كثيرًا ما يكون من المطلوب التنبؤ بتطور جيوسياسي معين حول العالم، لكن ترك الأمر هذا لشخص بمفرده فقط يُولد الكثير من الأخطاء حيث يعدّ التنبؤ بالمستقبل صعبًا، ربما يستثنى من ذلك أسلوب دلفي وهو طريقة للتنبؤ تعتمد على الذكاء الجماعي لفريق من الخبراء من خلال عملية منظمة تتضمن جولات من الاستبيانات وملاحظات مجهولة المصدر، حيث تساعد هذه العملية التكرارية في معالجة القضايا المعقدة من خلال الحصول على إجماع موثوق من جانب الخبراء.
لكن فئة جديدة من أسواق التنبؤ تُحاول جاهدةً القيام بتلك المهمة، وهو ما تناوله مقال نشره مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، نستعرضه على النحو التالي:
- نتائج الأحداث الجيوسياسية الطارئة
على منصات بولي ماركت و”كالشي- Kalshi” (سوق التنبؤ القانوني الوحيدة والأكبر في الولايات المتحدة) وعدد من المنصات الأخرى، بات يُمكنك الآن المراهنة بشكل كبير على نتائج الأحداث الجيوسياسية الطارئة، مثل احتمال وقف إطلاق النار في أوكرانيا بحلول عام 2026 (الاحتمال 25%)، واحتمال غزو الصين لتايوان في عام 2025 (الاحتمال 6%)، ونهاية حكم علي خامنئي كمرشد أعلى لإيران في عام 2025 (الاحتمال 19%).
وراهن المضاربون خلال العام الحالي -حتى الآن- بعشرات الملايين من الدولارات في هذه الأسواق، مع ارتفاع مُطرد في حجم المعاملات يومًا بعد يوم. وكان المضاربون قد وضعوا ما يزيد على مليار دولار في الرهانات على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 فقط.
وبصرف النظر عن القضايا الأخلاقية والقانونية التي تطرحها هذه الأسواق، فإن هذه المنصات تُعد تجربة ديمقراطية مثيرة للاهتمام، لا سيما بالنسبة لمجتمع السياسة الذي يُقدر الخبرة تقديرًا كبيرًا. وتجدر الإشارة إلى أن حكمة الجماهير ليست بالأمر الجديد. ففي عام 1907، صمّم العالم البريطاني الموسوعي السير فرانسيس غالتون -أحد رواد علم النفس التجريبي-، تجربة بسيطة: في معرض للماشية، جمع 787 ورقة مراهنة مقابل رسوم رمزية من سكان المدينة والمزارعين على حد سواء، وطلب من كل منهم تخمين وزن ثور رابح. تفاوتت التخمينات الفردية على نطاق واسع، لكن متوسط التخمين بلغ 1207 أرطال، أي ما يزيد بنسبة %1 فقط على الوزن الحقيقي للثور. واعتبر غالتون أن هذه النتيجة تُعزز مصداقية الحكم الديمقراطي أكثر مما كان متوقعًا.
لكن تقييم الثور شيء، وتقييم المخططات الجيوسياسية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وغيره من قادة العالم شيء آخر.
في يونيو الماضي، عندما قال ترامب إنه يفكر في توجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، رفض العديد من الخبراء في شؤون الشرق الأوسط احتمال توجيه ضربات أمريكية على الأقل في تلك اللحظة، بينما لم تكن أسواق التنبؤ رافضة لذلك، لقد خصصت احتمالًا بنسبة 58% للضربات الأمريكية بحلول نهاية الأسبوع. وكما اتضح، كانت سبع قاذفات شبح من طراز B-2 في طريقها إلى المجال الجوي الإيراني، مسلحة بأربع عشرة قنبلة خارقة للتحصينات.
- أسواق التنبؤ في مجتمع الاستخبارات الأمريكي
وعلى الرغم من أنها كانت رائجة في عشرينيات القرن الماضي، فإن أسواق التنبؤ كانت من المحرمات وغير قانونية إلى حد كبير في الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين. لكن الحكومة في الواقع ليست غريبة على مثل هذه الأسواق. في مرحلة ما، كان جهاز الأمن القومي مستخدمًا قويًا لها. ففي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قام مجتمع الاستخبارات بتشغيل سوق تنبؤ داخلية على شبكته المصنفة المسماة سوق تنبؤ مجتمع الاستخبارات.
وعلى المنصة، تداول أكثر من 4000 مستخدم – من بينهم أعضاء من مجتمع الاستخبارات – أكثر من 190 ألف مرة على أسئلة التنبؤ الجيوسياسي. كما استثمر نشاط مشاريع البحوث المتقدمة في الاستخبارات في العديد من برامج ابتكار التنبؤ واسعة النطاق، بما في ذلك برنامج التقدير التجميعي الطارئ ومسابقة التنبؤ الهجين.
والآن مع استعداد شركة بولي ماركت (المدعومة الآن من دونالد ترامب جونيور نجل الرئيس الأمريكي) لدخول الولايات المتحدة بعد معركة قانونية مطولة، واتباع لجنة تداول العقود الآجلة للسلع نهجًا متساهلًا في التنظيم، بما في ذلك قرارها بالسماح ببعض أشكال المراهنات الرياضية على هذه المنصات، هناك تساؤل أعمق: ما الفائدة الحقيقية لأسواق التنبؤ الحديثة لا سيما في مجال السياسة الخارجية؟ تشير الدراسات إلى ثلاثة احتمالات متداخلة، وهي التحوط من المخاطر الاقتصادية للأحداث الواقعية، وتحديد الأسعار وبالتالي التنبؤ بالأحداث الواقعية، وأخيرًا إسعاد المراهنين.
تفشل أسواق التنبؤ اليوم في النقطة الأولى، وتحقق تقدمًا في النقطة الثانية، وتحقق نجاحًا باهرًا في النقطة الثالثة. ومن غير المرجح أن تتغير هذه الديناميكيات في المستقبل القريب.
- قيود على الأحداث المسموح للأسواق التنبؤ بها
في جوهرها، تُعتبر الأسواق مجمعات معلومات، فعندما يتم التسعير في السوق بشكل خاطئ، يكون لدى المشاركين في السوق حافز مالي لإجراء صفقة وتصحيح الخطأ، وبالتالي نشر المعلومات، لكن قدرة الأسواق على تجميع المعلومات لا تزيد إلا بقدر سيولتها وعمقها.
وفي هذا الجانب، تفشل أسواق التنبؤ الجيوسياسي بشكل عام، فحتى الآن، كانت معظم أسواق التنبؤ – باستثناء أسواق نتائج الانتخابات – قليلة التداول. وقد تظل السيولة مقيدة لعدد من الأسباب؛ لا يوجد سوى اهتمام عام متواضع وقيمة اقتصادية ضئيلة في نتائج أحداث جيوسياسية معينة. كما أنه من المرجح أن يتحوط أولئك الذين لديهم مصالح مالية كبيرة على المحك من المخاطر عبر أسواق التأمين بدلًا من الاعتماد على أسواق التنبؤ.
كما أن هناك قيودا على الأحداث المسموح للأسواق بالتنبؤ بها، إذ يحظر القانون الأمريكي على البورصات المرخصة في الولايات المتحدة مثل كالشي، تقديم عقود حول التنبؤ بأحداث الإرهاب والحرب والاغتيالات. وصحيح قد تقدم طعون في هذه القيود أمام المحاكم، لكنها موجودة لسبب وجيه، سواءً كمسألة ذوق أو لتجنب الاحتمال الخفي بأن يرتكب الشخص مثل هذه الأفعال لتصفية مركزه السوقي.
وختامًا، إن أسواق التنبؤ ليست سببًا لتجاهل الخبرة – بما في ذلك مشورة العلماء والخبراء المتخصصين ومتابعة النشرات الصادرة عن مراكز الفكر والبحث كنشرة مجلس العلاقات الخارجية-، فهذه السوق ليست بديلاً عن الخبرة في المجالات موضع التناول، بل هي مُكمّل.
بعبارة أخرى، يُمكن استخدام أسواق التنبؤ اليوم لتجاوز الغموض، ولكن ليس للوصول إلى جوهر المسألة. ومع ذلك تشهد أسواق التنبؤ نموًا متزايدًا رغم محدوديتها.