شهد الإعلان الرقمي تطورات على مدار العقد الماضي، ساعد فيها نمو تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي بات استخدامها ضرورة لتحقيق التميز في الإعلان، إذ تم تسجيل زيادة في استخدام كل من الوسائط المتنقلة لتسهيل عمل العلاقات العامة عن بُعد، وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز؛ وقد جاء ذلك بالتزامن مع تحولات كبرى طرأت على إنتاج المحتوى الرقمي، أبرزها تصاعد دور المستخدمين في إنتاج المحتوى، فلم يعد الأفراد مجرد مستهلكين للمحتوى أو مستخدمين للوسائط عبر الإنترنت، مما فرض الحاجة لتطوير استراتيجيات اتصال جديدة تواكب تلك التحولات.
وفي هذا الإطار، نشرت المجلة المصرية لبحوث الرأي العام في عددها الصادر في يناير/ مارس 2023، دراسة بعنوان ” استراتيجيات الاتصال التسويقي ومستقبل صناعة المحتوى في الإعلان الرقمي”، من إعداد الدكتورة غادة سيف ثابت أستاذة العلاقات العامة المساعد في جامعة أبوظبي، حيث هدفت الدراسة إلى استشراف مستقبل استراتيجيات الاتصال التسويقي وصناعة المحتوى في الإعلان الرقمي، في ظل التغيرات التكنولوجية التي طرأت على البيئة التسويقية، وذلك من خلال مراجعة مجموعة من بحوث مستقبل استراتيجيات الاتصال التسويقي وصناعة المحتوى في الإعلان الرقمي وتحديد أهم الاتجاهات البحثية التي تناولتها الدراسات وأبرز النتائج والمداخل النظرية والنماذج التي تبنتها.
- عينة الدراسة
تنتمي الدراسة إلى نمط تحليل الدراسات من المستوى الثاني، وقد اعتمدت على عينة تشمل 40 دراسة عربية وأجنبية منشورة في 36 دورية علمية محكمة في مجال العلاقات العامة والاتصال التسويقي والإعلان، وعلوم الاتصال والتكنولوجيا، والعلوم الإدارية في الفترة من 2015 إلى 2023 منذ بدء تقنية ” web 3.0″ التي سمحت بمشاركة المحتوى ثم تقنية ” web 4.0″ واستخدام الذكاء الاصطناعي.
- نتائج الدراسة
اتجهت غالبية رؤى الباحثين في عينة الدراسة إلى بحث العلاقة بين صناعة محتوى الإعلان الرقمي والقرارات الشرائية للمستهلكين، وتيسير إتاحة المحتوى الإعلاني الرقمي والوصول إلى المستهلكين، ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى الارتباط الوثيق بين هذا الاتجاه وتحقيق الهدف النهائي للنشاط التسويقي وهو اتخاذ قرار الشراء.
كما سارت رؤى عينة الدراسة نحو الموضوعات التالية: استراتيجيات الاتصال التسويقي وأنواعها خاصة تسويق المؤثرين، موقف المستهلكين تجاه أخلاقيات الإعلان الرقمي، مفهوم الإعلان الرقمي، تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الاتصال التسويقي والإعلان الرقمي، الجدل حول حدود التنقيب عن البيانات وخصوصية بيانات العملاء. وكان من اللافت اهتمام الباحثين بدراسة تكنولوجيا إنشاء المحتوى مقارنة بصياغة محتوى الرسالة الإعلانية.
وأظهرت نتائج الدراسة خلو الغالبية العظمى من الدراسات من الاعتماد على النظريات العلمية، بينما ندر الاعتماد على النماذج والنظريات في عينة الدراسة، وكان من أهمها الحتمية التكنولوجية وثراء وسائط الإعلام.
كما اعتمدت غالبية عينة الدراسة على منهج المسح، وفي إطاره غلب استخدام مسح القائم بالاتصال وأساليب الممارسة، وتساوى تطبيق منهج تحليل الدراسات من المستوى الثاني والمنهج الاستشرافي في معظم الدراسات. وكان استخدام المنهج التجريبي محدودا، كما ندر تطبيق منهج تحليل الخطاب حيث تناولت دراسة واحدة فقط من إجمالي عينة الدراسة (40 دراسة) مراجعات المستهلكين.
واعتمدت غالبية عينة الدراسة على المقابلة والاستبيان وتحليل المحتوى بشقه الكيفي، وندر تطبيق مناقشات المجموعة المركزة.
كما أظهرت الدراسة فروقًا واضحة بين المجتمع البحثي في الدول الأجنبية والعربية، إذ اتضحت الفروق على مستويين: الأول هو مدى الاهتمام بقضية الدراسة، حيث حظيت باهتمام بحثي ملحوظ في دول شرق آسيا متمثلة في الصين وشمال إفريقيا متمثلة في مصر، بينما كان الاهتمام محدودًا في الدراسات الأجنبية في دول غربية مثل فنلندا وأيرلندا ونيوزيلندا والدنمارك.
أما عن المستوى الثاني، فتمثل في أبعاد قضايا الدراسة، ففي الدراسات الأجنبية كان من أهمها استراتيجيات التسويق الرقمي، تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لجمع بيانات المستهلكين وتفصيلاتهم وخصائصهم، والبيع بالعملات المشفرة. في حين كانت الأبعاد في الدراسات العربية محدودة، وتركزت في استراتيجيات التسويق الرقمي وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
- استشراف المستقبل
رأت الدراسة أن المؤشرات تظهر على المديين القريب والمتوسط استمرارية رواية القصص والمؤثرين كأبرز أساليب صناعة المحتوى الإعلاني، فعلى الرغم مما يوفره الذكاء الاصطناعي من تقنيات لصانعي المحتوى في الإعلان الرقمي، فإن قصور القدرات الإبداعية لآلات الذكاء الاصطناعي سيظل تحديًا واضحًا، ويدعم ذلك اعتماد رواية القصص والارتباطات الذهنية للعلامات التجارية على الحدس واللمسة الإنسانية وهو ما لا تستطيع روبوتات الذكاء الاصطناعي القيام به.
وعلى مستوى التقنيات المرتبطة بصناعة المحتوى في الإعلان الرقمي، ثمة مؤشرات على إمكانية تطبيق تقنية “البلوك تشين” في نظام الإعلانات الرقمية، وأن تتجه الإعلانات في المستقبل القريب والمتوسط إلى الاعتماد على البيانات الضخمة نظرًا لأهميتها في تخصيص الرسائل الإعلانية وتحسين الاستهداف من خلال تقسيم المستهلكين ومراقبة الحملات الإعلانية عبر الإنترنت في الوقت الفعلي.
كما أنه من المتوقع أيضًا أن يمتد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى داخل المتجر مما ييسر عملية اتخاذ القرارات الشرائية وإتمامها، وعلى الأرجح سيتزايد الجدل في المستقبل القريب والمتوسط حول إلغاء ملفات تعريف الارتباط وعلاقة ذلك بنجاح الإعلان الرقمي.
وعلى مستوى اقتصادية الإعلان، من المتوقع أن تزداد في المستقبل القريب الفرص التي سيوفرها الإعلان الرقمي عبر المنصات الاجتماعية من خلال انخفاض التكاليف وزيادة الوعي بالعلامة التجارية وزيادة المبيعات.
كما رجحت الدراسة أن يشهد المستقبل القريب نمو اتجاهات ضبط وتنظيم الإعلان الرقمي خاصة في المجتمعات الغربية بظهور تشريعات في مجال حماية الخصوصية للعنصرين الرئيسيين في العملية الإعلانية المعلنين والمستهلكين والربط بينهما وبين رفاهية المستهلك والمنافسة.
ومن المتوقع أيضًا تزايد حركة حماية حقوق المستهلك الرقمي مستقبليًا، وأن يطالب كل المؤثرين بحق التعويض عن الاسم والصورة والمحاكاة، وكذلك أن يهتم المعلنون بتوفير رسائل إعلانية أخلاقية في المحتوى الإعلاني الرقمي.
وتأسيسًا عل ما سبق، خلصت الدراسة إلى أن صناعة الإعلان الرقمي تمر بفترة انتقالية تتطلب التكيف مع التغيرت المتسارعة والمتنوعة التي طرأت على البيئة التسويقية الداخلية والخارجية للمنظمات، الأمر الذي يستدعي ابتكار استراتيجيات تسويقية ملائمة تحقق المنفعة لجميع كيانات التسويق ومن أبرزهم المسوقون والمعلنون والمطورون وصانعو المحتوى.
كما تتطلب البيئة التسويقية الرقمية بمحدداتها المتغيرة، التعامل مع الآثار المجتمعية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية للتفاعلات الآلية المتزايدة بين المنظمات والمستهلكين، والتي أصبحت تحكمها وتوجهها التكنولوجيا وتدفع بالمنظمات إلى البحث في طرق الاستفادة من الإعلان الرقمي لزيادة الولاء للعلامة التجارية والحفاظ على العملاء.
وعلى الرغم من نمو التطورات التكنولوجية وتقنياتها وما يوفره الذكاء الاصطناعي من أدوات وحلول للإعلان الرقمي، فإنه بصفة عامة يجب الحفاظ على مستوى مناسب من تحكم العنصر البشري، وإتاحة الفرصة للمستهلكين والمعلنين للسيطرة قدر الإمكان على صناعة المحتوى في الإعلان الرقمي، وإدارة تكرار المحتوى عبر المنصات الرقمية، ومراعاة خصوصية بيانات المستهلكين وحقوق المؤثرين والعلامات التجارية وعوائد الاستثمار من محتوى الإعلان الرقمي.