تحظى المنطقة العربية بأهمية استراتيجية كبيرة على المستوى العالمي عبر كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والجيوسياسية، إذ تبلغ نسبة احتياطي النفط في الوطن العربي نحو 415 مليار برميل نفط تقريبًا، أي ما نسبته 65.7% من الاحتياطي العالمي من النفط الخام المقدرة بـ 724 مليارًا و500 مليون برميل نفط تقريبًا، ويقع جغرافيًّا في قلب العالم في أهم المناطق استراتيجيةً، ممتدًّا من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي ومن بحر العرب جنوبًا حتى تركيا والبحر الأبيض المتوسط شمالً.
وقد جعلت هذه الأبعاد من تلك المنطقة، مسرحًا للمشروعات والمحاور والأحلاف الإقليمية والدولية المختلفة، التي سعت وتسعى إلى التحكم في تفاعلاتها والاستفادة من إمكاناتها، ومحاولة رسم خريطة التوازنات السياسية فيها بما يحقق مصالح أطرافها.
أول خطة تحرُّك عربية رسمية شعبية للتصدِّي للأطماع الإيرانية والتركية
ووضعت العالمَ العربيَّ محطَّ أطماعٍ قوى إقليميةٌ، لم تنتهج مبدأ حسن الجوار، بل تسعى جاهدة لفرض أجندتها وتنفيذ مشروعها التوسُّعي الذي يتخذ من مُنطلَقاتٍ دينية طائفية غطاءً لأطماعها الاستعمارية ورغباتها الجامحة نحو السيطرة على ثروات الشعوب العربية، وهو ما تجسِّده سياسات إيران منذ ثورة الخميني عام 1979، فعلى مدى أكثر من 40 عامًا سعت طهرات -ولا تزال- لنشر الفوضى ودعم الإرهاب وإثارة النعرات الطائفية والاضطرابات في المنطقة.
كما سارت تركيا على ذات الدرب في عهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإن اختلفت مصالح ومرامي وأهداف وأدوات المشروع التركي التوسعي، فمع وصول حزبه العدالة والتنمية إلى سُدَّة الحكم في تركيا عام 2002، انتهجت أنقرة سياسة تقوم على التغلغل الناعم في الوطن العربي إلا أنه عام 2011 وما شهدته المنطقة من اضطراب واهتزاز بفعل الاحتجاجات الشعبية التي عُرفت باسم “الربيع العربي” أماطت اللثام عن الوجه الحقيقى لتركيا وعرَّت أطماعها مع تحولها من سياسة تصفير المشكلات مع الجوار إلى انتهاك لسيادة دول عربية واستخدام القوة العسكرية وصل إلى حد احتلال أجزاء من شمال سوريا وجهود لاستنساخ التجربة في ليبيا.
لم يكن صناع القرار والدوائر الدبلوماسية والأمنية في الدول العربية في غفلة عن تلك الأطماع التركية والإيرانية، فهناك رصد دقيق لمسارات تلك المشاريع التخريبية ووعي بخطورتها وجهد للتصدى لها وإفشالها بكل الوسائل، حفاظًا على الأمن القومي العربي.
وفي حلقة جديدة من تلك الجهود، جاء إقرار البرلمان العربي، في جلسته المنعقدة في 24 يونيو الجاري، للاستراتيجية العربية الموحدة للتعامل مع إيران، والاستراتيجية العربية الموحدة للتعامل مع تركيا.
وتوجد ملاحظات أساسية قبل تناول محتوى الاستراتيجية:
أولًا- جهة الإصدار: يعد البرلمان العربي المؤسسة المعبِّرة عن إرادة الشعوب العربية التي يجسدها ممثلوهم في البرلمانات الوطنية ومهمته البحث عن المصلحة العربية، ويعكس إقرار الاستراتيجيتين مدى حالة الغضب والرفض الشعبي المتنامي للممارسات التركية والإيرانية التخريبية في المنطقة، وهو رسالة واضحة بأن الشعوب العربية هى خط الدفاع الأول عن الوطن العربي، وهى رسالة يجب أن يتلقفها الشعبان التركي والإيراني للضغط على نظاميهما من أجل العدول عن تلك السياسات التي لن تجلب سوى الخسارة والخراب، وتحدث قطيعة سيكونون هم أول مَن يدفع ثمنها الفادح.
ثانيًا- قيمة الوثيقة: تعد أول وثيقة رسمية تستعرض بوضوح مصادر التهديد وترسم بدقة مسارات التحرك وتقدم آليات للتصدي لخطر الأطماع التركية والإيرانية، فهي خارطة طريق للتحرك وبوصلة توجه العمل العربي المشترك إزاء التعامل مع الدولتين وما تمثلانه من تهديد.
ثالثًا- طبيعة الاستراتيجية: تضمَّنت ترتيبًا للأولويات وربطها بسلوك محدد في السياسة الخارجية وتفاعلاتها الدولية، وهذا الترتيب يحدد ما لا يقبل التغيير أو المساس به.
كما أن الاستراتيجية اتَّسمت بمرونة تجسدها خضوعها للمراجعة والتحديث كل خمس سنوات بما يتناسب مع المتغيرات في البيئة السياسية والأمنية، والتهديدات التي تواجه أيًّا من الدول العربية.
أمَّا عن محتوى الاستراتيجية فقد انقسمت لشقين (شق لتركيا وشق لإيران)، وتضمنت ثلاثة محاور هي:
الثوابت والأهداف.
مصادر التهديد، والتصدي لها، وإجراءات إيقافها.
الأسس والآليات.
الاستراتيجية العربية الموحدة للتعامل مع تركيا
حددت الاستراتيجية التحديات ومصادر التهديد في التعامل مع النظام التركي ومنها: الأطماع التوسعية للجمهورية التركية في المنطقة العربية، والتدخل العسكري التركي المباشر في سوريا وليبيا، والانتهاك المستمر لسيادة العراق، وتكوين ودعم الميليشيات والجماعات المُسلحة وتزويدها بالأسلحة المتطورة في سوريا وليبيا، ونقل الإرهابيين والمرتزقة إلى ليبيا، الأمر الذي يُغذِّي الصراع المُسلح ويُطيل أَمَدَه ويُهدد مصالح الدول العربية المُجاورة، واحتضان ودعم أفراد وجماعات ومنابر إعلامية وقنوات فضائية، هدفُها إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في عددٍ من الدول العربية، والتحكم والسيطرة على منابع وممرات ومصادر المياه التي تُغذي سوريا والعراق، الأمر الذي يُعرِّض أمنهما المائي للمخاطر.
أمَّا عن الإجراءات والتدابير لإيقاف تدخلات النظام التركي فأهمها:
الطلب من الأمم المتحدة سحب القوات التُركية من سوريا وليبيا والعراق.
إعداد جامعة الدول العربية مذكرةً ورفعها إلى مجلس الأمن الدولي بشأن سياسات النظام التركي العدائية وأطماعه التوسعية وتدخلاته في الشؤون الداخلية للدول العربية، وانتهاكه لقرارات مجلس الأمن الدولي بشأن حظر تصدير السلاح لليبيا، ودعم الميليشيات والجماعات المُسلحة، وانتهاك سيادة الدول العربية، وإيواء الأشخاص المُصنَّفين على قوائم الإرهاب في بلدانهم وتوفير الملاذ الآمن لهم واحتضان ودعم منصاتهم الإعلامية.
حماية الأمن المائي العربي ووقف محاولات تركيا للتحكم والسيطرة على منابع وممرات ومصادر المياه بالوطن العربي وبناء السدود عليها، الأمر الذي يُهدد الأمن المائي لسوريا والعراق.
حماية الحدود البحرية والمصالح الاقتصادية للدول العربية في البحر الأبيض المتوسط من الأطماع التوسعية للنظام التُركي وسياساته وأعماله العدائية.
وتتمثل أهداف تلك الاستراتيجية في إلزام النظام التُركي بمبادئ حسن الجوار واحترام سيادة الدول العربية والنُّظم الشرعية فيها، ووقف جميع تدخلاته في الشؤون الداخلية للدول العربية، والتصدي لسياساته العدائية وأطماعه التوسعية التي تمس سيادة الدول العربية ووحدة أراضيها، وتهدد الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة العربية، وتعزيز التضامن العربي لمواجهة مصادر تهديد النظام التُركي للدول العربية.
الاستراتيجية العربية الموحدة للتعامل مع إيران
تشير الاستراتيجية إلى أن مصادر التهديد التي يقوم بها النظام الإيراني تتمثل في: مشروع النظام الإيراني لتصدير الثورة إلى العالم العربي والذي يُهدد أمن واستقرار الدول العربية، واحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، وإثارة الفتنة والطائفية ورعاية الإرهاب ودعم الجماعات الإرهابية.
وأيضًا تكوين ودعم الميليشيات داخل الدول العربية وتزويدها بالأسلحة الثقيلة والنوعية، ودعم وتسليح ميليشيا الحوثي الانقلابية باليمن وإمدادها بالأسلحة الذكية والصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة للعدوان على دول الجوار الجغرافي، والهجمات الإرهابية التي طالت المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية، وانتهاك النظام الإيراني للسلامة الإقليمية وتهديد طرق الملاحة البحرية والتجارة العالمية في المنطقة العربية.
وتضمنت الاستراتيجية الإجراءات والتدابير لإيقاف تدخلات النظام الإيراني في الشؤون العربية وأهمها:
إعداد جامعة الدول العربية مذكرة ورفعها إلى مجلس الأمن الدولي بشأن سياسات النظام الإيراني العدائية وتدخلاته في الشؤون الداخلية للدول العربية.
تكثيف الجهود الدبلوماسية العربية مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية لإيضاح السياسات العدائية للنظام الإيراني التي تهدد أمن الدول العربية.
مطالبة مجلس الأمن الدولي بإلزام ايران بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن حظر تزويد ميليشيا الحوثي بالأسلحة خاصةً القرار رقم (2216)، وإلزامها بقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2231) بشأن برنامجها النووي.
وضع “تدخلات النظام الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية” بندًا دائمًا على جدول اجتماعات مجالس جامعة الدول العربية مع الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي والمنظمات الدولية والإقليمية الأخرى.
أمَّا عن أهداف الاستراتيجية، فتتمثل في وقف جميع تدخلات النظام الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، والتصدي لسياساته العدائية التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، ومنع تكوين أي ميليشيات مُسلحة أو تنظيمات ترتبط بالنظام الإيراني داخل الدول العربية.
نهج عربي متكامل للتصدِّي للخطر التركي الإيراني.. ورهان قطري خاسر
لقد قدمت الاستراتيجية العربية الموحدة للتعامل مع تركيا وإيران نهجًا متكاملًا متنوع المسارات للتصدي لأطماع الدولتين، وهو ما يمكن رصده في الأبعاد التالية:
سياسيًّا: عبر حشد الجهود الدبلوماسية العربية لإثارة ذلك الموضوع في مختلف المحافل الإقليمية والدولية.
قانونيًّا: بمحاصرة السلوك العدواني لتركيا وإيران عبر نقل ذلك الملف إلى مجلس الأمن بما يملكه بموجب أحكام القانون الدولي من تدابير للتعامل مع الدول التي تشكل تهديدًا للسِّلْم والأمن على المستويين الإقليمي والدولي.
عسكريًّا: من خلال الدعوة لتفعيل مجلس الدفاع العربي المشترك -الذي تأسس بموجب المادة (6) من اتفاقية الدفاع العربي المشترك لعام 1950- كأداة ردع عربي جماعي ضد تدخلات الدولتين في الشؤون الداخلية للدول العربية.
اقتصاديًّا: من خلال دعوة لإيقاف التبادل التجاري والمشروعات المشتركة بين الدول العربية وكل من إيران وتركيا لحين التخلِّي عن سياساتهما وأعمالهما العدائية التي تهدد السلم والأمن والاستقرار في المنطقة العربية.
وأخيرًا.. تُظهر تلك الاستراتيجية الرِّهان الخاسر الذي راهنت عليه قطر بخروجها عن وحدة الصف العربي والارتماء في أحضان كل من تركيا
وإيران، واستمرار نظام الحمدين في حِياكة المؤامرات ودعم الإرهاب ضد الدول العربية عبر تحالف شيطاني مع قوى تستهدف الإضرار بأمن واستقرار الوطن العربي.
وفي الوقت الذي تدعو فيه الاستراتيجية إلى إيقاف المشروعات المشتركة وحركة التجارة مع تركيا وإيران، تنفق قطر ثرواتها على تحقيق الطموحات التوسعية للدولتين، سواء في مغامرات أردوغان وأطماعه العثمانية في سوريا والعراق وليبيا، أو لدعم أنقرة وطهران بمليارات الدولارات في أزماتهم المالية والإنفاق على ميليشياتهم المسلحة داخل بعض الدول العربية.