شهد مسار إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 خلالالأيام القليلة الماضية سلسلة من التطورات التي توحي باقترابالتوصل إلى اتفاق بين إيران والقوى الكبرى، وفي مقدمتهاالولايات المتحدة؛ فبعدما أعلنت روسيا حصولها على ضماناتمكتوبة من واشنطن بأن العقوبات المفروضة عليها لن تعيقالتعاون مع إيران، وهو ما كان يُشكّل عنصرًا يهدد بإفشالالجهود الرامية للتوصل لاتفاق، خرج وزير الخارجية الإيرانيحسين أمير عبد اللهيان، بتصريح يعلن فيه أنه ما زال هناك”موضوعان” عالقان مع الولايات المتحدة قبل إنجاز تفاهملإحياء الاتفاق النووي، كاشفًا عن أن أحدهما يتعلق بماسماه بـ”ضمانة اقتصادية”.
وبينما لم يوضح وزير الخارجية الإيراني طبيعة الموضوعالثاني، فإن تقارير إعلامية أمريكية، أفادت بأنه يتعلق برفعميليشيا الحرس الثوري الإيراني من قوائم الإرهاب، وأن إدارةالرئيس الأمريكي جو بايدن تدرس فعليًّا تلك الخطوة مقابلتعهد إيراني بخفض التصعيد في المنطقة، لافتة إلى أن تلكالخطوة ستتم في صورة تفاهم ثنائي منفصل بين واشنطنوطهران بعيدًا عن الاتفاق النووي، وأن إدارة بايدن تنظر فيإصدار إعلان ينص على احتفاظها بالحق في إعادة تصنيفالحرس الثوري إذا لم تلتزم إيران بتعهدها بخفض التصعيد. ومما لا شك فيه أن الإقدام على تلك الخطوة يجعل العالممكانًا أكثر خطورة، ويُمثّل تراخيًا شديدًا في مواجهة أكبرراعٍ للإرهاب في العالم.
● مكافأة أمريكية لنظام الملالي دون تقييدهبالتزامات واضحة
لا يوجد سبب وجيه وراء تصميم الإدارة الأمريكية الحالية علىعقد صفقة نووية جديدة مع إيران، واتجاهها في سبيل ذلكلحذف ميليشيا الحرس الثوري من قوائم الإرهاب، إذ يمكنتأطير تلك التحركات فقط في سياق “هوس التراجع” عن كل مافعلته إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي انسحب منالاتفاق في مايو عام 2018، وصنّف الحرس الثوري منظمةإرهابية في أبريل 2019 في إطار سياسة الضغط الأقصى.
وقد عمل بايدن منذ اليوم الأول لتوليه مقاليد السلطة على محوإرث ترامب، وظهر ذلك في عدد من القرارات والإجراءات، منهاعلى سبيل المثال: إلغاء قرار تصنيف ميليشيا الحوثي اليمنيةكمنظمة إرهابية، وإحجامه -حتى الآن- عن إعادة تصنيفهم، على الرغم من ارتكاب الحوثيين المزيد من الهجمات الإرهابيةضد دول الجوار، وتهديدهم لخطوط الملاحة والتجارة العالمية.
ولعل تصريح مندوب روسيا الدائم لدى منظمات الأمم المتحدةفي فيينا ميخائيل أوليانوف، وهو ممثل موسكو في المفاوضاتالنووية الإيرانية الذي قال فيه إن إيران حصلت على أكثر مماتوقعت، مؤشر واضح على الهرولة الأمريكية في التفاوض، التي شكّلت فرصة سانحة استغلها نظام الملالي في انتزاعأكبر قدر من المكاسب، والتقيد بأدنى حد من الالتزامات.
وظهرت تلك الهرولة والاندفاع في تصريحات المتحدثة باسمالبيت الأبيض جين ساكي التي أوضحت فيها صراحة أنموضوع شطب الحرس الإيراني لا يزال محل البحث، معتبرة أن الوضع الحالي (أي تصنيف الحرس الثوري على لائحةالإرهاب) لم يجعل العالم في وضع أكثر أمانًا على الإطلاق، مشيرة إلى أن الحرس الثوري الإيراني ازداد قوة منذ إدراجهعلى قائمة المنظمات الإرهابية من قبل ترامب.
ومن المثير للسخرية أن غاية ما تطلبه واشنطن من طهران هوتعهد بالالتزام بخفض التصعيد! وبينما تجري حاليًا فيالكواليس مناقشات حول طبيعة تلك الالتزامات، كانت صواريخإيران تستهدف أربيل في إقليم كردستان العراق بذريعةاستهداف “مراكز سرية للموساد الإسرائيلي”، وتحرك أذرعهاالمسلحة بالمنطقة كالحوثيين لشن هجمات إرهابية ضد المملكةفي وقت تستعد فيه الرياض لاستضافة مباحثات يمنية- يمنيةبرعاية مجلس التعاون الخليجي بهدف تسوية الأزمة اليمنية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إضافة ميليشيا الحرس الثوري إلىقائمة الإرهاب ليست مجرد خطوة رمزية، بل هي وسيلةأساسية للتنديد بالشرعية المزعومة لها – تعتبرها إيران قواتنظامية -، والحد من اتصالاتها، وفرض عقوبات اقتصاديةشديدة عليها، وبالتالي فإن إزالتها من القائمة تمهد الطريقلنمو قدراتها الاقتصادية، والتي ستستخدمها لزيادة نفوذهاالسياسي والعسكري داخل إيران، بموازاة تعليق العقوباتعلى طهران بعد توقيع اتفاق نووي جديد، بما يتيح لها ملياراتالدولارات، ويفتح المجال أمام بيع النفط الإيراني في الأسواقالدولية.
ووفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”،يُعتقد أن ميليشيا الحرس الثوري تسيطر على حوالي ثلثالاقتصاد الإيراني، من خلال تحكمها بالعديد من المؤسساتوالصناديق الخيرية والشركات التي تعمل في مختلفالمجالات، فهي ثالث أغنى مؤسسة في إيران، الأمر الذييمكنها من استقطاب وتجنيد الشباب ومنحهم رواتب مغرية.
وتعمل ميليشيا الحرس الثوري كجيش مواز، لديها قوات بريةوجوية وبحرية وذراع استخبارات، وتتبعها ميليشيا الباسيجالتي تقمع معارضي النظام بوحشية، ويدير الحرس الثوريأيضًا ترسانة الصواريخ الباليستية الإيرانية. كما أنه ذراعأساسية لنشر الفوضى والتخريب في المنطقة من خلال “فيلقالقدس” المسؤول عن توجيه وتدريب وتسليح القوات العسكريةوالميليشيات الموالية لطهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ مثل الحشد الشعبي، وحزب الله، والحوثيين.
● إدارة متخبطة تسابق الزمن لتمرير الاتفاق قبلانتخابات التجديد النصفي للكونجرس
ثمة تساؤل يفرض نفسه بقوة حول السر وراء عجلة الإدارةالأمريكية الحالية للتوصل لاتفاق مع إيران، فبصرف النظر عمايسوقه الخطاب الأمريكي الرسمي من ضرورة إبرام اتفاق قبلبلوغ البرنامج النووي الإيراني مدى لا يمكن إيقافه بعدها، إلاأن الدافع الرئيسي لهرولة إدارة بايدن نحو الاتفاق يعود إلىمحدد داخلي يتمثل في رغبته في تمرير الاتفاق قبل انتخاباتالتجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل، والتي تشيراستطلاعات الرأي إلى أنها ستفضي لسيطرة الجمهوريين، وهو ما قد يعطّل جهود إدارته لتمرير الاتفاق.
وكانت مجموعة من 33 عضوًا جمهوريًّا بمجلس الشيوخالأمريكي بقيادة السيناتور تيد كروز قد بعثت برسالة إلىبايدن في 8 فبراير الماضي، لإخطاره بأنهم سيعملون علىإعاقة أي اتفاق نووي جديد مع إيران إذا لم يف بالالتزاماتالقانونية التي تهدف إلى ضمان إشراف الكونجرس علىالتعديلات أو التغييرات التي طرأت على الاتفاق النووي المبرمعام 2015.
ويقول أعضاء مجلس الشيوخ إن أي اتفاق نووي مع إيرانسيعد بمثابة معاهدة دولية تتطلب مشورة وموافقة ثلثي أعضاءالمجلس (أي 66 صوتًا)، لكن بايدن يمكنه تقديم الأمرباعتباره أمرًا تنفيذيًّا يدخل إصداره ضمن صلاحياتالرئيس، وحتي في حال طرحه كمعاهدة ورفض مجلس الشيوخالتصديق عليها، يمكن لبايدن استخدام فيتو رئاسي لتمريرها، لكن الإشكالية هنا تبقى في مصير الاتفاق الذي يظل مُهددًا، إذ سيتم التخلي عنه في الأيام الأولى للإدارة الأمريكية المقبلةحال فوز الجمهوريين في السباق الرئاسي لعام 2024، وهوأمر مرجح للغاية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن قرارالولايات المتحدة المرتقب بإزالة الحرس الثوريالإيراني من لائحة التنظيمات الإرهابية الأجنبيةسيمثل مكافأة كبرى لنظام الملالي على جرائمه، ويُظهر ازدواجية صارخة في معايير تصنيفالكيانات الإرهابية، وتغليب الاعتبارات السياسيةعلى الأمنية، وسيُشكّل رسالة خاطئة تحفز إيرانعلى مزيد من السلوك التخريبي ونشر الفوضى فيالشرق الأوسط والعالم أجمع، وصعود موجة جديدةمن العنف وعدم الاستقرار مماثلة لما حدث بعد الاتفاقالنووي عام 2015.
كما أن تلك الخطوة سيكون لها ارتدادات إقليميةواسعة، سواء في صورة انعكاسات سلبية علىصعيد العلاقات بين دول المنطقة وواشنطن، التي لمتضع شواغلهم الأمنية في الاعتبار بقرارها هذا، أوعلى مسار جولات المحادثات بين إيران ودول الجوارخلال الأشهر الأخيرة.