ترجمات

أوروبا..بين أزمة كورونا .. واستغلال القوميين

تمهيد

شكلت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) أكبرَ اختبار للنسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي للاتحاد الأوروبي، منذ أزمة اللاجئين قبل خمس سنوات.

وفي الوقت الذي يتطلع فيه المواطنون إلى الحكومات الوطنية عند مواجهة الأزمات، اتجهت الأنظار في القارة العجوز إلى بروكسل حيث مقرّ المفوضية الأوروبية (الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي)، فالاستجابة للأزمة في تلك الحالة تُعدّ اختباراً للمؤسسة نفسِها، والفلسفات الكامنة وراء هذه المجموعة الفريدة المكوّنة من 27 دولة عضواً، تضمّ حوالي 445 مليون مواطن، وتحقق ناتجاً محلياً إجمالياً يقدر بـ 16 تريليون دولار.

وإذا كان فرض القواعد التنظيمية يمثل عنصرَ قوةٍ يميّز الاتحاد الأوروبي، إلا أن الاستجابة السريعة في أوقات الأزمات تظلّ ضعيفة.

 كورونا يُمزّق أوصال أوروبا الموحّدة

باتت أوروبا ممزقةَ الأوصال بعدما ضربها وباء كورونا، مُخلّفاً أوضاعاً كارثية في العديد من دول القارة العجوز، أبرز مؤشراتها تَصدُّرُ دولتين أوروبيتين حصيلةَ الوفيات على مستوى العالم، لتتخطى حجمَ الوفيات في الصين بؤرةِ انتشار الفيروس، حيث سَجّلت إيطاليا أكثر من 10 آلاف حالة وفاة، وتلتها إسبانيا بأكثر من 6 آلاف.

وضع فيروس كورونا أوروبا تحت طائلة حالة طوارئ صحية واقتصادية، جعلتها تواجه أسوأ أزمة منذ توقيع اتفاقية روما في عام 1957، التي وضعت اللبنة الأولى لمشروع الوحدة الأوروبية، فتلك الأزمة الصحية في حِدّتها أشدّ بمراحل من صدمة ارتفاع أسعار النفط في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتداعيات الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

لقد تم تصميم اتفاقية شنغن عام 1985 والتي تُعدّ واحدةً من أكبر مصادر الفخر والهوية في الاتحاد الأوروبي، لتكون أكثرَ مرونةً في أوقات الأزمات، إذ تسمح بإعادة ضوابط الحدود بشكل مؤقت، لأسباب تشمل زيادة عدد المهاجرين والهجمات الإرهابية وحالات الطوارئ الصحية، كالحالة التي فرضها كورونا اليوم.

وبالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين الأوروبيين، تقترب حالة الطوارئ من حالة الحرب، وبينما تتطلع أعداد كبيرة منهم إلى الاتحاد الأوروبي للحماية ووضع حلول مشتركة، فإن بروكسل تبدو عاجزةً بشكل كبير.

إذا كان هناك وقت لِيُظهِر الاتحاد الأوروبي وحدتَه وتضامنه، فهذا هو الوقت الأنسب، لكن الواقع أن الأبواب كانت شِبهَ مُوصدة أمام إيطاليا حين طالبت الدولَ الأعضاء بإرسال مُعدّاتٍ طبية مثل الكمامات، إذ لم تَفشل الدولُ الكبرى في الاتحاد مثل فرنسا وألمانيا في الاستجابة لطلب روما فحسب، بل زادت على ذلك بفرض حظرٍ على تصدير الكمامات.

وفي سابقة خطيرة، صادرت جمهورية التشيك شُحنةً من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا، خلال ملاحقة عدد من الأفراد الذين يُتاجرون بالمُعدّات الطبية في هذا الوقت الحرج، ورغم تَعهُّدِها بردّ الشحنة إلى إيطاليا، إلا أن ذلك لم يحدث.

لقد وجدت روما في تلك الأزمة يَدَ العون ممدودةً من بكين وموسكو ودول حليفة من خارج أوروبا، وهو ما أقرّت به رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، حينما انتقدت أنانية بعض الدول الأوروبية وإحجامَها على الوقوف متضامنةً مع بعضها في أوقاتِ المِحَن، لتركّز جُلّ اهتمامها على تحقيق المصلحة الوطنية الضيقة.

وعلى النهج ذاته، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام، والتي حَذّر فيها من أوروبا أنانية ومنقسمة، في محاولةٍ لخطب وُدّ الإيطاليين بعد موقف باريس المتخاذل.

هل يتمكن الاتحاد الأوروبي من السيطرة على الأزمة؟

اتخذ الاتحاد الأوروبي، مؤخراً، سلسلةً من الخطوات أملاً بأن تُجدي نفعاً في مواجهة تلك العاصفة المزلزلة، فعلى مستوى التعاون الطبي، رصد الاتحاد 140 مليون يورو في مشاريع بحثية لدعم جهود تطوير لقاح لكورونا، وتم بالفعل إطلاق تجارب سريرية أوروبية تشمل 7 دول أوروبية على الأقل، بهدف اختبار 4 علاجات محتملة للفيروس على 3200 شخص.

وتشمل العلاجات الأربعة عقاقير “ريمديسيفير”، و”لوبينافير” بخلطه مع “ريتوفانير”، على أن يُعطى العقار الأخير مع “أنترفيرون بيتا” أو من دونه، فضلاً عن “هيدروكسي كلوروكوين”، وفقاً لهيئة “إنسيرم” الفرنسية للأبحاث الطبية.

وتم اختيار الخاضعين للتجربة من بين مصابي كورونا في بلجيكا وبريطانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وإسبانيا وهولندا وألمانيا.

واقتصادياً، اتفق قادة الاتحاد الأوروبي على تعليقٍ مؤقت لقواعد منطقة اليورو الخاصة بالديون الحكومية لأول مرة في تاريخ التكتل، بسبب تداعيات أزمة كورونا.

وصادق وزراء مالية واقتصاد دول الاتحاد الأوروبي على اقتراح المفوّضية الأوروبية، الداعي إلى تفعيل البند الخاص بعدم الالتزام بقواعد ميثاق الاستقرار النقدي والنموّ الأوروبي، والذي يُعيّن الحدّ الأقصى المسموح به لمعدّل عجز الميزانية، ومعدّل الدَّين العام لدول الاتحاد الأوروبي، ومن شأن هذه الخطوة أن تُطلِق يدَ الدول الأعضاء مؤقتاً في منح حزم مساعداتٍ للشركات والعاملين.

كما أعلن البنك المركزي الأوروبي عن حزمة إنقاذ بقيمة 750 مليار يورو، بهدف ضمان استقرار دول منطقة اليورو إزاء تقلّبات الأسواق والمضاربات في أسعار العملات.

ورغم تلك التحرّكات، يبقى التساؤل قائماً هل إمكانية إيفاء تلك الخطوات بمتطلبات المرحلة الراهنة، لتعبر أوروبا إلى برّ الأمان.

تغييرات راديكالية في المزاج الأوروبي العام.. وصعود التيارات القومية

عندما ينتهي الوباء، سيتمّ رفع الحواجز المشدّدة على السفر في أوروبا، ولكن مِن غير المرجح أن تكون هناك استعادة كاملة للوضع كما كان قبل أزمة كورونا، التي مثلت قوةَ دفع رهيبة لعودة الدولة القومية وسياساتها، ويمكن تفسير ذلك من خلال 4 عوامل.

أولاً: أوضح الوباء أن الأفراد في أوقات الطوارئ يتطلعون إلى الدولة القومية، التي لديها نقاط قوة مالية وتنظيمية تفتقر إليها المؤسسات والتكتلات الإقليمية.

ثانياً: كشف فيروس كورونا عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية، والاعتماد المتبادل بين الدول الأوروبية، وبات من غير المُرجَّح قبول الدول الكبرى في الاتحاد استيرادَ معظم إمداداتها الطبية الحيوية.

ثالثاً: يُعزّز الوباءُ الاتجاهاتِ السياسيةَ التي كانت موجودةً بالفعل قبل اندلاع تلك الأزمة، لا سيما الأصوات المطالبة بمزيدٍ من الحمائية وتوطين الإنتاج وضوابطَ حدوديةٍ أكثر صرامة، وبعبارة أخرى، لقد سلط كورونا الضوءَ على الجوانب السلبية للتكامل الدولي الواسع النطاق.

رابعاً: أحدث الوباء تغيّراً راديكالياً في المزاج العام داخل الدول الأوروبية نحو الانغلاق على الذات، ووفّر فرصةً مؤاتية لصعود التيارات القومية المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي، منطلقةً من قوةِ الانتقادات التي وَجَّهها الساسة في إيطاليا وإسبانيا وبولندا للاتحاد الأوروبي، لفشله في الوفاء بوعده بالتضامن.

انهيار الاتحاد الأوروبي سيناريو مستبعد

يبقى سيناريو انهيار مشروع الوحدة الأوروبية الذي يُجَسّده الاتحاد الأوروبي بمؤسساته المختلفة، مستبعداً، فالوباء مشكلةٌ عابرة للحدود تَتطلّب شكلاً من أشكال الحوكمة الإقليمية والدولية، كما أن الخسائر التي كَبّدها كورونا للاقتصاد العالمي والأوروبي، وعملية الخروج من حالة الركود وتنشيط عجلة الإنتاج، ستكون شبه مستحيلة إذا تحركت البلدان نحو العُزلة، ولعلّ تجربةَ الاندماج الأوروبي خير شاهد على ذلك، لاسيما وأنها استهدفت في بداياتها خلال خمسينيات القرن الماضي، تحقيقَ وحدة اقتصادية، بعدما اجتازت القارةُ أزمةَ الحرب العالمية الثانية.

زر الذهاب إلى الأعلى