يؤثر فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في الحياة على كلّ المستويات، ويبدو أن إرثه سيمتدّ حتى إلى ما بعد انتهاء أزمته لأمدٍ طويل.
صناعة الإعلام من بين قطاعات كثيرة تأثرت بالأزمة، وهي – أي صناعة الإعلام – التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإعلان، الذي يتحرك بدوره وفقاً للوضع الاقتصادي، ما جعل تلك الصناعة الحيوية ذات الأهداف الاستراتيجية، بين واقع مأزوم ومستقبل غامض.
تراجع الإعلانات.. والإعلام الجديد لن ينجو من الصدمة
على امتداد المشهد الإعلامي يَختفي الإعلان كأحد ضحايا الإغلاق الاقتصادي العالمي الناجم عن أزمة وباء كورونا، ولن تفلت وسائل الإعلام الجديد من تلك المشكلة، شأنها في ذلك شأن الصحف والمجلات والتلفزيون والإذاعة، حيث يقوم المعلنون بتخفيض أو إلغاء الميزانيات الخاصة بالحملات الإعلانية، ما يضع وسائل الإعلام المختلفة في أزمة حقيقية.
ويرجع عدم الإقبال على شراء مساحات إعلانية – ببساطة – إلى غياب الدوافع، فمثلاً تعليق حركة السفر العالمية، لا يوفر أيّ دوافع بالنسبة لشركات الطيران والفنادق وشركات تأجير السيارات لترويج خدماتها.
وفي الوقت نفسه، فإن العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشتري مساحات إعلانية عبر الإنترنت، تكافح للحفاظ على بقائها.
لن يكون التاريخ مفيداً كثيراً لعَقد مقارنات مع أحداث مماثلة، فعندما اجتاح وباء الإنفلونزا الإسبانية العالم في 1918، كان أول بثّ تلفزيوني تجاري على بُعد أكثر من عقدين، وخلال الأزمة المالية بين عامي 2008 – 2009، كان الإعلان الرقمي لا يزال في مراحله الأولى.
ويُشير المحلل في بنك “جيه بي مورغان” دوغ أنموث، إلى أنه في عام 2008 كان الإعلان الرقمي تقريباً يمثل 12٪ من ميزانية الإعلان الإجمالية، لكنه الآن يمثل 55٪ من الميزانيات الإجمالية.
ويرى ديفيد كوهين، رئيس مجموعة “إيه أي أو” لصناعة الإعلانات عبر الإنترنت، أن الأعمال الرقمية تغيّرت كثيراً خلال الـ 12 عاماً الماضية، ومن الصعب جداً استخلاص مؤشرات واضحة بين الوضع في ذلك الحين والوضع الحالي.
وأجرت مجموعة “إيه أي أو” استطلاعاً شمل نحو 400 من المُعلِنين حول حال الصناعة، وكانت النتائج قاتمة، إذ يعتقد ما يقرب من ثلاثة أرباع الذين شملهم الاستطلاع، أن الانكماش الحالي للإعلان سيكون أسوأ مِن الذي جرى في ظل الأزمة المالية عام 2008.
وقد سحب حوالي رُبعُ أولئك الذين شملهم الاستطلاع، جميعَ إعلاناتهم خلال الرُّبع الثاني من العام، وقرّر 46٪ من المستطلعة آراؤهم تخفيضَ إنفاقهم الإعلاني لنفس الفترة، متوقعين أن تتحسّن الظروفُ قليلاً على الأقل في النصف الثاني من العام.
ووفقاً للاستطلاع، سينخفض الإنفاق الإعلاني الرقمي خلال الفترة من مارس إلى يونيو بنسبة 33٪، ومن المتوقع أن ينخفض الإنفاق على الإعلانات بوسائل الإعلام التقليدية بنسبة 39٪.
وأوضحت شركة “فيسبوك” أنه على الرغم من زيادة الانخراط في بعض منصّاتها في الأماكن الأكثر تضرّراً من الفيروس، إلا أنها تشهد تراجعاً في الإعلانات في البلدان التي تتخذ إجراءاتٍ للحدّ من انتشار الفيروس.
وأضافت في بيان أنه مع اتساع الوباء وممارسة المزيد من الأشخاص للتباعد الاجتماعي، فإن هذا يعني أيضاً أن الكثيرين يستخدمون تطبيقات “فيسبوك”، لافتةً إلى الاستخدام المتزايد لمنتجاتها في المناطق التي تضرّرت بشدة من تفشّي الوباء مثل إيطاليا.
وقد خفّض محللو شركة “نيدهام” (المختصّة بتحليل السوق المالي) تقديراتهم لإيرادات “فيسبوك” للجزء الأول من العام، بسبب انتشار فيروس كورونا وتأثيراته على طلب المستهلكين، وتداعياته على سوق الإعلان.
وأوضح المحللان لورا مارتن ودان مدينا، في مذكرة بحثية، أن السبب يرجع إلى انخفاض الإنفاق على السفر، وتجارة التجزئة، والسلع الاستهلاكية المعبأة والترفيه، والتي تمثل معاً من 30٪ إلى 45٪ من إجمالي إيرادات “فيسبوك”.
وأشار المحللان إلى أن 6 من أكبر 10 دول في سوق الإعلانات بالنسبة لفيسبوك، تُعدّ حالياً بُقعاً ساخنة لوباء كورونا، مُرجِّحَين أن يؤدي انسحاب المعلنين إلى انخفاض أسعار الإعلانات على منصة “فيسبوك”.
ضربة مزدوجة للصحافة.. وإيرادات الاشتراك لا تكفي
تَعرّضت الصحافة لضربة مزدوجة من تفشّي كورونا، فالصحفيون مقيّدون في تحرّكاتهم في ظلّ وصول محدود للغاية للأحداث والمعلومات والمسئولين والسياسيين. وفي الوقت نفسه، يفقد الناشر عائداتِ الإعلانات بسرعة، حيث تستعدّ الشركات لمرحلةٍ من الانكماش الاقتصادي، مما يُهدّد الصحافة على الصعيد العالمي.
وقد بدأت مؤسسات بالاستغناء عن الصحفيين، أو إجبارهم على تخفيض الرواتب، بينما يتعرّض البعض أيضاً لضغوط سياسية متزايدة.
ويعتقد توم جيبسون، المحامي الرئيسي للجنة حماية الصحفيين في بروكسل، أن الأمور ستكون صعبة للغاية بالنسبة للصحفيين، مشيراً إلى أن دور الصحفي سيكون حاسماً في ظِلّ الوباء، من ناحية توفير معلومات موثوقة.
وأوضح جيبسون أن عوامل عديدة جعلت حياة العاملين في الصحافة صعبة، منها أنه قطاع اقتصادي ضعيف، لكن الوضع يتفاقم بسبب الوباء.
ويخلق كورونا تحدياتٍ لنموذج اقتصادي هشّ بالفعل، حيث بدأت الصحفُ في الانتقال من الاعتماد على إيرادات الإعلانات إلى الإيرادات الواردة من الاشتراكات، لكنها عملية انتقال بطيئة وغير متكافئة من حيث العوائد المالية، ما دفع بعضَ الحكومات للتفكير في التدخّل، فعلى سبيل المثال ناقشت الحكومة في الدانمارك تخصيصَ حوالي 24 مليون يورو لإنقاذ وسائل الإعلام المحلية.
وتكتسب الصحفُ خلال الوباء شريحةً جديدة من القرّاء عبر نسخها الرقمية، على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية قالت إن الصحف الورقية آمنة، ولا تُشكّل مصدرَ خطورة للعدوى.
توقّف مطبوعات في أستراليا.. وأخرى مهدّدة في بريطانيا
من المتوقع أن تخسر الصحف البريطانية 57 مليون يورو، إذا استمرّ تفشي الفيروس لمدة ثلاثة أشهر أخرى، حيث يرفض المعلنون وضع إعلاناتهم بجوار قصصٍ عن الوباء، مُعتبرين أنها محتوى غير لائق، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
وفي المقابل فإن وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة “فيسبوك” و”تويتر”، التي غالباً ما تكون مليئة بمعلومات خطيرة ومضللة عن الفيروس، لا يعاملها المعلنون بنفس الطريقة.
وباتت بعضُ الصحف المحلية في بريطانيا مهدّدة بالتوقف عن الصدور، نظراً لخسارة الإيرادات في ظلّ تلك الأزمة، بل بدا الأمر وكأنه اتجاه عالمي، حيث قامت مجموعة “نيوز كورب” الإعلامية التي يملكها قطب الإعلام الدولي روبرت مردوخ، بوقف إصدار 60 صحيفة ورقية في أستراليا.
كما أن العديد من عائدات الإعلانات على مواقع الأخبار الأمريكية، انخفضت بنسبة تصل إلى 50%، ما دفع بعض الناشرين الأمريكيين لطلب تدخل الحكومة.
وأعلنت أكبر مجموعة ناشرة للصحف الأمريكية “غانيت” أنها ستعطي إجازات غير محددة لموظفيها وتخصم من أجورهم.
وفي كندا، يحث الناشرون وخبراءُ الإعلام الحكومةَ الفيدرالية على تقديم دعم مالي لتعزيز قطاع الإعلام، في ظلّ تراجع الإيرادات بسبب وباء كورونا.
وفي بادرة للتحرّك الحكومي، أعلن وزير التراث الكندي ستيفن جيلبولت، عن سلسلةِ إجراءاتٍ لدعم قطاع الإعلام، في ظلّ التباطؤ الاقتصادي الناجم عن كورونا، بما في ذلك تسهيلات ضريبية تُقدّر بنحو 595 مليون دولار كندي، وتعهّد بإنفاق الحكومة 33 مليون دولار على حملة وطنية للتوعية بالأوبئة في وسائل الإعلام الكندية.
ومع ذلك، يرى ممثلو الصناعة أن التسهيلات الضريبية وعود سياسية يتمّ طرحها كلّ فترة منذ عام 2018، وأن الوصول إلى تمويل ذي مغزى مطلوب بشدة لمساعدة القطاع.
ويقول جون هيندز، الرئيس التنفيذي لمجموعة “نيوز ميديا كندا”، إن صناعة الإعلام تقترب جداً من الإفلاس المالي.
المحطات التلفزيونية.. زيادة المشاهدات لن تنقذها من التداعيات الاقتصادية
من المرجّح أن يؤدي وباء كورونا إلى زيادة كبيرة في مشاهدة القنوات التلفزيونية، حيث يتوق الجمهور إلى الأخبار ومتابعة التطورات، وتتوقع شركة “نيلسن” للأبحاث التسويقية أن يؤدّي الحجر المنزلي في الولايات المتحدة إلى زيادة هائلة بنسبة 60٪ في كمية المحتوى الذي تتمّ مشاهدته.
ويُرجّح ريتشارد بروتون، مدير الأبحاث في شركة “إمبير” للتحليلات السوقية، ارتفاع نسبة مشاهدة البث التلفزيوني، واستخدام خدمات الفيديو عند الطلب، إذا ظلّ الناس في المنازل، لكنه يعتقد أنه سيكون من السذاجة القول إن هذا جيّد “لصناعة التلفزيون”.
كما يُوضّح بروتون أن أيّ ضعف اقتصادي ناتج عن تأثير كورونا على حركة التجارة، بجانب أنماط الإنفاق الاستهلاكي على السّلع والخدمات، سيكون له تأثير سلبي على ثقة المعلنين والإنفاق التقديري على وسائل الإعلام لجذب المستهلكين.
ويُشير في هذا السياق أيضاً، إلى الانكماش الاقتصادي التاريخي في 2008، الذي أظهر أن الإنفاق الإعلامي عانى أكثرَ من غيره.