تحظى الدراما بأهمية بالغة لما تعرضه من مضامين تتناول القضايا والموضوعات المتعلقة بتفاصيل واقعنا وعلاقتنا بأنفسنا والآخرين بشكل يُسهم في خدمة الفرد وتنمية المجتمع؛ ويساعد في عملية البناء القيمي للفرد شريطة أن يكون ذلك قائما على محتوى جيد وهادف يُعالج المشكلات الحقيقية في المجتمع، وبالتالي تُعزز الدراما تكوين السلوك الفردي والمجتمعي بشكل عام، وتُسهم في ترسيخ أو تغيير بعض المفاهيم والعادات بما يتماشى مع الواقعين الاجتماعي والثقافي في المجتمع.
في المقابل، أثارت بعض الأعمال الدرامية حالة من الاستياء الجماهيري، وذلك إما بسبب تناولها لقصص غير واقعية في مجتمعاتنا، أو نتيجة طريقة تناولها لقضية ما بأسلوب فج يُبالغ في السلبيات، أو محاولة تعميم سلوكيات فردية وتصويرها على أنها ظاهرة مجتمعية؛ الأمر الذي من شأنه التأثير سلبًا على تماسك المجتمع والنسق القيمي لأفراده.
وفي هذا الصدد، يجب الإشارة إلى الجدل الدائم بين فكرة الإبداع والمسؤولية الاجتماعية، فيرى البعض ضرورة توفير الحرية الكاملة للإبداع، بينما يختلف البعض الآخر مع هذا الرأي وذلك من منطلق أن الإبداع يجب أن يكون محكومًا بإطار أخلاقي نابع من هوية وثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، وأن تكون المسؤولية الاجتماعية مرجعية رئيسية لصُنّاع الأعمال الدرامية، حيث تتضمن المسؤولية الاجتماعية ثلاثة أبعاد، الأول اجتماعي يختص بالجوانب الحياتية التي يجب مراعاتها في الأعمال الدرامية مثل الحفاظ على قيم المجتمع واحترام هويته وخصوصيته؛ أما الثاني فهو أخلاقي يتعلق بمعايير الأداء الأخلاقية الواجب الالتزام بها سواء من حيث المشاهد أو الحوار والألفاظ المُستخدمة؛ ويتمثل الثالث في البعد المهني الخاص بـالقيم المهنيـة التي يجب مراعاتهـا في العمـل الـدرامي مثـل عمق المعالجـة، ومواكبـة القضـايا المطروحة للمُستجدات المُجتمعية.
وانطلاقًا من حرص مركز القرار للدراسات الإعلامية على رصد تفاعلات المستخدمين السعوديين حول مختلف الظواهر الإعلامية، ونظرًا لحالة الغضب والاستياء الشعبي التي أثارها مسلسل “ثانوية النسيم” فور عرض الحلقات الأولى منه وامتدت إلى وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة منصة “إكس”، فقد قام المركز بتحليل عينة عشوائية من التفاعلات بلغت (100 تفاعل) وذلك من أجل التعرف على اتجاهاتهم وأطر تناولهم للمسلسل واستكشاف أبرز أطروحاتهم المركزية التي ركزوا عليها في تفاعلاتهم. وقد انتهت النتائج إلى ما يلي:
- أولًا: حجم النشاط على الموضوع
حظي مسلسل “ثانوية النسيم” بمعدل تفاعل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة منصة “إكس”، سواء من خلال التفاعل باستخدام اسم المسلسل، أو التفاعل على هاشتاق (#ثانوية_النسيم) الذي شهد نشاطًا ضخمًا من جانب المستخدمين بلغ خلال يوم 5 فبراير 2024م فقط ما يلي:
(4,200) منشور خلال اليوم.
(2,900) مستخدم فريد “غير مكرر”.
(3,600) تفاعل للمستخدمين مع مضامين الهاشتاق.
(3,3) مليون وصول لمضامين الهاشتاق.
وتعكس هذه المؤشرات الكمية مدى الاهتمام الجماهيري بالمسلسل، وحالة الجدل الواسعة التي أثارها.
- ثانيًا: الاتجاه
عبّر أغلب المتفاعلين (79%) عن رفضهم للمسلسل وما يتضمنه من محتوى، مؤكدين أن هذا النمط من الأعمال الدرامية يُشوه المجتمع ويُؤثر سلبًا على النسق القيمي لأفراده، وأضافوا أن المسلسل لا يعكس الواقع الفعلي ولا يُمثل المجتمع السعودي.
أما المؤيدون للمسلسل والذين بلغت نسبتهم (21%) فقد أرجعوا أسباب تأييدهم إلى أكثر من عامل، أبرزها أن هناك مبالغة في ردة الفعل على المسلسل، وأن رفض المسلسلات والأعمال الفنية يُعرقل عملية تطور الفن في المملكة العربية السعودية. ويمكن الرد على هذا الطرح بأن الدراما يجب أن تكون عاكسة لواقع المجتمع، وإذا افترضنا أن القضية التي تضمنها المسلسل واقعية، فكان من الأفضل تناولها دون المبالغة في نقل المشاهد التي تعكس سلوكيات سلبية، خاصة وأن الجمهور المُخاطب في المسلسل يتمثل بشكل أساسي في فئة المراهقين الذين يميلون إلى التقليد والرغبة في الاستقلال بالذات ورفض القيود الأسرية في هذه المرحلة العمرية.
- ثالثًا: طبيعة المضمون
جاءت أغلب التفاعلات “وصفية” وذلك بنسبة (57%)، وفيها حرص المستخدمون على توصيف مسلسل “ثانوية النسيم” باعتباره:
- يُشوه صورة المجتمع.
- يُروج للسلوكيات السلبية وخاصة العنف.
- يهدم صورة المعلم بإبراز سطوة الطالب عليه.
- يخلو من أي رسائل توعوية.
- محاكاة لمسرحية مدرسة المشاغبين التي أثّرت سلبًا على المنظومة التعليمية بمصر.
وفي المرتبة الثانية حلّت فئة “النتائج المترتبة” بنسبة (31%)، وفيها ركّز المتفاعلون على الآثار السلبية التي قد تنتج عن هذا العمل الدرامي، وفي مقدمتها إمكانية تجاوز وتطاول الطلاب على معلميهم، وما يترتب عليها من تداعيات على المنظومة التعليمية في المملكة، مؤكدين أن فئة المراهقين لديهم القابلية لتقليد أبطال العمل، وبالتالي قد يتأثر نسقهم القيمي والأخلاقي، مما يُشكل تهديدًا للمجتمع.
فيما جاءت فئة “اقتراح حلول” بالمرتبة الثالثة بنسبة (12%)، حيث طالب بعض المتفاعلين بضرورة وقف عرض المسلسل، وناشدوا بأهمية حثّ الأبناء على عدم متابعته، فضلًا عن التشديد على أهمية أن تُبرز الأعمال الفنية السلوكيات الحميدة، وتُركز على إيجابيات المجتمع، وتُروج للنماذج الإيجابية لكي يقتدي بها النشء.
- رابعًا: الأطر المرجعية
تناولت النسبة الأكبر من التفاعلات المسلسل من المنظور “الاجتماعي” وذلك بنسبة (66%)، وقد اختلف هذا التناول ما بين التأكيد على أن أحداث المسلسل لا تعكس واقع العملية التعليمية في المجتمع السعودي؛ ورفض مضمونه حتى وإن كان سيحمل رسالة إيجابية في نهايته؛ وإبراز تداعياته السلبية على طبيعة العلاقة بين المعلم والطالب؛ مشيرين إلى أن المسلسل يُشوّه المجتمع السعودي. في المقابل، رأت قِلة من المتفاعلين أن المسلسل ينقل الواقع الفعلي ويُحاكي المجتمع دون تزييف.
وجاء الإطار “الأخلاقي” في المرتبة الثانية بنسبة (25%)، وفيها ركّز المتفاعلون على تسليط الضوء على الآثار السلبية على النسق الأخلاقي لأبناء المملكة والتي قد تنتج عن تعرضهم لهذا العمل، ومنها على سبيل المثال هدم قيمة احترام الآخرين خاصة المعلم. جدير بالذكر أن الإطار الأخلاقي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالإطار الاجتماعي، فانهيار النسق الأخلاقي في أي مجتمع يُؤثر بشكل مباشر على تماسك المجتمع وترابطه.
أما الإطار “الفني” فجاء في المرتبة الثالثة بنسبة (9%)، وكان من اللافت أن أغلب المتفاعلين وفق هذا الإطار كانوا من المؤيدين للمسلسل، حيث ركّزوا تفاعلاتهم على تناول الموضوع من منظوره الفني واعتبار أن المسلسل هو عمل إبداعي، ويجب أن يكون نقده من هذا المنطلق فقط.
ختامًا.. أظهرت تفاعلات المستخدمين السعوديين سيطرة الاتجاه الرافض لمسلسل “ثانوية النسيم”، حيث عكست استياءهم مما تضمنته الحلقات الأولى للمسلسل من سلوكيات تتعارض مع هوية المجتمع السعودي ونسقه القيمي.
وكشفت التفاعلات عن تخّوف المستخدمين من التأثيرات السلبية المحتملة لعرض هذا المسلسل على أبنائهم الطلبة الذين يُمثلون الجمهور المستهدف بشكل رئيسي، خاصة وأنهم ينتمون لفئة المراهقين التي تُشكل مرحلة عمرية حرجة للغاية ترغب في الشعور بالاستقلال والإحساس بالذات، وتميل إلى تقليد كل ما هو خارج عن المألوف.
ويُعزز هذا التخوف ما أكده علماء النفس، ومنهم العالم الأمريكي “ستانلي هول” مؤسس سيكولوجية المراهقة ورائد النظرية العضوية للمراهقة، إذ أكد على أن من أهم سمات المراهقين أنها مرحلة الأزمات والإضرابات والثورة على التقاليد وكل ما هو معتاد.
كما وضعت “جمعية الاستشارة الأمريكية” مجموعة من الخصائص للمراهقة، أبرزها الميل إلى تقليد بعض سلوكيات واهتمامات مجموعات الأقران.
ويُعزز تخوف السعوديين أيضًا التجارب السابقة، حيث استشهدت بعض تفاعلات المستخدمين بما نتج عن عرض مسرحية “مدرسة المشاغبين” من مخاطر على العملية التعليمية بمصر رغم نهايتها التي أكدت على القيم الإيجابية، ولذلك كان من الأولى على صُنّاع العمل التعلم من أخطاء الآخرين.
وأخيرًا، يجب التأكيد على أنه في ظل النهضة التنموية الشاملة التي تشهدها المملكة العربية السعودية وفق رؤية السعودية 2030 التي أرسى دعائمها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وأولى فيها – حفظه الله – المواطن السعودي اهتمامًا خاصًا سواء على صعيد التنشئة الاجتماعية السليمة وتعزيز الانتماء والتمسك بالهوية والعادات والتقاليد الأصيلة والحرص على توفير أعلى نظم التعليم للمواطنين، أو على صعيد الاهتمام بالفن والثقافة التي تُسهم في تشكيل وعي السعوديين، فمن الضروري أن تكون الأعمال الفنية مواكبة لما تصبو إليه الرؤية الطموحة خاصة فيما يتعلق بتعزيز القيم، وتقدير المعلم الذي يُشكل حجر الأساس في العملية التعليمية التي تُعد إحدى ركائز التقدم والتطور في المجتمع.
