أحدثت تقنيات الهواتف الذكية وكثافة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر وغيرها من المنصات الاجتماعية، تغييرات في الطرق التي يتعامل بها الجمهور مع المشاهير، إذ وفَّرت إمكانية تحقيق اتصال فعلي بالمشاهير، بعبارة أخرى تم الانتقال من علاقة وهمية متصوَّرة إلى “إمكانية التفاعل”، وإن كان تفاعلًا في فضاء افتراضي.
وعلى الجانب الآخر، استخدم المشاهير وجودهم على وسائل التواصل الاجتماعي في مجالات الدعاية والإعلان، فأصبحت حساباتهم على منصات التواصل مصدرًا لتحقيق الربح، كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة جديدة تمثلت في المشاهير الصغار أو المؤثرين الصغار، وهي ظاهرة تنطوي على قدر كبير من الخطورة بالنظر إلى افتقاد الكثير من هؤلاء للمقومات الثقافية والمعرفية اللازمة للتصدي لما يطرحونه من محتوى، أو بسبب انحرافهم عن منظومة القيم والتقاليد في المجتمع.
التفاعل الاجتماعي الافتراضي والعلاقات أحادية الجانب
وفي كتابه المعنون «المشاهير والروابط الاجتماعية الوسيطة.. الجماهير والأصدقاء والمتابعون في العصر الرقمي» يرسم الدكتور نيل إلبريستين، أستاذ الإعلام بجامعة لويولا بولاية ميريلاند الأمريكية المسار الذي يسلكه الجمهور أثناء ممارسته للحياة اليومية من خلال التفاعل أحيانًا مع المشاهير والمشاهير الصغار والأصدقاء والمتابعين الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولإيضاح تأثير المشاهير والشخصيات الدرامية على الجمهور، أورد الكاتب مثالًا يبدو متطرِّفا نوعًا ما، وهو لمواطن أمريكي يدعى جوناثان ميتز تعرَّض لإصابة بالغة في ذراعه اليسرى أثناء محاولته إصلاح فرن، وسأل ميتز نفسه: “ماذا سيفعل ماكا جيفر (بطل لمسلسل مغامرات أمريكي) لو كان في نفس الظروف؟، وبعد تفكير اتخذ ميتز قرار بتر ذراعه.
ويوضح الكاتب أنه عندما استدعى ميتز في ذهنه شخصية ماكا جيفر كان يستدعي شخصية غير واقعية من أجل اتخاذ قرار مصيري يغيِّر من مجرى حياته، لافتًا إلى أن هذا المثال يوضح الدور المهم الذي يؤديه المشاهير والشخصيات الدرامية في المجتمع المعاصر، وذلك على غرار الطرق التي قد توجه بها الأرواح أعضاء المجتمعات التقليدية.
ويشير الكاتب إلى أن المشاهير لا يقومون بإرشادنا لاتخاذ قرارات مهمة فحسب، بل يعتبرون قدوة، وأصدقاء مفضلين، وتكون لهم مكانة مثل الآباء والأمهات أو الإخوة، وخلص إلى أن الجمهور على هذا النحو يشكل علاقات اجتماعية مع أشخاص لا يعرفهم في الواقع.
ويوضح الكتاب أن مثل هذه العلاقات الناجمة عن استهلاك وسائل الإعلام، قد تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة، ويمكن أن تستمر المشاعر العميقة التي قد تتطوَّر في كثير من الأحيان لعقود طويلة وربما مدى الحياة.
وذكر الكاتب أن فكرة إقامة علاقة اجتماعية مع شخصية مشهورة وإدارتها، نشأت من فكرة “التفاعل الاجتماعي الشبهي (الافتراضي)-ParaSocial Interaction” التي طرحها عَالِمَا الاجتماع الأمريكيان دونالد هورتون وريتشارد وول، في ورقة بحثية بعنوان “الاتصال الجماهيري والتفاعل الاجتماعي الشبهي” عام 1956، وهي نوع من العلاقة النفسية التي يعيشها الجمهور في متابعتهم لوسائل الإعلام، وخاصة على شاشات التليفزيون، حيث ينظر المشاهدون إلى الشخصيات الإعلامية كأصدقاء كما لو كانوا منخرطين في علاقة متبادلة معهم.
وحول مدى تأثير تلك الحالة التفاعلية الافتراضية، يشير الكاتب إلى ما ذكره تشارلز فيرنيهو، عالم النفس بجامعة دورهام مؤلف كتاب “الأصوات الداخلية”، من أنه في بعض الأحيان يمكن لشخصية مشهورة أن “تدخل داخل رؤوسنا” وتتحدث إلينا في حوار داخلي.
كما استشهد الكاتب بما كتبه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون عن قدرة المغنية ومقدمة البرامج الإذاعية، كيت سميث، على جمع عشرات الملايين من الدولارات لدعم الجهود الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، استنادًا إلى قدرتها على الإقناع الناتج عن تماهي الجمهور معها.
ويشير الكاتب إلى أنه عندما أدرك المنتجون التليفزيونيون أن الجماهير تطوِّر روابط عاطفية مع الفنانين، تم تشجيع الفنانين على أداء شخصيات تحمل سمات تقربهم من الجمهور.
كما يلفت الكاتب إلى قيام عالم الأنثروبولوجيا جون كوجي، في الثمانينيات من القرن الماضي، بصياغة مصطلح العلاقات الاجتماعية الخيالية، التي وصفها بأنها علاقات أحادية الجانب يعرف فيها الفرد قدرًا كبيرًا عن الشخصية المشهورة، ولكنها علاقات ليست متبادلة.
ومثل العديد من علماء الأنثروبولوجيا، أمضى كوجي وقتًا في دراسة الثقافات البعيدة: فقد أمضى وقتًا في دراسة ثقافات سكان جزر المحيط الهادئ وشمال باكستان. ومن بين الأشياء التي أدركها التقدير العالي الذي تكنُّه تلك الثقافات غير الغربية للخيال والتخيلات وتدفق الوعي والأحلام الليلية.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، ظهرت القدرة على التواصل مع الأصدقاء الحاليين والسابقين والمعارف أو الأفراد ذوي التفكير المماثل والشخصيات المشهورة من خلال فيسبوك وتويتر.
وتطرَّق الكاتب إلى مناقشة عدد من التغييرات التي طرأت على ثلاثة مفاهيم وهي المكان والخيال والتواصل الاجتماعي. فبالنسبة للمكان، كان هناك وقت فيه استهلاك وسائل الإعلام مرتبطًا بالموقع، فمثلًا إذا أراد المرء أن يشاهد فيلمًا، فعليه ارتياد دور العرض السينمائي، وإذا رغب في مشاهدة التلفاز فعليه الوجود في غرفة، حيث يوجد بها التلفاز، لكن في وجود وسائل الإعلام الرقمية والتقنيات ذات الصلة بها، لم يعد الجمهور متقيدًا بالوجود في مكان محدد لتتم عملية الاتصال مع المشاهير، فيكفي توافر اتصال بالإنترنت وامتلاك هاتفي ذكي.
أمَّا عن الخيال فيمكن أن يكون الفرد حاضرًا بجسده في مكان ولكن عقله في مكان آخر في نفس الوقت.
وفيما يخص التواصل الاجتماعي، فبناءً على الروابط الاجتماعية الوسيطة التي نجريها مع الآخرين، فإن البعض منهم نعرفه مثل الأصدقاء والزملاء والأقارب، لكن البعض الآخر نعرف عنه مثل المشاهير.
يطرح الكاتب مصطلح المشاهير بشكل أكثر شمولًا، بحيث ينضوي تحته رموز في الساحة الإعلامية مثل الرياضيين والمطربين والممثلين أو حتى الشخصيات الدرامية التي يجسدونها أيضًا، والصحفيين والإعلاميين وكذلك الشخصيات التي يبرز ظهورها في محتوى الأخبار مثل المتحدث الرسمي باسم شركة أو جهة ما، والشخصيات الخبرية التي تكون محورًا لخبر أو حدثٍ ما.
كما يشير في الوقت ذاته إلى أن هناك نمطًا من المشاهير لا يظهرون موهبة معينة ولكنهم أصبحوا جديرين بالملاحظة لأسباب أخرى، وهنا تبرز أهمية تضمين المشاهير الصغار، أي الأفراد الذين هم أشخاص عاديون، ولكنهم يقومون بأشياء غير عادية ويقومون بتوثيقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويوضح الكاتب أنه في الماضي كان المشاهير يسعون لتسليط الأضواء عليهم من خلال الظهور في وسائل الإعلام التقليدية -التليفزيون والصحف والمجلات-، بما سمح للعلاقات مع المشاهير بالانتشار لتصبح جزءًا من حياة الناس اليومية، فهم مادة للنميمة فضلًا عن استخدامات أخرى لهم في مجرى الحياة اليومية، لكن في عصر الوسائط الرقمية تغيَّر الوضع تمامًا، فقد بات المعجبون يسعون إلى التواصل مع المشاهير مثلًا من خلال الرسائل المباشرة على إنستغرام.
ومع تطوُّر الإنترنت قبل 30 عامًا إلى جانب ظهور ثقافة تشاركية في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، اكتسب الأفراد القدرة على إنشاء المحتوى الخاص بهم الذي يوفر إمكانية الاتصال المباشر مع المشاهير أو ربما حتى يصبح هؤلاء الأفراد من المشاهير، مثل بعض نجوم إنستغرام ويوتيوب.
ويرى الكاتب أن أي شخص يتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي يكون تعامله معها مماثلًا لما يفعله المشاهير أو على الأقل مشابهًا لهم.
طبيعة العلاقة التفاعلية بين المشاهير والجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي
يذكر الكاتب أن بعض المشاهير لا يتابعون المعجبين على الإطلاق، بينما يتابع البعض الآخر ربما مئات الآلاف من المعجبين، ومن الطبيعي ألا يكون لدى الشخصية المشهورة التي تحظى بمتابعة ملايين الأشخاص ما يكفي من الوقت للرد مباشرة على المعجبين، لذا فالعديد من المشاهير يوظِّفون أفرادًا وشركات لإدارة حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
من جهة أخرى، يشير الكاتب إلى أنه لجذب انتباه شخصية مشهورة من جانب شخص عادي من الجماهير يجب أن يكون الأخير بارعًا أو مسيئًا بشكل فاحش لجذب انتباه أو غضب أحد المشاهير، فضلًا عن اختيار اللحظة المناسبة لتمرير الرسالة وليكن مثلًا عبر تَرْكِها في تعليق على آخر نشاط بحساب الشخصية المشهورة.
ويخلص الكاتب إلى وجود “إمكانية للتفاعل” الذي يغذي الاتصال الاجتماعي بين الجمهور والمشاهير، لافتًا إلى عدم وجود صيغة واحدة لاستخدام المشاهير لحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يعني أن المشاهير قد لا يكونون يتفاعلون مع الجمهور أو على الأرجح لن يتفاعلوا على الإطلاق، وهناك أيضًا احتمال بأن يتفاعلوا مع الجمهور من خلال نوعٍ ما من الرسائل المباشرة.
في المقابل، يشير الكاتب إلى أنه نظرًا لأن المشاهير الصغار غالبًا هم من يديرون حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فهم الذين يقومون بالتفاعل مع الجماهير وليس موظفين، ويعني هذا في رأيه تقلُّص “زيف” وسائل التواصل الاجتماعي وتعزيز مشاعر التقارب بين الجمهور والمشاهير الصغار، لكنه يبقى عالمًا مصطنعًا تم بناؤه من خلال أداء مفتعل وغير مباشر في معظم الحالات.
ويخلص الكاتب إلى أنه رغم وجود “إمكانية للتفاعل” بين المشاهير والجمهور، فإنه من المستبعَد أن يكون تفاعلًا مباشرًا.
وللمزيد من المصداقية يرى الكاتب أن وسائل التواصل الاجتماعي تتطلب مستوى أعلى من الموثوقية بشأن التفاعلات التي تحمل إمكانية الاتصال الفعلي، ولا شك أن الوضع الراهن على منصات التواصل الاجتماعي يوسع مفهوم “العلاقة الاجتماعية الخيالية”.
وعرض الكاتب مؤشرات حول صدق التفاعل من جانب الجمهور ومنها الترابط، ويعني كون الفرد جزءًا من مجتمع يضم أشخاصًا آخرين لهم نفس التفكير، وتوضح الطبيعة الجماعية لمجتمع الجمهور ما يسمى بـ”المجتمع المتخيَّل”.
وتعد المبادئ الأخلاقية أيضًا من بين المؤشرات والمقصود بها أنها فعل يتطابق مع مجموعة القِيَم التي يعتنقها المرء، ويمكن ملاحظة ذلك مرارًا وتكرارًا عندما يتخذ الجمهور موقفًا منتقدًا فيما يتعلق بما قد يرونه سلوكًا غير أخلاقي لأحد المشاهير، فالجمهور أحيانًا يحط من قدر المشاهير عندما يتجاوزون خطًّا أخلاقيًّا أو معنويًّا، مثل الترويج لشيءٍ ما من أجل مكاسب مادية أو مصالح تجارية.
ووجد الكاتب أيضًا أن هناك فرصة للجمهور للترويج ونشر المعاني التي يجدونها في منشورات المشاهير على الإنترنت، أو تعديل تلك المعاني من خلال الميمات (عنصر أو وحدة الثقافة، والتي قد تكون فكرة أو سلوكًا أو ممارسة أو عادة أو أي أسلوب ثقافي آخر)، أو تغيير تلك المعاني خلال مشاركتها في عالم الوسائط الرقمية.
وخلص الكاتب إلى أن هذا يحدث في سياق تحوُّلٍ في فهم الواقع، فالوسائط الرقمية تعزز واقعًا وسيطًا يمتد من الواقع الحقيقي مرورًا بشبه الواقعي وصولًا إلى غير الواقعي، لافتًا إلى أن الوسائط الرقمية أحدثت تغييرات في الخيال لدرجة أن التصورات لما هو حقيقي وغير حقيقي قد تغيَّرت.
ويلفت الكاتب إلى أنه في الحالة التي يخوض فيها المشاهير حربًا على وسائل التواصل الاجتماعي يراها الجميع، يمكن للجمهور أن يجري نقاشًا موازيًا حول تلك الحرب ولكنه ليس تفاعلًا مباشرًا مع المشاهير، ضاربًا مثالًا بالحرب بين المغنية الأمريكية تايلور سويفت والمغني الأمريكي كاني ويست ضد بعضهما على موقع تويتر.
ويعتبر الكاتب أن هذا النقاش الموازي شكل غريب من أشكال الانتماء، وهذا الانتماء ربما يخلق وَهْم الاتصال.
كما يرى الكاتب أن الوحدة ومشاعر الاغتراب قد تكون بالفعل من الدوافع الرئيسية لانخراط الجمهور في علاقات اجتماعية متخيَّلة مع المشاهير، وتوفر بيئة الوسائط الرقمية مجالًا اجتماعيًّا مفيدًا للأفراد للتشبُّث بشدة بالمشاهير، حيث تتمتع وسائل التواصل الاجتماعي بقدرة فريدة على نقل الشعور بالترابط عندما يُنظر إلى الاتصال على أنه موثوق.
ويؤكد الكاتب أن الاتصال الاجتماعي الوسيط هو مجرد ارتباط متجذِّر في الخيال لا يقوم على العقل أو العقلانية أو الحقيقة الموضوعية، لذلك فإن رغبة فرد من الجمهور في تحقيق قفزة تتجاوز العقل تدل على احتمالية أن يسعى إلى الانتماء أو التقارب أو التماهي مع المشاهير.
استخدام المشاهير لمنصات التواصل الاجتماعي كوسيلة للإعلان والترويج لمنتجات
دور المشاهير في تسويق المنتجات بصفة عامة والمنتجات ذات العلامات التجارية الخاصة بهم من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام وسناب شات، كان من أبرز القضايا التي تناولها الكاتب، إذ أوضح أن المشاهير يقومون بالتواصل مع معجبيهم من أجل الترويج لشراء منتجات أو الحصول على خدمات معينة، مشيرًا إلى نجمة تليفزيون الواقع الأمريكية كيم كاردشيان، والمطربة الأمريكية ليدي غاغا، ومغني البوب الكندي جاستن بيبر كنماذج لمشاهير يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة إعلانية وترويجية.
ويتيح شراء تلك السلع أو الخدمات التي يروِّج لها المشاهير الفرصة للجماهير بتعريف أنفسهم كمعجبين، وصياغة هوية تستند إلى المواقف والقيم التي يضعها المشاهير.
كما تناول الكاتب بنظرة ناقدة ظاهرة “المشاهير الصغار- micro-celebrities” التي عززتها ثقافة “الويب 2.0” (مجموعة من التقنيات الجديدة والتطبيقات الشبكية التي أدت إلى تغيير سلوك الشبكة العالمية إنترنت) التي تشجع المستخدمين على إنشاء المحتوى.
ومن أمثلة ذلك مدوِّنو الفيديو عن السفر، الذين اكتسبوا قاعدة جماهيرية كبيرة تساعد في دعم مغامراتهم، مشيرًا إلى أن هؤلاء المدونين يصبحون عالقين بين الأمانة والإخلاص المطلوبَيْن منهم وعالم التجارة الذي يسمح لهم بمواصلة مغامراتهم.
وانتقل الكاتب من عالم المشاهير الصغار إلى الدور الذي يلعبه المشاهير الحقيقيون في عالم الإعلان المباشر للمستهلكين عن العقاقير الطبية بوصفه الشكل الأسرع نموًّا للإعلان، حيث تجاوز حجم الإنفاق عليه 6 مليارات دولار في عام 2016.
ويلعب المشاهير دورًا رئيسيًّا في الترويج للأدوية، بما في ذلك الممثلون والممثلات والشخصيات الرياضية والسياسية، فيتحولون إلى وجه دعائي لشركات الأدوية إلا أن ذلك لا يخلو من مخالفات يرتكبها بعضهم في تلك الدعاية، ومن أبرزها قيام كيم كاردشيان بالترويج لعقار عبر صورة على حسابها بموقع فيسبوك وإنستغرام مع الادعاء بأنه لا يتضمن آثارًا جانبية وإخفاء أضراره، ممَّا أدى إلى تحرُّكٍ من قِبَل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، وصحيح أن “كيم” قامت بحذف الصورة في النهاية إلا أن ذلك جاء بعدما حصل العقار على دعاية هائلة، إذ قدرت شركات تسويق أن النقاشات حول العقار عبر الإنترنت زادت بنسبة 500% بعد أن أصبحت كيم كاردشيان وجهًا لتلك العلامة التجارية كما وجد أن 29% من المناقشات جاءت تربط بين اسم العقار وكاردشيان، وأن العقار كان موضوعًا للنقاش بمعدل 3 أضعاف العقار المنافس له.
ويشير الكاتب إلى أن تحليل التكلفة مقابل مدى الوصول يكشف عن أن المشاهير من الدرجة الأولى قد لا يكونون الطريقة الأكثر فاعلية للإنفاق الإعلاني، حيث توجد مستويات أخرى من المؤثرين المشاهير الذين قد يحققون مستويات أعلى من المشاركة، بما في ذلك “المؤثرون الصغارmicro-influencers “،
و”النانو مؤثرين- nano-influencers “على منصات التواصل الاجتماعي.
ويلفت الكاتب إلى أنه في عام 2001 كانت الباحثة لإعلامية تيريزا سينفت تجري دراسة عن “فتيات الكاميرات-camgirls” اللاتي استخدمن تقنيات الإعلام الحديثة مثل الفيديو والمدوَّنات، من أجل الترويج لأنفسهن لدى الجمهور عبر الإنترنت، حيث خلصت سينفت إلى أن جميع التغييرات التي حدثت منذ ظهور الإنترنت تجذِّر عملية تطوير العلامة التجارية الذاتية.
واعتبر الكاتب أن عام 2007 شكَّل لحظة فارقة بالنسبة للوسائط الرقمية، مشيرًا إلى أنه بينما كانت التطورات التكنولوجية، مثل الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها كانت بمثابة نقلة ثورية فإنها أدت أيضًا إلى تغييرات كبيرة في طرق استخدامها من قِبَل الأشخاص.
وتطرَّق الكاتب إلى أن تلك المنصات قد حققت الشهرة الفورية إلى بعض الأشخاص، ومن هؤلاء على سبيل المثال آدم نيريري باهنر، المعروف باسم مستعار تاي زوندي، فقد بدأت شهرته مع مقطع فيديو عام 2007 يؤدي فيه أغنية قام بتأليفها وبعد أن سخر منه مشاهير، حقق مقطع الفيديو أكثر من 116 مليون مشاهدة.
الأمر ذاته، بحسب الكاتب، تكرر مع مغنية البوب الأمريكية، ريبيكا بلاك التي اشتهرت بعد أغنية قدمتها عام 2011 والتي انتقدها البعض ووصفها بأنها أسوأ الأغاني، ولكن تحقق للأغنية انتشار واسع وحصدت أكثر من 118 مليون مشاهدة منذ ظهورها لأول مرة على يوتيوب في عام 2011.
وسائل التواصل الاجتماعي.. أداة حشد للحركات الاجتماعية والسياسية
كما سلَّط الكتاب الضوء أيضًا على الحركات الاجتماعية والسياسية المعاصرة التي تغذيها وسائل الإعلام الرقمية، مشيرًا إلى أن تطور الوسائط الرقمية والوتيرة السريعة التي انتشرت بها ترافقت مع تحولات اجتماعية وثقافية تؤثر على الطرق التي يتواصل بها الأفراد مع بعضهم واصطفافهم في حركات اجتماعية.
وتطرَّق إلى الدور الذي يلعبه المشاهير والأفراد العاديون عندما يتم دفعهم إلى مقدمة حركة اجتماعية أو سياسية، لافتًا أيضًا إلى الطبيعة المفرطة للمشاركة في عملية الترويج للأحداث والقضايا على منصات التواصل الاجتماعي وعملية الاتصال بين العقل والتكنولوجيا التي تفرز “وعيًا عامًّا افتراضيًّا”.
ويوضح الكتاب أن المقصود بـ”الوعي الجمعي الافتراضي” اندماج أفكار ومعتقدات الفرد المعبِّر عنها على وسائل التواصل الاجتماعي مع أفكار ومعتقدات الآخرين، أي باختصار يشكلون وعيًا عامًّا، حيث يصبح العالم الداخلي للفرد جزءًا من شبكة، أي يصبح عضوًا في كتلة أو حشد. ويتأثر هذا الوعي جزئيًّا بالروابط الاجتماعية مع المشاهير والأشخاص الآخرين الحاضرين والنشطين على الشبكة الاجتماعية.
وقد تعكس المجموعة الافتراضية شعورًا زائفًا بالوعي وتؤثر على الرأي العام، حيث تصبح ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي نموذجًا لـممارسة العلاقات الاجتماعية الفعلية.
ويشير الكاتب إلى أن الوسائط الرقمية تعمل كغرفة الصدى (أي تفاعل المستخدمين فقط مع المحتوى الذي يؤكد المعتقدات التي يؤمنون بها بالفعل)، لافتًا إلى أنه يتم تمثيل الوعي الجماعي الافتراضي في الوسائط الرقمية في شكل بيانات يمكن استخلاصها من خلال تحليل الشبكة الاجتماعية و”الشبكات العصبية الاصطناعية-artificial neural networks”، التي يتم تطويرها واستخدامها من أجل فهمٍ أفضل لكيفية تفكير الأشخاص حيال مواضيع وقضايا مختلفة، وقد تستخدم هذه البيانات من قِبَل الحكومات وغيرها من المنظمات للسيطرة على وحش وسائل التواصل الاجتماعي.
كما استعرض الكاتب حالاتٍ برزت فيها قوة الوعي العام الافتراضي من بينها حركة “أنا أيضًا” المناهضة للتحرش الجنسي، فضلًا عن دور وسائل التواصل الاجتماعي خلال موجة الاحتجاجات التي عرفت إعلاميًّا باسم “الربيع العربي”.
وفيما يتعلق بحركة “أنا أيضًا” يشير الكاتب إلى أنها انطلقت في نهاية عام 2017 على يد الممثلة الأمريكية أليسا ميلانو عبر نشر هاشتاق #MeToo، الذي تم نشره أكثر من مليون مرة مرفقًا بقصص عن حالات التحرش والاعتداء الجنسي في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى.
وسَرْعان ما انضم مشاهير آخرون إلى الحركة، في حين أن تلك الدعوة بدأت فعليًّا قبل 10 سنوات على يد الناشطة الحقوقية تارانا بيرك، التي اتهمت المشاهير بسرقة دعوتها لمكافحة التحرش.
ويوضح هذا المثال أن الحركات السياسية أو الاجتماعية يمكن أن تبدأ، ولكن انتشارها يستند إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
أمَّا عن موجة الاحتجاجات المعروفة إعلاميًّا باسم “الربيع العربي”، فيشير الكاتب إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تؤدى وظيفتين، هما نشر المعلومات والتواصل المباشر، وفي حالة الربيع العربي، ربما كان الدور الأساسي لوسائل التواصل الاجتماعي هو تأطير المناقشة.
ويشير الكاتب إلى أن دراسة تناولت دور البيانات على موقع تويتر خلال الربيع العربي، خلصت إلى وجوب توافر ثلاثة مكونات حتى تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على التغيير الاجتماعي.
ويتمثل المكون الأول في تأطير الموقف بطريقة يدرك الآخرون أهميته ويشاركونه، مع الاعتقاد بأنه يمكن فعل شيء حيال الموقف، بينما يفترض المكون الثاني سهولة وصول الأشخاص إلى مصادر البيانات عبر إتاحة أدوات مثل الهواتف الذكية، أمَّا عن المكون الثالث فيفترض إدراك الأشخاص أن الوضع يمكن تغييره من خلال العمل الجماعي.
وأخيرًا، سلط الكاتب الضوء على تنامي الانتقادات فيما يتعلق بتأثير الوسائط الرقمية على خيال المستخدم وبصفة عامة تأثير التقنيات الحديثة في الحياة اليومية، ولمواجهة ذلك تشكلت جماعات ضغط لمكافحة إدمان التكنولوجيا.
وترى تلك الجماعات أن منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية تستخدم وسائل تنافسية بشكل متزايد لتشجيع المستخدمين على البقاء على اتصالٍ بتلك المنصات، معتبرة أن هذا الاتصال ليس سوى جزء من المشكلة، حيث يوجد صراع بين التركيز على الشاشة والتحول إلى الداخل نحو الخيال، ويلفت الكاتب في هذا الإطار إلى أن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال رصدت ارتباطًا بين وقت الشاشة وتضاؤل مساحة الخيال والتساؤل لدى الأطفال.
قراءة نقدية للعلاقة بين الجمهور والمشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي
انطلاقًا من العرض السابق لأبرز الأفكار التي تضمَّنها الكتاب، يمكن رصد عدد من النقاط التي نرى أنها جديرة بمزيد من البحث والدراسة فيما يخص العلاقة بين الجمهور والمشاهير عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي كالتالي:
أولًا: العزلة عن المجتمع
إن الارتباط الوثيق بين الجمهور والمشاهير على مواقع التواصل قد يدفع الفرد إلى حالةٍ من العزلة عن محيطه الاجتماعي والاكتفاء بالحياة في ظل علاقة تخيُّليَّة تربطه بالشخصية المشهورة، مما يحول دون اندماجه داخل المجتمع الواقعي ويظل أسيرًا لعلاقات تخيلية.
ثانيًا: رفض الواقع وحقائقه المادية
متابعة المشاهير عبر المنصات التي تعتمد على المحتوى المرئي والصورة مثل يوتيوب وإنستغرام، والتعرض إلى نمط حياتهم الباذخة، قد يدفع الجمهور إلى حالة من السخط على الحياة أو الاندفاع وراء أي مسلك غير مشروع يحقق الثراء لمحاكاة نمط الحياة التي يعيشها نجمهم المفضل.
ثالثًا: السعي وراء شهرة التواصل الاجتماعي ضربة لقيمة العلم والعمل
إن إمكانية تحول الفرد العادي بين عشيَّة وضحاها إلى شخصية شهيرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحطم أسسًا رئيسية تقوم عليها المجتمعات، وفي مقدمتها العلم والعمل والإنتاج والاجتهاد كوسيلة للارتقاء بين الطبقات في المجتمع، فأصبح من الشائع لجوء الأفراد إلى تلك المنصات ومحاولة جذب انتباه أكبر عدد من المتابعين سعيًا وراء الربح.
واتصالًا بتلك النقطة، يمكننا القول بأن الاعتماد على معيار الكم من حيث حجم المتابعين للحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، في تحديد المشاهير وتصنيفهم هو معيار مخادع مقارنة بالحكم على المحتوى الذي يتم تقديمه، فغالبًا ما تحظى الدعوات التي تخالف قِيَمَ وأعرافَ المجتمع بإقبالٍ من جانب المستخدمين من باب الفضول أو تحظى بكثافة متابعة ليس للإشادة ولكن للنقد، مما يعني أن حجم المتابعة ليست بالضرورة انعكاسًا لمكانة جيدة لدى صاحب ذلك الحساب وتحوُّله إلى رمز إيجابي في المجتمع.
كما تبرز أيضًا هنا إشكالية فيما يتعلق بمدى امتلاك الشخصية المشهورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمقومات ثقافية وفكرية وعملية وخبرات حياتية من أجل توجيه الجمهور والتأثير في توجهاتهم وسلوكياتهم.
رابعًا: وقوع الجمهور فريسة للتضليل الإعلاني
يقع على عاتق المشاهير التزام أخلاقي تجاه الجمهور بحمايته من التضليل الإعلاني، وهو ما يجب أن يكون له غطاء قانوني ولوائح تنظيمية تلزم المشاهير بإيضاح طبيعة المحتوى الإعلاني عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كضمانة للشفافية وحماية الجمهور من أن يصبح فريسة لعمليات الغش والتضليل حول السلع والمنتجات التي يتم الترويج لها عبر تلك الحسابات.
خامسًا: الخلل في دوائر الانتماء لدى الجمهور
إن الانسياق الأعمى من جانب الفرد وراء الشخصية المشهورة قد يحدث خللًا في دوائر الانتماء لديه، سواء كانت الدائرة المجتمعية أو القيمية أو القومية، كما أن الدور الذي يلعبه المؤثرون والمشاهير في حشد الجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي هو سلاح ذو حدين، فقد يكون وسيلة فعَّالة لمواجهة ظواهر سلبية في المجتمع كالتحرش والتنمُّر وغيرها من السلوكيات المنحرفة، وقد يكون أيضًا عاملًا محفزًا على تنامي سلوكيات ضارة مثل التعصب ورفض الرأي الآخر.