تقارير

السجناء الأجانب ومزدوجو الجنسية في إيران رهائن وأوراق مساومات

على مدى أكثر من 40 عاماً، دأب النظام الإيراني على استخدام أساليب العصابات في التعامل مع الإيرانيين والرعايا الأجانب في إيران، وكانت البداية حينما اقتحمت مجموعة من الطلاب الموالين للخميني السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، واحتجزوا 52 أمريكياً من طاقم السفارة كرهائن لمدة 444 يوماً.

وبعدما أحكم نظام الملالي قبضته على الدولة الإيرانية وأجهزتها ومؤسساتها، أضفى “شرعية قانونية زائفة” على تلك الممارسات الإجرامية، حيث توسّع في عمليات اعتقال الرعايا الأجانب ومزدوجي الجنسية، بذريعة التجسّس والإضرار بالأمن القومي.

اعتقالات تعسفية للأجانب ومزدوجي الجنسية.. والحرس الثوري ذراع البطش

تستغل الحكومة الإيرانية عدم اعتراف القانون الإيراني بازدواج الجنسية، في اعتقال الإيرانيين الذين يحملون جنسيات أخرى عند زيارتهم للبلاد، ومعظمهم صحفيون وناشطون في مجال حقوق الإنسان، وعادة ما يكون هؤلاء المعتقلون ونظراؤهم من الأجانب، ورقةً تُحاول بها طهران انتزاعَ أيِّ مَكسبٍ من خلال مساومة دولهم.

ووفقاً لإحصاءات منصة “وورلد بريسون بريف – world prison brief”، المَعنيّة ببيانات السجون حول العالم، فإن عدد السجناء في إيران يبلغ 240 ألف شخص، يُشكل الأجانب منهم نسبة 2.9%، فيما تُشِير آخرُ الأرقام الرسمية حول عدد السجناء في إيران، إلى أن عددهم 186 ألف شخص، تبلغ نسبة الأجانب منهم 2.5%، بحسب تصريحاتِ رئيسِ مصلحة السجون الإيرانية، أصغر جهانغيري.

ويُقدِّر جاويد رحمان، مُقرِّر الأمم المتحدة الخاصّ بحقوق الإنسان في إيران، وجودَ ما لا يَقِلّ عن 30 سجيناً أجنبياً أو مزدوجَ الجنسية في إيران، مُعرباً عن قلقه العميق إزاء الاعتقال التعسفي، والاحتجاز وسوء المعاملة، والحرمان من الرعاية الطبية للمواطنين مزدوجي الجنسية والأجانب.

وكانت وكالة رويترز قد أفادت باعتقال ما لا يَقلّ عن 30 من مزدوجي الجنسية على يد الحرس الثوري الإيراني، منذ عقد الاتفاق النووي في 2015.

ومع تصاعد دور وتأثير الحرس الثوري الإيراني، أصبح الجهازَ الأمنيَّ الأول في استهداف المواطنين مزدوجي الجنسية والأجانب، وكردّ فعل على محاولات الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي تحقيقَ قدرٍ محدود من المساءلة عن عمليات الاغتيال المتسلسلة للمعارضين أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت عدة مجموعات في تطوير مؤسسات استخبارية موازية خارج سيطرة رئاسته، وتحت رئاسة محمود أحمدي نجاد، احتفظت تلك المؤسساتُ الاستخبارية بقوتها ووسّعتها خارج إشراف وزارة الاستخبارات.

ومنذ عام 2013، اعتقل الحرسُ الثوري، الذراع الباطشة لنظام الملالي، عشراتِ الصحفيين والنشطاء والأكاديميين الإيرانيين تعسفاً، بناءً على اتهامات أمنية غامضة متعلّقة بالأمن القومي، تشمل الارتباط بكيانات غربية، وكان من بينهم مواطنون مزدوجو الجنسية وأجانب.

وقد دَفعت السياساتُ العدوانية للنظام الإيراني عدداً من حكومات العالم، لِنُصح رعاياها بشكل عام، بأن يُعيدوا النظرَ في السفر إلى إيران، بسبب خطر تعرّض الأجانب للاحتجاز أو الاعتقال التعسفي، والتنويه بأنها لا تَضمن لرعاياها الوصول إلى الخدمات القنصلية أو التمثيل القانوني في حال اعتقالهم.

ظروف اعتقال غير آدمية.. ونظام قضائي مسيّس.. وحرمان من حقّ الدفاع

يَعقِب اعتقالَ الأجانب ومزدوجي الجنسية في إيران، نَمطٌ من الحبس الانفرادي والاستجواب لفترات طويلة، ونقص الإجراءات القانونية اللازمة، وحرمان الأمم المتحدة أو المنظمات الإنسانية من الوصول إليهم، ومنع الزيارات القنصلية.

وتُجرى المحاكمات بصورةٍ سرية، حيث يُمنح فيها المعتقل وصولاً محدوداً إلى المحامين، ويَنال عقوباتٍ طويلةً بالسجن، بناءً على اتهامات مبهمة تتعلق بالأمن القومي والتجسّس.

ولم يُحاسَب أيُّ مسؤول إيراني إطلاقاً، على وفاة بعض هؤلاء المعتقلين في سجون الدولة الإيرانية، كما لم يُحاسب المسؤولون القضائيون الإيرانيون على تواطؤهم مع السلطات، التي غالباً ما تؤثر أو تُملِي عليهم أحكامَ السجن وغيرها من أشكال العقوبات.

ففي فبراير 2018، توفي الأكاديمي والناشط البيئي الإيراني البارز، كاووس سيد إمامي، الذي يحمل الجنسية الكندية، في ظروفٍ مريبة بسجن إيفين، بعد شهر من اعتقاله، إلى جانب العديد من علماء البيئة الآخرين، وهو ما يُعيد للأذهان وفاةَ المصوّرة الصحفية الكندية المولودة في إيران، زهرة كاظمي، في سجن إيراني في يوليو 2003.

وثَمّة مخاوف جِدّية على حياة بعض السجناء الحاليين، وخاصة باكير نمازي، وهو أمريكي إيراني يبلغ من العمر 80 عاماً، مُتّهم بالتجسّس، وتمّ إدخاله إلى المستشفى عِدّة مرات لإجراء عمليات القلب، بالإضافة إلى المواطن السويدي الإيراني أحمد رضا جلالي، الذي فقد الكثير من وزنه في السجن لأسباب غير معروفة، والإيرانية البريطانية نزانين زغاري راتكليف، الموظفة بمؤسسة طومسون رويترز الخيرية، التي انفصلت عن ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات فقط، وتعاني من الاكتئاب في سجن إيفين بطهران.

ولا تزال الأكاديمية البريطانية الأسترالية كايلي مور جيلبرت، التي اعتُقلت في سبتمبر 2018، محتجزةً في الجناح رقم (2) سيئ السمعة بسجن إيفين، بعد أن حُكِم عليها في محاكمةٍ سرية بالسجن لـ 10 سنوات بتهمة التجسّس.

وكَشفت مور جيلبرت، الأستاذة في جامعة ملبورن، من خلال رسائل مُهرّبة إلى خارج السجن الذي يديره الحرس الثوري الإيراني، أنها محتجزة في الحبس الانفرادي.

وأوضحت جيلبرت أنه ليس لديها ما يكفي من الأدوية أو الطعام، وتَفتقر إلى المال لتأمين أغراضها الشخصية، وكتبت في إحدى رسائلها “أشعر وكأنني مهجورة ومنسية … أنا ضحية بريئة”.

أما نزار زكا، المواطن اللبناني المقيم في الولايات المتحدة، والذي أُطلق سراحُه في يونيو الماضي، بعدما أمضى 4 سنوات خلف القضبان في إيران، فقد وصف السجن بأنه أشبه بمنظمة صغيرة تابعة للأمم المتحدة، كونه يَضمّ محتجزين من جميع أنحاء العالم.

وأشار زكا، خبير تكنولوجيا المعلومات اللبناني المدافع عن حُرّية الانترنت، إلى أن احتجاز السلطات الإيرانية للرعايا الأجانب في إيران أمرٌ مستمرّ على مدى الأربعين عاماً الماضية، فعلوه مراراً وتكراراً، دون الخضوع لأيّ مساءلة على الإطلاق، وهو ما يُجَسّد إرهاب الدولة في أظهر صوره، مؤكداً أنهم يتعاملون معك كرهينة، من اللحظة الأولى التي يأخذونك فيها.

وتقول سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، إن “وجود مواطنين ذوي صلات عميقة بالثقافات والبلدان الأخرى هو عامل إيجابي، وليس جريمة جنائية، لكن يبدو أن الأجهزة الأمنية الإيرانية قد اتخذت قراراً دنيئاً باستخدام هؤلاء الأفراد كورقةِ مساومة، لحلّ الخلافات الدبلوماسية”.

 صفقات تبادل السجناء مع الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا

في أعقاب التوصّل إلى الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، في ظلّ إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، عَقدت طهران وواشنطن أكبرَ صفقةِ تبادلٍ للسجناء بين البلدين، أفرجت إيران بموجبها عن 4 سجناء أمريكيين لديها، وهم مراسل صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في طهران جيسون رضائيان، والقسّ سعيد عبديني، وأمير حكمتي، ونصرة الله خسروي، وذلك في مقابل إخراج 7 من حَمَلة جنسيّتها من السجون الأمريكية، وهم: نادر مدانلو، بهرام مكانيك، خسرو أفقهي، آرش قهرمان، تورج فريدي، نيما كلستانة، وعلي صابونجي.

ورغم تصاعد التوتّر في العلاقات الإيرانية – الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أن ذلك لم يَحُلْ دون إبرام صفقةِ تبادل سجناء برعاية سويسرية، أفرجت إيران بموجبها عن الباحث الصيني – الأمريكي شيوي وانغ، مقابل إفراج واشنطن عن الأكاديمي والعالم الإيراني مسعود سليماني.

كما أفرجت السلطةُ القضائية الإيرانية في فبراير الماضي، عن مواطن ألماني، كان محكوماً بالسجن لمدة ثلاث سنوات، لالتقاطه صوراً لمواقع ذات حساسية، وذلك فور عودة الإيراني أحمد خليلي، الذي تمّ اعتقاله في ألمانيا بطلب أمريكي، تمهيداً لتسليمه إلى الولايات المتحدة، بتهمة خرق العقوبات الأمريكية على طهران.

وفي مارس الماضي، أعلنت كلٌّ من فرنسا وإيران عن صفقة تبادل سجناء بينهما، حيث أطلقت طهران سراح عالم الاجتماع الفرنسي رولان مارشال، بعد اعتقالٍ استمرّ تسعة أشهر ونصف – رغم أنها ما زالت تَحْتَجز زوجته -، فيما أَطلقت باريس سراح المهندس الإيراني جلال روح الله نجاد، وهو مطلوب من الولايات المتحدة، بتهمة نقل أدوات تقنية إلى إيران، وانتهاك العقوبات الأمريكية ضد طهران.

وفي ظلّ جائحة كورونا وقرارت تخفيف أعداد نُزلاء السجون المكتظة، والتي جاءت بعد ضغوط دولية شديدة، أفرجت إيران بشكل مشروط عن مايكل وايت، المواطن الأمريكي وأحدِ الجنود القدامى في البحرية الأمريكية، المحتجز منذ يوليو 2018 والمحكوم بالسجن 13 عاماً، حيث بات في عُهدة سفارة سويسرا، التي تُمثّل المصالح الأمريكية في طهران، في ظل غياب العلاقات الدبلوماسية بينها وبين واشنطن.

واستمراراً للاستراتيجية الإيرانية القائمة على المساومة، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، مؤخراً، أن إيران مستعدة لتبادل السجناء مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، موضحاً أن طهران أبدت استعدادها رسمياً عن طريق رسائل نقلتها أطراف ثالثة، واقترحت تبادل سجناء مُعَيَّنين، وقد تَمّت بعض الصفقات.

ولا يزال هناك ما يقرب من 20 إيرانياً محتجزاً في الولايات المتحدة، بتهمة التحايل على العقوبات، ويرى مايكل بريجنت، الزميل البارز في معهد “هدسون للدراسات Hudson Institute” أن المشكلة تكمن في أن المسؤولين الحكوميين الإيرانيين، يَستخدمون كلَّ تَنازل تقدّمه لهم الولايات المتحدة والدول الغربية، “لمتابعة أجندتهم” المزعزعة للاستقرار في المنطقة.

كما يُمكِن للنظام الإيراني أن يُخفّف من عزلته بصفقات تبادل السجناء، التي تجعل الدولَ الأطراف في تلك الصفقات تتبنّى مواقفَ عامةً أقلَّ عداءً تجاهه، وهو يلجأ إلى استخدام تلك الورقة للتسويق الدعائي في الداخل، يُظهِره حرصُ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، على اصطحاب عدد من السجناء المُفرَج عنهم، خلال رحلة العودة إلى إيران.

وأخيراً.. يُمكِن القولُ إن نظام الملالي استخدم السجناء مزدوجي الجنسية والأجانب، كأوراقِ مساومةٍ في تعاملاته مع الدول الأخرى، ومحاولة تخفيف طوق العزلة الذي يُطبِق عليه، في ظلّ سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لإجبار إيران على تغيير سلوكها المُدمّر في المنطقة، وإعادة التفاوض حول الاتفاق النووي الإيراني.

ويَعكس تنامي الاعتقالات التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني بحقّ الأجانب ومزدوجي الجنسية، جُهودَ المحافظين المتشدّدين لمنع أيّ تقارب مع الغرب، ما يُبرِزُ تعاظم دور تلك الميليشيات المسلحة، وقدرتها على تجاوز مؤسسات الدولة.

زر الذهاب إلى الأعلى