شكلت المحادثات الأمريكية الروسية في الرياض يوم 18 فبراير الجاري، نقطة انطلاق لبداية جهود إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإذابة الجليد في العلاقات مع موسكو، إذ أسفرت عن اتفاق لاستئناف عمل البعثات الدبلوماسية في البلدين، بالإضافة إلى وضع برنامج لإنهاء الحرب في أوكرانيا، كما مهدت لقمة تجمع ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في المملكة خلال أيام، في خطوة تظهر تصاعد النفود الدولي للسعودية ومحوريتها في سياسات وتحركات القوى الكبرى في النظام العالمي ودورها الحيوي في صنع السلام وتسوية الصراعات الدولية، بجانب المكانة المركزية للمملكة في السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط ولا سيما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
- استضافة القمة بحضور سمو ولي العهد
تمثل قمة ترامب وبوتين المرتقبة في السعودية تجسيدًا عمليًا للدور الرائد الذي تضطلع به المملكة فيما يخص دبلوماسية القمم والتي تستند إلى مساعي السعودية على الدوام إلى ترسيخ احترام قواعد القانون الدولي ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والدعوة إلى السلام والاستقرار، وهي نتاج لتمتعها بعلاقات متوازنة مع مختلف الأطراف على الساحة الدولية، مما أكسبها القدرة على التوسط في النزاعات العالمية الأكثر تعقيدًا ومنها الحرب الروسية الأوكرانية، ومن المؤشرات على ذلك نجاح وساطتها في إتمام أكثر من عمليات تبادل أسرى بين موسكو وكييف.
كما لعب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، دورًا فعالاً في الوساطة التي أدت إلى صفقة تبادل للسجناء أفرجت روسيا بموجبها عن المعلم الأمريكي، مارك فوغل، بعد سجنه لأكثر من ثلاث سنوات، بحسب ما صرح به المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
ولن يقتصر دور المملكة على استضافة قمة ترامب وبوتين بل ستكون منخرطة أيضًا في المحادثات، إذ صرح الرئيس الأمريكي بأنه سيلتقي نظيره الروسي في السعودية بحضور ولي العهد.
كما أكد ولي العهد السعودي خلال اتصال هاتفي مؤخرا تلقاه من الرئيس الروسي على التزام المملكة ببذل الجهود الممكنة لتعزيز الأمن والسلام في العالم، إيمانًا منها بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل جميع الأزمات الدولية.
وبحسب مراقبين، يتوقع ألا تركز القمة فقط على إنهاء حرب أوكرانيا، بل أيضًا على أسعار النفط العالمية والتعاون الاقتصادي، في ضوء طلب ترامب من منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” خفض أسعار النفط، حيث تقود السعودية وروسيا تحالف “أوبك بلس” الذي يلعب دورًا رئيسيًا في اتخاذ قرارات بشأن حجم إنتاج النفط في السوق العالمي.
- أول رحلة خارجية لترامب في ولايته الرئاسية الثانية
تعكس زيارة ترامب للرياض في أول رحلة خارجية له منذ توليه مهام منصبه في 20 يناير الماضي، تقدير الإدارة الأمريكية لمحورية دور السعودية في المنطقة والعالم، واستراتيجية العلاقات بين البلدين. كما أنها تأتي في توقيت بالغ الأهمية بالنسبة للتطورات في الشرق الأوسط لا سيما القضية الفلسطينية في ضوء الأفكار التي طرحها ترامب بشأن مستقبل قطاع غزة وارتكزت على عملية تهجير للفلسطينيين من القطاع، الأمر الذي قوبل برفض عربي ودولي واسع، إذ تصدرت السعودية هذا المشهد فكانت أول دولة تصدر بيانًا عبرت فيه عن رفضها القاطع للمساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي أو ضم الأراضي الفلسطينية أو السعي إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وشددت على ثبات ورسوخ موقف المملكة من قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون ذلك.
وكان من اللافت تحول لهجة الرئيس الأمريكي قبيل أيام من تلك الزيارة، حيث صرح خلال حوار أجراه مع محطة “فوكس نيوز” الأمريكية بأنه لن يفرض خطة تهجير الفلسطينيين من غزة بل “يقترحها”، وذلك بعد أسابيع من إظهاره إصرارًا على تنفيذ الخطة التي شابها العديد من الغموض الذي عكسته تصريحاته المتتالية بحديثه عن “السيطرة على غزة” ثم “امتلاك غزة”، و”إدارة غزة”، وأخيرًا “شراء غزة”.
وجاء التغير في لهجة ترامب بالتزامن مع لقاء في الرياض دعا له ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ضم قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن جرى خلاله التشاور وتبادل وجهات النظر حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية، خاصة الجهود المشتركة الداعمة للقضية الفلسطينية، وتطورات الأوضاع في قطاع غزة، قبيل القمة العربية الطارئة بالقاهرة الثلاثاء المقبل.
- ترقب عالمي للقمة الأمريكية الروسية في السعودية
تسود حالة من الترقب العالمي لما ستفسر عنه القمة بين ترامب وبوتين في الرياض، وذلك على وقع التراشق الإعلامي بين الرئيس الأمريكي ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال الأيام الماضية، إذ وصف ترامب الرئيس الأوكراني بأنه “ديكتاتور”، فيما اعتبر زيلينسكي أن ترامب يعيش في “مساحة من التضليل الروسي”، وبجانب تلك التوترات أيضًا تأتي مساعي الرئيس الأمريكي لاستعادة أموال المساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة إلى كييف منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، وذلك من خلال اتفاقية تتصل بموارد أوكرانيا من المعادن النادرة، رفض زيلينسكي التوقيع عليها قائلا إن “10 أجيال من الأوكرانيين سوف يدفعون ثمنها”.
ولم تقتصر تلك التوترات على صعيد العلاقة بين واشنطن وكييف، بل امتدت إلى القارة الأوروبية حيث اتهم ترامب كلا من بريطانيا وفرنسا بأنهما لم يفعلا شيئًا لإنهاء حرب أوكرانيا، وانعكس الخلاف الأمريكي الأوروبي بخصوص أوكرانيا في صورة مشروعي قرار- تصوت عليهما الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال ساعات-، حيث طرحت الولايات المتحدة مشروع قرار يدعو إلى نهاية سريعة للحرب بين موسكو وكييف، دون الإشارة إلى وحدة الأراضي الأوكرانية.
ويأتي مشروع القرار الأمريكي منافسًا لآخر أوكراني تدعمه أوروبا، يدعو إلى تبني المبادرات والمقترحات الأوروبية الرامية إلى اتفاق سلام “دائم وشامل” يضمن حقوق أوكرانيا وسيادتها، ويشدد على ضرورة انسحاب فوري وغير مشروط للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها منذ بداية الحرب.
وختامًا، يمكن القول بأن استضافة السعودية للقمة بين الرئيسين الأمريكي والروسي، ثمرة لسياسة حكيمة تقوم على الانفتاح المتوازن على القوى العالمية، والتزام الحياد الإيجابي في الصراعات الدولية عبر بذل مساعي الوساطة والتوفيق بين الأطراف المتصارعة، كما أن تلك القمة تعزز من القوة الناعمة للسعودية.