تُعتبر العلاقة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج علاقةً رأسيةً بين رئيسٍ ومرؤوسٍ، فهي ليست علاقةً أفقيةً قائمةً على النِّدِّيَّة التي يُفترَض وجودُها بين رئيس دولةٍ ورئيس حكومةٍ لبلدٍ مستقلٍّ ذِي سيادةٍ وإرادةٍ حُرَّةٍ.
السراج ليس سوى أداة يستخدمها أردوغان من أجل إحكام سيطرة أنقرة على الدولة الليبية ومقدَّراتها، إحياءً لإمبراطوريةٍ عثمانيةٍ لم يعد لها وجودٌ سوى في أحلامه الموتورة ورغباته الجامحة ليتوِّج نفسَه سلطانًا أو خليفةً للمسلمين، لذلك فالسراج لا يعدو أن يكون أكثرَ من ورقةٍ بيد أردوغان تُحقق له هدفَه المرحليَّ، وسَرْعان ما قد يسعى للتخلُّص منها بعد إتمام المَهام الموكَلَة إليه.
في زيارة السراج الأخيرة إلى تركيا في 4 يونيو الجاري، نشرت وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية فيديو يُظهر لحظة استقبال أردوغان له، وقد جاء ترحيبُه برئيس حكومة الوفاق الليبية باللغة العربية، في لفتةٍ قَطْعًا كانت متعمَّدةً ومُعَدَّة مُسبقًا، حيث سعى أردوغان من خلالها إلى مخاطبة المواطن الليبي والعربي بشكلٍ عامٍّ، قاصدًا رسالةً مَفادُها أنه ليس غريبًا عن العالم العربي الذي كان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية البائدة، وإشارة لتداخلٍ ثقافيٍّ متوارَثٍ، للتأكيد على التقارُب التاريخي بين الجانبين.
اللقطة الأهم في هذا الفيديو هي تعليق أردوغان على لحية السراج التي أطلقها مؤخرًا والتعبير عن إعجابه بها، مبارِكًا له بالقول “بارك الله”.
وتعكس هذه المباركة ما يلي:
أن فايز السراج أطلق لحيته تودُّدًا وتقربًا للأتراك، وأراد التأكيد على الولاء الكامل والمطلق لهم.
الرئيس رجب طيب أردوغان -حليق اللحية- لا يتوانَى عن استغلال أي حدثٍ لتوجيه رسائلَ ضمنيةٍ تخدمُ مشروعه الخاص، فجاءت مباركتُه للسراج بهدف توجيه رسالةٍ للميليشيات المتطرِّفة بمشروعية مهمتهم في ليبيا وإكسابها بُعدًا دينيًّا. وهو سلوكٌ معتادٌ من أردوغان، سواء بتسييس الدين أو عسكرته.
خلال هذه الزيارة، تعهَّد الرئيس التركي بزيادة الدعم الذي تُقدمه بلاده لحكومة السراج، متحدثًا عن جهودٍ لتحسين التعاون للاستفادة من الموارد الطبيعية شرقي المتوسط، بما في ذلك عمليات الاستكشاف والتنقيب والحفر.
يُؤكد ذلك أن دعم أردوغان للسراج ليس بهدف مساعدة ما يزعم أنها حكومةٌ شرعيةٌ ضد قواتٍ انقلابيةٍ من منطلَقٍ أخلاقيٍّ أو دينيٍّ، بل إن المقابل الذي ستحصل عليه أنقرة ينقسم إلى شِقَّيْن:
الأول اقتصادي يتمثَّل في:
الحصول على موطئ قدمٍ جديدٍ لتركيا في البحر المتوسط، يُتيح لها زيادة حصتها في التنقيب عن النفط والغاز شرقي المتوسط.
الاستحواذ على صفقات إعادة إعمار ليبيا.
أمَّا المقابل الثاني فهو سياسي/ عسكري، ويتمثَّل في:
إتاحة الفرصة للوجود العسكري التركي في ليبيا.
تعزيز وجود الميليشيات المسلحة التابعة لأردوغان، الذي قام بجهودٍ منظمةٍ لنقل مجموعاتٍ متطرِّفةٍ ترعاها أنقرة من سوريا إلى الأراضي الليبية.
تثبيت أركان حكومة السراج، ومساعدتها في إحكام سيطرتها على الدولة الليبية، وثروات ومقدَّرات الشعب الليبي.
تهديد الأمن القومي المصري، خاصة أن القاهرة كانت رأس الحربة في إسقاط المشروع الإخواني في المنطقة، ولذلك يستهدف أردوغان زعزعة أمنها عبر حدودها الشرقية.
ختامًا.. فإن الملف الليبي يُمثِّل أهميةً كبيرةً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خاصة بعد الهزائم المتكرِّرة التي مُنيت بها الميليشيات المتطرفة التابعة له في سوريا، ولذلك كان لا بد له من إيجاد حاضنةٍ أخرى تستوعبهم من جانبٍ، وفي الوقت ذاته تُحقِّق له بعض المكاسب السياسية والاقتصادية، من جانب آخر، في ظل تدهور الوضع الداخلي، وسعيه إلى الحفاظ على أذرعه العسكرية الخارجية التي أصبحت إحدى أدواته في تهديد وابتزاز الدول الأخرى، مُسْتَلْهِمًا هذا الأسلوبَ مِن جارته إيران.