نظرية المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام تنبع من التزام أخلاقي يحقق التوازن بين حرية الإعلام والحفاظ على مصلحة المجتمع واستقراره ودعم كل جهد يصب في تنميته ورخائه، لكن لا تزال هناك حاجة لمزيد من الجهود البحثية لتأطير تلك النظرية في سياق وسائل الإعلام الجديدة، حيث إن الانفتاح التكنولوجي وقلة الضوابط على المحتوى الذي يبث في الفضاء الرقمي يحتِّمان السعي نحو ترسيخ مبادئ نظرية المسؤولية المجتمعية، ليس فقط من خلال شركات مواقع التواصل الاجتماعي ولكن عبر غرسها في ثقافة مستخدمي تلك المنصات.

زر الذهاب إلى الأعلى