شهد مؤشر الأخلاقيات لعام 2025 الصادر عن معهد الحوكمة الأسترالي انخفاضًا ملحوظًا في ثقة الجمهور بمنصات التواصل الاجتماعي، إذ يُصنف واحد من كل أربعة أستراليين الآن منصات التواصل الاجتماعي على أنها “غير أخلاقية على الإطلاق”، ويتوافق هذا مع تقارير أخرى حول مواقف الأستراليين تجاهها منها على سبيل المثال، تقرير الأخبار الرقمية لعام 2025 الذي أشار إلى قلق واسع النطاق بشأن المعلومات المضللة وانعدام الثقة في الأخبار المنشورة على هذه المنصات.
ولا يقتصر هذا الشعور بعدم الثقة على أستراليا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، حيث يُشير مؤشر إيدلمان للثقة لعام 2025، الذي يستند إلى استطلاع عالمي سنوي لأكثر من 30 ألف شخص في 28دولة، إلى انخفاض الثقة في الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي.
وفي ظل هذا المشهد من اللافت أن البودكاست يشهد ازدهارًا في أستراليا وحول العالم، وغالبًا ما يُنظر إليه بإيجابية أكبر من وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، نشر موقع “ذا كونفرذيشن” الإخباري تقريرا ألقى نظرة على ما تقوله الأدلة عن تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، وما تخبرنا به وما لا تخبرنا به حتى الآن عن البودكاست، وما يكشفه هذا عن الحاجة إلى المساءلة عبر المنصات الرقمية.
- من أين ينبع انعدام الثقة؟
في حين أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت التواصل ووفرت فرصة للإبداع والمشاركة المدنية، إلا أن الأبحاث تُسلط الضوء أيضًا على جوانبها السلبية، فقد أظهرت الدراسات أن المعلومات الكاذبة والمثيرة للجدل على بعض منصات التواصل الاجتماعي غالبًا ما تنتشر أسرع من الحقيقة. كما يمكن لهذه المعلومات أن تُغذي السلبية والاستقطاب السياسي.
بالإضافة إلى ذلك، ربط باحثون بين الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي وتحديات الصحة النفسية، حيث تشير الدراسات إلى وجود ارتباطات بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع مستويات الاكتئاب والقلق والضيق النفسي، لا سيما بين المراهقين والشباب.
وفي عام 2021، نشرت فرانسيس هوغن، مديرة الإنتاج السابقة في شركة فيسبوك، آلاف الوثائق الداخلية التي كشفت عن التأثير السلبي لإنستغرام على الصحة النفسية للمراهقين. وأثار هذا الأمر تدقيقًا عالميًا وزاد من حدة النقاش حول مساءلة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يُشير مُبلّغون، مثل هوغن، إلى أن شركات التواصل الاجتماعي تُدرك الأضرار المحتملة، لكنها لا تتحرّك دائمًا.
- تمتع البودكاست بسمعة أفضل بكثير
على عكس وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو أن البودكاست يتمتع بسمعة مختلفة تمامًا. فلا يقتصر الأمر على نظرة الأستراليين الإيجابية له، بل ازداد استهلاكه بشكل ملحوظ على مر السنين.
ويتفاعل أكثر من نصف الأستراليين الذين تزيد أعمارهم على عشر سنوات مع البودكاست الصوتي أو المرئي شهريًا، كما أنه ليس من المستغرب أن تشهد الانتخابات الأسترالية العام الحالي مشاركة القادة السياسيين في البودكاست كجزء من استراتيجية حملاتهم الانتخابية.
والسؤال هنا لماذا يحظى البودكاست بشعبية كبيرة وموثوقية عالية؟ يمكن تفسير ذلك بعدة خصائص؛ فغالبًا ما يكون الاستهلاك أكثر تعمدًا، حيث يختار المستمعون برامج وحلقات مُحددة بدلًا من تصفح خلاصات لا نهاية لها. بالإضافة إلى أن البودكاست عادةً ما يُقدم مناقشات أطول وأكثر دقة مقارنةً بالمقاطع القصيرة التي تُقدمها خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.
ونظرًا لهذه الخصائص، تُشير الأبحاث إلى أن البودكاست يُعزز الشعور بالألفة والأصالة، حيث يُطور المستمعون “علاقات” مستمرة مع مُقدمي البودكاست، ويعتبرونهم موثوقين وجديرين بالثقة. ومع ذلك، قد تكون هذه الثقة في غير محلها. فقد وجدت دراسة أجراها معهد بروكينغز، حللت أكثر من 36 ألف حلقة بودكاست سياسي، أن ما يقرب من 70% منها احتوت على ادعاء واحد على الأقل غير مُتحقق منه أو كاذب.
كما تُظهر الأبحاث أن البودكاست السياسي غالبًا ما يعتمد على لغة سامة أو عدائية. وهذا يُظهر أن البودكاست، على الرغم من أنه غالبًا ما يُنظر إليه على أنه أكثر “أخلاقية” من وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه ليس بالضرورة أكثر أمانًا أو موثوقية.
- إعادة النظر في الثقة ببيئة إعلامية معقدة
من الواضح أنه لا ينبغي أن نثق ثقة عمياء بأي منصة إلكترونية أو نتجاهلها، سواءً كانت منصة تواصل اجتماعي أو بودكاست، بل يجب أن نفكر بشكل نقدي في جميع المعلومات التي نتلقاها.
نحتاج جميعًا إلى أدوات أفضل للتعامل مع بيئة إعلامية معقدة، لذلك يجب أن تتوسع جهود محو الأمية الرقمية لتتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي وتشمل مساعدة الأشخاص على تقييم أي معلومة بدءًا من مقطع فيديو على تيك توك وصولا إلى حلقة بودكاست مطولة.
ولاستعادة ثقة الجمهور، سيتعين على منصات التواصل الاجتماعي أن تتحلى بمزيد من الأخلاقيات؛ ينبغي أن تكون شفافة بشأن الإعلانات والرعاية وسياسات الإشراف، وأن توضح كيفية التوصية بالمحتوى. وينطبق هذا التوقع أيضًا على البودكاست وخدمات البث وغير ذلك من الوسائط الرقمية، والتي يمكن إساءة استخدامها جميعًا من قبل أشخاص يريدون تضليل الآخرين أو إيذاءهم.
كما يمكن للحكومات تعزيز المساءلة من خلال الرقابة المنصفة، لكن القواعد لن تُجدي نفعًا إلا إذا اقترنت بمنصات تتصرف بمسؤولية. وكانت الحكومة الأسترالية قد أصدرت تقريرًا في وقت سابق من هذا العام، يؤكد على أن منصات التواصل الاجتماعي تتحمل “واجب رعاية” تجاه مستخدميها. فعلى سبيل المثال، ينبغي عليها الحد بشكل استباقي من انتشار المحتوى الضار.
وختامًا، تعتمد بيئة المعلومات الصحية على مواطنين متشككين ولكنهم منخرطون، ومعايير أخلاقية أقوى عبر المنصات، وأنظمة مساءلة تُكافئ الشفافية والموثوقية.
خلاصة القول إن الثقة أو عدم الثقة وحدها لا تُغير ما إذا كانت المعلومات التي تتلقاها صادقة بالفعل، لا سيما في بيئة الإنترنت حيث يمكن لأي شخص قول أي شيء.