شكَّل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثالث عشر من أغسطس الجاري، عن اتفاقٍ للسلام بين الإمارات وإسرائيل، تبدأ بموجبه الدولتان في تدشين علاقات رسمية، تغييرًا تاريخيًّا في الشرق الأوسط، يمهد لمرحلة سياسية جديدة أكثر واقعية في رسم السياسات وتحديد آليات تنفيذها فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، بعد أكثر من 70 عامًا تواصل فيها نزيف الدم الفلسطيني في مواجهات مع إسرائيل وابتلاع الأرض عبر الاستيطان، ممَّا أضفى مزيدًا من التعقيد على فرص التسوية.
وبمنظور التاريخ، لا تعكس الخطوة الإماراتية سابقةً أولى من نوعها في مسار العلاقات العربية الإسرائيلية، فهي ثالث بلد عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع تل أبيب، ورغم أنها أول دولة خليجية تدشن تلك العلاقات، فإن دولًا خليجية أخرى مثل قطر وسلطنة عمان ارتبطت منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بعلاقات تجارية واقتصادية مع إسرائيل اتخذت شكلًا مؤسسيًّا عبر افتتاح مكاتب تمثيل تجاري، لكنها لم ترق إلى مستوى العلاقات الكاملة.
واستطاعت الإمارات من خلال ذلك الاتفاق انتزاع التزام إسرائيلي واضح بوقف فوري لخطة ضم المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وهو مكسب كبير حققته الدبلوماسية الإماراتية يحافظ على قابلية حل الدولتين الذي تقره جامعة الدول العربية وقرارات مجلس الأمن الدولي، فالمضيُّ قُدُمًا في خطة الضم كان يعني موت حل الدولتين والقضاء تمامًا على جوهر الدولة الفلسطينية، وفي المقابل فإن ذلك الاتفاق التاريخي يشكل أهمية لدى إسرائيل على صعيد إنهاء عزلتها الإقليمية ويفتح المجال أمام إبرام اتفاقات مماثلة.
تطوُّر اتفاقيات السلام بين العرب وإسرائيل
ارتبطت كل الاتفاقيات التي أبرمت بين الدول العربية وإسرائيل بتحقيق مكاسب للطرفين وكانت الرعاية الأمريكية قاسمًا مشتركًا فيها، والبداية كانت في 26 مارس عام 1979 عبر توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في واشنطن، لتصبح مصر أول دولة في المنطقة توقع اتفاق سلام مع تل أبيب، وبموجبها استعادت القاهرة شبه جزيرة سيناء في 1982 وتم تفكيك المستوطنات الإسرائيلية التي كانت مقامة عليها، لكن موقف القاهرة قوبل برفض عربي واسع آنذاك أدخلها في قطيعة عربية تضمَّنت تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، إلى أن جرت في النهر مياه كثيرة، ووسط تطورات إقليمية وعربية ودولية عادت مصر إلى أحضان الجامعة وعاد مقر الأخيرة إلى القاهرة.
واللافت أن الطرف العربي الذي كان أسرع مَن سار على خطى مصر، هم الفلسطينيون أنفسهم الذين كانوا أشد المعارضين لعقد القاهرة معاهدة السلام مع تل أبيب، وكانوا عنصرًا رئيسيًّا فيما سمي بـ”جبهة الصمود والتصدي” (تضم ليبيا وسوريا والعراق والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) الرافضة للخطوة المصرية.
ووقعت منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل في واشنطن على “اتفاق أوسلو” عام 1993 والذي تضمن اعترافًا فلسطينيًّا بدولة إسرائيل مقابل ترتيبات للحكم الذاتي الفلسطيني ومسار زمنى تفاوضي من أجل السلام، بحسب صحيفة “واشنطن بوست”الأمريكية.
ووفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فقد فتحت إسرائيل بعد اتفاقيات أوسلو مكاتب مصالح دبلوماسية وتجارية في قطر وعمان والمغرب وتونس، ثم أصبح الأردن ثاني دولة عربية تعترف بإسرائيل، من خلال توقيع معاهدة السلام في وادي عربة في 26 أكتوبر عام 1994، وبموجب الاتفاقية حصل الأردن على ثلاثة أرباع نهر اليرموك علاوة على التعاون الاقتصادي والأمني.
قراءة في أبعاد الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي
يعد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي اختراقًا جديدًا في تاريخ العلاقات الإسرائيلية العربية، كما يمثل قبلة الحياة لحل الدولتين بعد أن مات هذا الحل عمليًّا مع خطط الضم التي أعلنتها إسرائيل، لأن ضم تل أبيب 30% من الضفة الغربية خاصة في غور الأردن وشمال البحر الميت ينهي عمليًّا حل الدولتين، ومن هذا المنطلق حمل الاتفاق العديد من الدلالات، من أبرزها:
يشكل الاتفاق أداة ضغط دبلوماسية قوية على إسرائيل حيث يقضى على مزاعم طالما روَّجت لها تل أبيب على الصعيد الدولي بأنها تحيا وسط محيط عدائي، فضلًا عن أنه يلقي بالكرة في ملعب إسرائيل أمام المجتمع الدولي، ويسقط الادعاءات الإسرائيلية بعدم استعداد العرب للسلام، ولا شك أن الترحيب الدولي من جانب الأمم المتحدة والدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا مؤشرٌ على المكاسب الدبلوماسية للجانب العربي، والذي قابل الخطوة الإماراتية بترحيب عكسته بيانات رسمية من مصر والأردن والبحرين وسلطنة عمان.
يعزِّز الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي من استقرار الأردن، نظرًا لأن خطة الضم تمس الأردن وكيانه ومستقبله، فقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية لا يخدم فقط الفلسطينيين وإنما يشكل خَطَّ دفاعٍ أولَ عن أمن الأردن وهويته، كما أنه وسيلة لإنهاء مخططات بعض اليمينيين الإسرائيليين لتحويل الصراع من فلسطيني- إسرائيلي إلى إسرائيلي- أردني، كما أن تنفيذ الضم يترك الأردن وحيدًا في التعامل مع ملف اللاجئين الفلسطينيين الذين يقدر عددهم بنحو 4.4 مليون لاجئ، وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني والجاليات الفلسطينية في العالم.
يمثل الاتفاق تحدِّيًا للداخل الإسرائيلي المقبل على انتخابات برلمانية مبكرة في نوفمبر، فخطة الضم تشكل عنصرًا مؤثرًا في البرامج الانتخابية لليمين المتطرف وقاعدته الانتخابية من المستوطنين، ممَّا قد يؤثر على فرص ذلك التيار في الانتخابات ويمهد الطريق لحكومة جديدة أكثر استعدادًا للسلام ومتطلباته بعكس التيار اليميني المتشدد.
وبذلك يعكس الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي نظرة واقعية للتطورات على الساحة السياسية الإقليمية والدولية والتطورات الميدانية.
الرفض الفلسطيني استمرار للدوران في الحلقة المفرغة
تُظهر ردود الأفعال الفلسطينية الرافضة للاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أن التاريخ يعيد نفسه، فما أشبه الليلة بالبارحة، فما فعله الفلسطينيون مع مصر إبَّان توقيعها لمعاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، يتكرر حاليًّا مع الإمارات، إذ سارعت القيادة الفلسطينية بإبداء رفضها الشديد للاتفاق وقامت باستدعاء سفيرها لدى الإمارات.
وكالعادة لم يقترن ذلك الرفض من جانب السلطة الفلسطينية وباقي الفصائل بطرح بدائل واقعية تعمل على تحسين الوضع التفاوضي للفلسطينيين الذي يزداد سوءًا بفعل الانقسام الفلسطيني والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
لقد أضر التمزق والانقسام الفلسطيني على مدى الـ14 عامًا الماضية بالقضية الفلسطينية والموقف التفاوضي، وسمح بتمدد أدوار أطراف إقليمية، الأمر الذي فاقم من حدة تلك الخلافات وجعل الإرادة الفلسطينية مرتهنة برعاة إقليميين، يرسمون التحركات وحدودها وفقًا لمصالحهم لا لمصلحة القضية الفلسطينية، وهو ما تجسَّد بوضوح في حركة حماس، التي مثلت بوابة للنفوذ القطري والإيراني والتركي، إذ يبرز التمويل القطري لقطاع غزة الخاضع لسيطرة حماس، والترابط الأيديولوجي بين حماس وأنقرة حيث انتماء الحركة والقيادة التركية إلى جماعة الإخوان، وكذلك نفوذ طهران الذي أكده إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في تصريحٍ خلال فاعليات ما يسمى بيوم القدس العالمي في مايو الماضي، وصف فيها “إيران” بأنها أكبر داعم بالمال والسلاح للمقاومة الفلسطينية.
ويعكس ذلك الاختراق الإقليمي للساحة الداخلية الفلسطينية أن محددات صنع القرار الفلسطيني لم تعد تعتمد على بوصلة المصلحة الوطنية للفلسطينيين وأهداف خدمة القضية العادلة والحق المشروع للشعب الفلسطيني، ولكن باتت القضية الفلسطينية مجرد ورقة مساومة في يد أطراف إقليمية تناور بها لخدمة أهدافها الذاتية تحت غطاءٍ من الشعارات المتاجرة بالدين والمزايدات على الدول العربية في إطار تنافس على الدور الإقليمي أو الزعامة في المنطقة.
المزايدات التركية القطرية على الموقف الإماراتي
ومن هذا المنطلق كان من المتوقع أن يقابل الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي برفض وانتقادات من جانب إيران وتركيا، وتوظيف حليفتهما قطر لأدواتها الإعلامية لشن هجومٍ ضارٍ ضد الاتفاق وتصدير صورة مخالفة للواقع تهدف فقط إلى دغدغة مشاعر الجماهير واللعب على وتر العاطفة في قضايا لا تحتمل إلا إعمال العقل وانتهاج مقاربة واقعية عبر تقييم موضوعي للواقع الراهن وفرص تحقيق أكبر قدر من الاستفادة وتجنب المزيد من التدهور الذي قد يقضي على أي أُفق لقيام دولة فلسطينية.
كما تتجاهل تلك الحملات الممنهجة ضد الخطوة الإماراتية، تناقضات تعكسها علاقة كل من تركيا وقطر مع إسرائيل، فبالنسبة للأولى، يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دومًا إلى القفز على كل تطور في الإقليم واستغلاله من منظور أيديولوجي، وفي كل مرة تثير تلك المساعي قدرًا أكبر من التناقضات عن سابقتها، فقد خرج أردوغان ملوِّحًا بسحب السفير التركي لدى “أبو ظبي” تعبيرًا عن رفضه للاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي، في وقت لم ينبس ببنت شَفَةٍ عن أي إجراء على صعيد العلاقات التركية الإسرائيلية التي إن شابَهَا ظاهريًّا بعض التوترات عبر تصريحات حادة لأردوغان، لكن ما زالت تحتفظ بدفئها، وهو ما عبَّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في فبراير الماضي بتصريحٍ يسخر فيه من أردوغان وازدواجية موقفه من إسرائيل، قائلا: “يسميني هتلر، لكن التجارة بيننا تتنامى!”.
وعلى نفس المنوال، يأتي الموقف القطري الرافض والمنتقد للاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي في إطار توظيف سياسي بحت للحدث، تمثل في هجوم رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم على الاتفاق وعقد مقارنة غير منطقية بينه وبين مشاركة الإمارات مع باقي دول الرباعي العربي (السعودية والبحرين ومصر) في مقاطعة الدوحة، متجاهلًا عن عمد حقيقة أن “قطر” كانت أول دولة خليجية تمد جسورًا للتعاون مع إسرائيل عبر مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة عام 1996، كما أن ذراعها التحريضية، قناة الجزيرة، هي من أدخلت الإسرائيليين إلى “بيوت العرب” عبر استضافتهم في التغطيات الإخبارية، تحت مظلة شعارها الزائف “الرأي والرأي الآخر”.
وأخيرًا.. إن دعم الدول العربية لفلسطين وحقوق شعبها أكبر من أي محاولة للمزايدة من هنا أو هناك، فقد قدمت الدول العربية، عبر سنوات طويلة، ولا تزال، تضحياتٍ في سبيل القضية الفلسطينية.
وتأتي في صدارة تلك الجهود المملكة العربية السعودية، حيث تتصدر القضية الفلسطينية أولويات السياسة الخارجية للمملكة، وطرحت المملكة مبادرات للتسوية مثل مبادرة فاس عام 1982 ومبادرة السلام العربية عام 2002، فضلًا عن دعم مالي سخيٍّ، وتشهد بيانات الميزانية الفلسطينية للربع الأول للعام المالي الحالي 2020 بذلك، إذ شكل الدعم السعودي البالغ 30.5 مليون دولار 43.4% من إجمالي المنح الخارجية الفعلية التي تلقَّتْها الحكومة الفلسطينية والبالغة 70.2 مليون دولار.
ويبقى قرار الإمارات بتدشين علاقات مع إسرائيل حقًّا سياديًّا لها كدولة، رأت أنه خطوة تنقذ عملية السلام من مخطط الضم الذي ينذر بعواقب كارثية حيث يحطم أي آمال معقودة على السلام وينسف حل الدولتين، كما أن ذلك الاتفاق وما يحققه من مكسب للفلسطينيين قد يكون نموذجًا لاتفاقات عربية مماثلة مع إسرائيل تكون مصحوبة بانتزاع مزيد من المكاسب التي تصب في مصلحة فلسطين ومساعي السلام القائم على تسوية عادلة.