في تحرك جديد يعكس الدور القيادي العالمي الذي تضطلع به الدبلوماسية السعودية في اتخاذ زمام المبادرة لحشد الجهود من أجل التصدي للأزمات الدولية المستعصية، جاء انطلاق أعمال المؤتمر الدولي رفيع المستوى حول التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك، وذلك برئاسة المملكة وفرنسا، ومشاركة عدد كبير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية وهيئات الأمم المتحدة المتخصصة ومنظمات المجتمع المدني، وسط مقاطعة الولايات المتحدة وإسرائيل.
ويهدف المؤتمر إلى حشد الزخم للقضية الفلسطينية من خلال البناء على المبادرات الوطنية والإقليمية والدولية واعتماد تدابير ملموسة لتعزيز احترام القانون الدولي ودفع سلمي عادل ودائم وشامل يضمن الأمن للجميع. كما يشكل منصة لإعادة تأكيد الدعم الدولي لحل الدولتين والتخطيط والتنسيق لتنفيذ هذا الحل والهدف الأسمى المتمثل بإنهاء الاحتلال وتجسيد قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وفقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة ومرجعية مؤتمر مدريد لعام 1991 ومبادرة “السلام العربية” لعام 2002.
وفي إطار المؤتمر الذي ينعقد على مدى يومين، تُعقد 3 مناقشات دائرة مستديرة، تتناول إحداها المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار. ومن المقرر أن يتحدث في المؤتمر أكثر من 120 مسؤولًا ومندوبًا، وفقا للموقع الرسمي للأمم المتحدة.
ويحظى المؤتمر بتقدير كبير من جانب المجتمع الدولي، وقد وصفه رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فيلمون يانغ، بالفرصة الحاسمة التي يجب اغتنامها لرسم مسار لا رجعة فيه نحو تطبيق حل الدولتين، كما اعتبرته وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، روز ماري ديكارلو فرصة مهمة ونادرة لحشد خطوات لا رجعة فيها باتجاه إنهاء الاحتلال وتوحيد الضفة الغربية وغزة تحت سلطة فلسطينية واحدة وشرعية وتحديد الهدف المشترك المتمثل في حل الدولتين القابل للتطبيق.
وتعترف الآن 142 دولة على الأقل من أصل 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر عام 1988.
- كلمة وزير الخارجية السعودي أمام المؤتمر
جاء افتتاح أعمال المؤتمر بكلمة لسمو وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، سلط من خلالها الضوء على ثوابت الموقف السعودي من القضية الفلسطينية، ورؤيتها لوضع حد للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية، فضلًا عن المسار الواجب اتباعه لتحقيق السلام والأمن والاستقرار للمنطقة، والذي يستند إلى أحكام القانون الدولي والشرعية الدولية.
ونستعرض فيما يلي أبرز مضامين الكلمة:
- محورية حل الدولتين
- تأكيد أن المؤتمر يشكّل محطة مفصلية نحو تفعيل حل الدولتين وإنهاء الاحتلال وتجسيد رؤية عادلة ومستدامة للسلام في الشرق الأوسط.
- أهمية تضافر الجهود الدولية من خلال المؤتمر لدعم الشعب الفلسطيني في بناء مؤسساته ودعم التسوية السلمية.
- مبادرة السلام العربية المعتمدة في قمة بيروت عام 2002 هي أساس جامع لأي حل عادل وشامل.
- أهمية دعم التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين كإطار عملي لمتابعة مخرجات هذا المؤتمر وتنسيق الجهود الدولية نحو خطوات واضحة محددة زمنيا لإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية.
- إعلان فرنسا حول الدولة الفلسطينية
- الإشادة بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزم بلاده الاعتراف بدولة فلسطين.
- اعتبارها خطوة تاريخية تعكس تنامي الدعم الدولي لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وتسهم في تهيئة الأجواء الدولية لتحقيق حل الدولتين.
- رؤية السعودية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة
- تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار لجميع شعوب المنطقة يبدأ بإنصاف الشعب الفلسطيني وتمكينه من نيل حقوقه المشروعة وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
- الدولة الفلسطينية المستقلة هي مفتاح السلام الحقيقي في المنطقة.
- الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة
- ضرورة الوقف الفوري للكارثة الإنسانية الناجمة عن الحرب والانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة، ومحاسبة المسؤولين عنها وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب.
- الدعم الفوري والمتواصل المقدم من السعودية منذ بدء الأزمة الإنسانية الكارثية في قطاع غزة والتصعيد الخطير في الضفة الغربية.
- تخلي الولايات المتحدة عن حل الدولتين
على مدار ربع القرن الماضي، دعت السياسة الأمريكية – التي أيدتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء – إلى حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال تعزيز حل الدولتين، ويعني هذا عمليًا إقامة دولة فلسطينية، إلى جانب إسرائيل.
وبرزت فكرة أن هاتين الدولتين المتعايشتين يمكن أن تُوفرا نهاية دائمة للصراع رسميًا في يونيو 2002 كجزء من خريطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط التي أعلنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن واعتمدتها اللجنة الرباعية الدولية المعنية بالشرق الأوسط، والتي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بحسب موقع “ذا كونفرزيشن” الأسترالي.
وقد اتخذ الرئيسان الأمريكيان بوش الابن وباراك أوباما خطوات فعالة لدفع حل الدولتين، بما في ذلك المشاركة المباشرة في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي ولايته الأولى، قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته الخاصة، التي أطلق عليها “صفقة القرن”.
وتحت عنوان فرعي “حل واقعي قائم على دولتين”، رسمت الخطة مسارًا نحو إقامة دولة فلسطينية إذا استوفت القيادة السياسية الفلسطينية مجموعة من المعايير. وواصل الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن الترويج لحل الدولتين باعتباره السبيل الأكثر جدوى لحل النزاع.
ولكن لسنوات، ساور المراقبين الدوليين القلق بشأن جدوى حل الدولتين في ظل معارضة الحكومات الإسرائيلية اليمينية، واستمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، والانقسام الفلسطيني.
في السنوات الأخيرة، كان حل الدولتين يبدو أقل احتمالًا يومًا بعد يوم. وقد أشار قرار إدارة ترامب عام 2017 بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها إلى تراجع الولايات المتحدة عن دورها كوسيط.
وفي ولاية ترامب الرئاسية الحالية، صرّح السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، في مقابلة مع وكالة بلومبرغ الأمريكية بأنه يعارض إقامة دولة فلسطينية في الوقت الحالي، مشيرًا إلى أنه “ما لم تحدث بعض التغييرات المهمة التي تُغيّر الثقافة الفلسطينية، فلا مجال لها”.
وعندما سُئل عما إذا كان إقامة دولة فلسطينية لا يزال هدف السياسة الأمريكية، أجاب هاكابي: “لا أعتقد ذلك”.
وبحسب مصادر دبلوماسية لوكالة رويترز للأنباء، مارست إدارة ترامب ضغوطًا دبلوماسية واسعة لمنع الحكومات من المشاركة في مؤتمر نيويورك، عبر إرسال برقيات تحثها على عدم الحضور.
- تزايد الاعترافات الدولية بفلسطين
شهد العام الماضي، تصاعدا في وتيرة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية حيث أقر برلمان سلوفينيا مرسومًا يعترف بدولة فلسطين، وسبقه اعتراف ثلاث دول أوروبية أخرى هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج، و 4دول تقع في منطقة الكاريبي بدولة فلسطين هي جامايكا وترينيداد وتوباغو وبربادوس وجزر الباهاما.
وجاء ذلك الحراك رغم استخدام الولايات المتحدة في منتصف أبريل 2024 حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور قرار يهدف إلى جعل فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. وبأغلبية 143 صوتًا اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 مايو 2024 قرارًا يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب. كما يحدد طرقًا لإعمال حقوق وامتيازات إضافية تتعلق بمشاركة فلسطين بالأمم المتحدة.
وقد بات واضحًا للمجتمع الدولي أن الوضع الراهن حيث استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة الغربية غير قابل للاستمرار سواء من أجل حقوق الفلسطينيين أو تحقيق الأمن لإسرائيل.
كما أن انهيار وقف إطلاق النار في غزة، وعودة العمليات البرية الإسرائيلية المكثفة في مايو الماضي، والتقارير عن المجاعة الجماعية للفلسطينيين في القطاع، لم تُسهم إلا في زيادة عزلة الحكومة الإسرائيلية وأصبح مؤيدو إسرائيل يشعرون بالإحباط بشكل متزايد بسبب غياب أهداف استراتيجية واضحة في غزة.
ويبدو أن الكثيرين منهم الآن مستعدون لتجاهل رغبات تل أبيب والاتجاه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهذه الحكومات تأمل أن يؤدي هذا الاعتراف إلى إعادة بناء الإرادة السياسية نحو حل الدولتين.
ولا شك أنه لا تزال هناك عقبات هائلة في مقدمتها الحرب في غزة، فمن البديهي أن هذه الحرب يجب أن تنتهي، بموافقة الطرفين على وقف إطلاق نار دائم، كما أن الإرادة السياسية في إسرائيل لحلّ الدولتين شبه معدومة. ولم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في معارضته للدولة الفلسطينية، وهو موقف يشاركه فيه أعضاء حكومته اليمينية المتطرفة وقد انعكس هذا أيضًا في الإجراءات السياسية، ففي أوائل مايو الماضي، وافق مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي على خطة لاحتلال أجزاء من غزة إلى أجل غير مسمى.
كما وافقت الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا على بناء 22 مستوطنة إسرائيلية جديدة في أكبر توسع للمستوطنات في الضفة الغربية منذ اتفاقية أوسلو عام 1993. ولا تزال هذه المستوطنات تُمثل مشكلة رئيسية أمام حل الدولتين. ويبلغ إجمالي عدد المستوطنين الإسرائيليين أكثر من 700 ألف مستوطن في كل من القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين. ويتزايد هذا العدد بوتيرة أسرع منذ انتخاب حكومة نتنياهو المؤيدة للاستيطان في عام 2022.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الملف الخاص بالحكومة الفلسطينية من بين التحديات أيضًا سواء ما يتعلق بمسألة إصلاح السلطة الفلسطينية أو استبعاد حركة حماس من لعب أي دور في حكم الدولة الفلسطينية المستقبلية وهو شرط رئيسي للدول التي تدرس الآن الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين.
وختامًا، يمكن القول إن مؤتمر حل الدولتين في نيويورك من المحطات المفصلية على مسار حراك عالمي تقوده المملكة العربية السعودية منذ سبتمبر 2024 داخل أروقة الأمم المتحدة حينما أعلن سمو الأمير فيصل بن فرحان عن إطلاق “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين” بالتعاون مع النرويج والاتحاد الأوروبي، في تأكيد على مركزية القضية الفلسطينية في السياسة الخارجية للمملكة، واستمرارية للدور السعودي المبادر وانخراط المملكة الفاعل في جهود التسوية عبر العديد من المبادرات التي أطلقتها مثل المبادرة التي تبنتها القمة العربية بمدينة فاس المغربية عام 1982 ومبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002.
لقد استطاعت الدبلوماسية السعودية استثمار وصول المجتمع الدولي إلى نقطة تحول سياسية فيما يتعلق بحل الدولتين، من أجل تهيئة الأجواء لتزايد الزخم مجددًا حول هذا الحل كمسار لا غنى عنه لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.